بين الوضع الذاتي للتعليم ونمط علاقاته مع المؤسسات الاقتصادية
صلاح أبو نار -
يشكل التعليم العالي والبحث العلمي المدخلين الأساسيين لاقتحام أي مجتمع لآفاق اقتصاد المعرفة والابتكار. وثمة مداخل أخرى بالتأكيد، مثل البنية الاقتصادية ووضع القوى العاملة وحالة مؤسسات الدولة والقانون والقيم الثقافية، تحدد كيفيات وجودها مدى قدرة التعليم والبحث العلمي على تشكيل اقتصاد المعرفة والابتكار. والحاصل أن دور التعليم العالي والبحث العلمي في تشكيل اقتصاد المعرفة يمكن رصده على مستويين: مستوى الوضع الذاتي للتعليم العالي والبحث العلمي، ومستوى نمط علاقتهما بمؤسسات الإنتاج الاقتصادي والاجتماعي.
كيف تبدو أبعاد ما دعوناه بالوضع الذاتي للتعليم العالي والبحث العلمي؟
انطلقت المسيرة القوية للتعليم العالي في عمان بتأسيس جامعة السلطان قابوس عام 1986م، ولكن قبل ذلك شهدت الأعوام من 1983 إلى 1986 تأسيس أربع مؤسسات تعليمية عالية. وعندما نرصد مجالاتها ومعها الكليات الأولى لجامعة السلطان قابوس، سنلحظ سيطرة الطابع العلمي التقني عليها في مجالات الطب والهندسة والدراسات التقنية والعمل المصرفي والزراعة والاقتصاد والتجارة. وفي أعقاب ذلك سوف تتطور مؤسسات التعليم العالي على أربعة محاور: الأول التوسع العددي المقرون بالتنوع الكيفي، مع التوسع المتصل في مؤسسات التعليم العالي الحكومي والسماح بتأسيس الجامعات الخاصة من 1996م، والثاني تطور الهياكل التنظيمية العامة مع تأسيس وزارة التعليم العالي 1996، وتأسيس مجلس التعليم العالي 1989، وإنشاء الهيئة العمانية للاعتماد الأكاديمي عام 2001، أي الهيئة المختصة باعتماد الجودة الأكاديمية للمؤسسات الآخذة في التزايد، والثالث النمو المتواصل لتعمين هيئات التدريس الجامعي مع تراكم حصيلة خريجي سياسات البعثات الخارجية وبرامج الماجستير والدكتوراة في الجامعات العمانية. والرابع تراكم ونمو البنى الفوقية لمؤسسات التعليم العالي، أي المعامل والمكتبات وقواعد المعلومات الحرة والشبكات الاتصالية، وعلاقات الشراكة والتعاون مع المؤسسات العلمية الخارجية عبر المنح العلمية وزيارات الأساتذة المتبادلة والمشروعات البحثية المشتركة والمؤتمرات والدورات العلمية ، وتقاليد وأخلاقيات ومهارات العمل العلمي، وعلاقات الشراكة والتعاون مع المؤسسات الاقتصادية العمانية، ومدارس البحث العلمي المتكونة من حول الأساتذة البارزين والمشروعات البحثية الممتدة.
في العام الدراسي 2015 – 2016 كان عدد مؤسسات التعليم العالي 69 مؤسسة عامة وخاصة، بلغ عدد طلابها المقبولين 32652 طالبا وطالبة والمقيدين 135493 طالبا وطالبة والخريجين 23163 طالبا وطالبة . وتوزع الطلاب المقيدون بين 65199 طالبا وطالبة في المؤسسات الحكومية، و29470 طالبا وطالبة في الخاصة. ويتسم التكوين الداخلي لهؤلاء الطلاب بالحيوية، فهناك توازن نوعي نسبي بين الجنسين يميل لترجيح كفة الإناث، وهناك سيطرة للشرائح العمرية الشابة من شريحة أقل من 18 إلى شريحة 25 -29 عاما.
وتخضع هذه المؤسسات جميعها لنظام ضمان جودة علمية يتكون من مستويين. يتمثل الأول في الهيئة العمانية للاعتماد الأكاديمي المؤسسة عام 2001. وتمارس هذه الهيئة دورها عبر مرحلتين، تمتد المرحلة الأولى لأربع سنوات وتنتهي بتخريج أول دفعة من الطلاب، وفيها يتم قياس قدرة المؤسسة على تحقيق معايير تأسيسها التي التزمت بها. وتمتد المرحلة الثانية وتدعى مرحلة تقويم الجودة لعامين بعد المرحلة الأولى، وفيها يتم التحقق من استيفاء المؤسسة لكافة معايير الجودة التي تضعها الهيئة. واستهدف هذا المستوى تجنب مشكلة تطبيق معايير عالية المستوى على مؤسسات وليدة، وتعديل المعايير المؤسسية وتطويرها وفقا للواقع ومتطلباته، ووضع أنظمة مساندة لنظام الاعتماد المؤسسي.
ويتمثل المستوى الثاني لنظام ضمان الجودة في الشبكة العمانية للجودة في التعليم العالي. وتأسست الشبكة عام 2006 وضمت في عضويتها مؤسسات التعليم العامة والخاصة. وهي ليست جهة علمية رسمية لوضع المعايير وفرضها على المؤسسات ، بل أشبه بمنتدى علمي عام يسعى لتبادل وتعميم وتقنين خبرات الجودة والتدريب على تطبيقها، من خلال عقد الندوات الجماعية وتنظيم ورش العمل وحلقات النقاش وإتاحة فرص التواصل وتبادل الخبرات.
ولقد كان من الطبيعي أن يرافق البحث العلمي نشأة وتوسع ونضج مؤسسات التعليم الجامعي، ولكن البحث العلمي شهد قفزة نوعية وكمية مع تأسيس مجلس البحث العلمي عام 2005. استهدف تأسيس المجلس وضع استراتيجية وطنية للبحث العلمي، وتأسيس منظومة إبداعية تستجيب للمتطلبات المحلية والتوجهات العالمية، وروابط بحثية لنقل المعرفة، وبيئة بحثية محفزة. وفي سعيه لتحقيق هذه الأهداف أطلق برنامج المنح البحثية الاستراتيجية مثل برنامج الطاقة المتجددة، وبرنامج المنح البحثية المقترحة من الباحثين، وبرنامج دعم بحوث الطلاب. وأسس كرسيين للبحث العلمي: كرسي تقنية النانو في مجال تحلية المياه في جامعة السلطان قابوس، وكرسي تطبيقات علوم الموارد والمعادن بجامعة نزوى. وشرع في تأسيس عدة مراكز بحثية أهمها مركز عمان للموارد الوراثية الحيوانية والنباتية، الذي أطلق 28 برنامجا بحثيا. وعلاوة على ما سبق أطلق المجلس عدة مشروعات تأسيسية للبحث العلمي: مشروع مجمع الابتكار، وبرنامج حساب مؤشرات العلوم والتقانة، والشبكة العمانية للبحث العلمي، والمكتبة العلمية الافتراضية العمانية، ومشروع المكتبة الإلكترونية.
وفي معرض رصد مؤشرات التقدم العلمي العماني، طرحت مصادر مجلس البحث العلمي المؤشرات التالية لعامي 2007 و2011 ، والمؤشر المتوقع لعام 2020. ازداد عدد الباحثين لكل مليون نسمة من 335 في 2007 إلى 484 في 2011، ومن المتوقع وصولة إلى 3827 في 2020. وارتفعت نسبة الطلاب المتخصصين في العلوم الطبيعية إلى إجمالي المتخرجين، من 14% عام 2007 إلى 19% عام 2011، ومن المتوقع تحقيقها 40% عام 2020. وازداد عدد المنشورات العلمية لكل مليون نسمة من 47 عام 2007 إلى 113 عام 2011، ومن المتوقع وصولها إلى 728 عام 2020. وازداد عدد براءات الاختراع لكل مليون نسمة من 0,08 % عام 2007 إلى 0.55 % عام 2011 ، ومن المتوقع لها 1,34% عام 2020. وارتفعت نسبة الإنفاق الرسمي على البحث العلمي من إجمالي الناتج المحلي من 0.17% عام 2007 إلى 0,3 % في 2011، ومن المتوقع لها 2% عام 2020.
ونخرج من التحليل السابق بنتيجة مؤكدة ، وهي أن عمان تمتلك قاعدة قوية من مؤسسات التعليم الجامعي، وسياسات وبرامج للبحث العلمي كثيفة ومتنوعة أطلقها مجلس البحث العلمي، من شأنهما منحها مدخلا فعالا لبناء اقتصاد المعرفة. إلا أن هذا المدخل في حاجة ملحة لتطوير نمط علاقاته العضوية بمؤسسات الإنتاج الاجتماعي والاقتصادي، حتى تكتمل شروط كفايته الذاتية من جهة، وحتى يمتلك قدرته على الاندماج الفعال في العمليات الاقتصادية، وبالتالي الانطلاق في مسار بناء اقتصاد المعرفة.
ويمكن في هذا الصدد طرح عدة مسارات لتطوير تلك العلاقات العضوية بمؤسسات الإنتاج الاقتصادي، يتمثل المسار الأول في تجسير الفجوة الموجودة بين برامج التأهيل الجامعي واحتياجات المؤسسات الاقتصادية. فلسنا أمام فجوة واسعة، بل فجوة ليست بسيطة ومتفاوتة القوة من مجال إلى آخر، وفي النهاية يقر بوجودها الطلاب والخريجون ويشددون على تأثيرها.
وفي «استطلاع رأي الطلبة حول جودة التعليم في الجامعات والكليات الخاصة» ، الذي أجراه المركز الوطني للإحصاء والمعلومات ونشره في فبراير 2016، سنجد مؤشرات لافتة. تخبرنا أرقام المؤشر العام لرضا طلاب العينة عن جودة العملية التعليمية، أنهم راضون بنسبة 56% عن الهيئة التدريسية، وبنسبة 55% عن جودة المرافق الخدامات، وبنسبة 53% عن جودة التعليم والأنشطة، وبنسبة 48% عن جودة آليات التقييم والتواصل. ولقد بلغت قيمة المؤشر العام للرضا 48%، وكانت نسبة رضا طلاب الدراسات الاجتماعية والأدبية 51%، ونسبة رضا طلاب الدراسات الهندسية والتقنية 47% ، والدراسات الطبيعية والطبية 42%.
وسنجد المسار الثاني في دفع القطاع الخاص صوب تكثيف وتنمية اهتمامه بالبحث العلمي والابتكار. وتخبرنا دراسة « استعراض سياسات العلوم والتكنولوجيا والابتكار. عمان»، التي نشرها مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الاونكتاد) عام 2014 ، وتولي باحثة جمع مادتها الميدانية في 2013 ، وباستثناء شركة تنمية نفط عمان ذات الاهتمام القوي بالبحث العلمي والابتكار، تتسم الشركات العمانية وبالتحديد القطاع الخاص العماني بضعف بل وغياب الاهتمام بالبحث العلمي والابتكار. وتذكر في هذا الصدد إحدى شركات القطاع الخاص الضخمة، التي يصل عدد العاملين فيها إلى 20,000 من ضمنهم 600 مهندس، ومع ذلك لا يوجد بها أي نشاط أساسي للبحث والابتكار. وتضيف أن طلب هذا القطاع على منتجات البحث والابتكار ضعيف، وتفضل شركاته أن تقوم باستيرادها بدلا من تطويرها. ونوهت الدراسة نفسها بالطابع الخاص والمحافظ لهذا القطاع، حيث تفضل قياداته الإدارة الهرمية وليس القيادة من خلال الابتكار وتشجيع المبادرات، ويتبع بصفه عامة استراتيجية نمو تقوم على رد الفعل وليس المبادرة والابتكار.
وسنجد المسار الثالث في تطوير الجهود الرامية إلى تعمين قوة العمل داخل الاقتصاد العماني. وتتسم هذه القوة بهيمنة قوة العمل الوافدة. وفقا لأرقام المركز القومي للإحصاء والمعلومات، وصل عدد الوافدين عام 2013 إلى 1,638,204 وهو ما يشكل 43,7% من سكان عمان. جاء 95% منهم من أصول آسيوية، والغالبية العظمى منهم في سن الشباب، ويعمل 90% منهم في القطاع الخاص. وأخطر ما في هذا الأيدي العاملة أنها متدنية المهارة، فأكثر من ربعهم دون مؤهل و45% منهم تعليمهم دون الثانوية العامة، و10% فقط مؤهلاتهم جامعية. ومن المؤكد أن جزءا ليس هامشيا من هذه الأيدي فرضتها ضرورات التنمية السريعة، حيث يعمل 44,4% منهم في قطاع الإنشاءات. ولكن تدني أجور هذه الأيدي وسهولة التخلص منها، أوجد توسعا في الطلب عليها اكبر من الاحتياجات الفعلية. ولكن الأخطر أن وجودها بهذا الحجم، صنع بيئة غير مواتية لنمو الأيدي العمانية في القطاع الخاص وغير مشجعة للطلب على البحث والابتكار.