Ahmed-New
Ahmed-New
أعمدة

نوافذ: قـد تجـد مـن يحـنـو عـلـيـك

06 سبتمبر 2019
06 سبتمبر 2019

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

انتشرت عبر صفحة وسيلة التواصل الـ «واتس أب» صورة لـ (لبوة) تحمل وليدها بين فكيها؛ ويبدو في الصورة مبتسما؛ وقد رافق الصورة التعليق التالي: «هل ترى كيف غرست نابها في جسده؟ ومع ذلك يضحك. لو لم تكن أمه، لكان الوضع مختلفا جدا، لتبدلت الضحكة بالموت من الخوف، يضحك لأنه يعرف أن أمه تمسكه بقلبها؛ لا بفمها».

وختمت الفقرة بـ «قد تجد من يحنو بناب.. ومن يجرح بلسان».

آه؛ ما أقسى اللسان، وما جراحات الأمة بأفرادها إلا من حصائد الألسنة، هذا يقول، وهذه تقول، وهؤلاء يقولون، وتتهاوى العلاقات، وتكثر المصائب، وتتقيح الجروح، ولا يزال هذا المارد «اللسان» مستلا سيفه نحو مزيد من المصائب، والمهالك، ولا يزال الإنسان بكل ثقله مستسلما له، ولا تزال القافلة تسير، في حالة من اللاوعي؛ بهذه المصائب كلها.

لقد قيل: «الكلمات تشبه المفاتيح إذا استخدمتها بشكل صحيح تغلق بها فما أو تفتح بها قلبا» وهذه الكلمات وسيلتها اللسان، وإن جاش بها القلب، وتمخضت بها النفس عبر جنباتها، وهي نتاج مجموعة من التجاذبات، والتصدعات، التي تتوالى علينا طوال فترة مكوثنا أحياء ما بين زمني الليل والنهار، وعلينا أن نتلقى كل المآزق الناشئة في تضادياتها المختلفة، بين الصدق والكذب، وبين الإخلاص والخيانة، وبين الصراحة والنفاق، وبين الحيادية والانحياز، فما بين كل هذه الصور المعاشة في اليوم والليلة؛ هناك أنفس تتضور ألما، وكما قيل: «لا تظننا رقصي بينكم طربا؛ فالطير يرقص مذبوحا من الألم» وألم اللسان أشدها قسوة وضراوة، فـ «أمسك عليك هذا» كما جاء في نص الحديث الحاث على صون اللسان، فالتحذير لم يأت هكذا مصادفة، وإنما لخطورة هذا العضو في قلب موازين العلاقات، وموازين المحددات، وموازين الاتفاقات، وموازين العهود والمواثيق.

ليس يسيرا أن يجد هذا (الناب) الحاد مساحة حنان، يحن عليك «حنو المرضعات على الفطيم» حيث يحتاج إلى أنفس صادقة وأمينة، يتسع حنانها كلما أوغلت في الإساءة إلى نفسك أكثر، طبعا في دنيا الناس، لن تجد ذلك إلا في حضن أمك، فيا حظ من لا تزال أمه باقية، لكي تغطيه بهذه العباءة الإنسانية المفقودة عند كل البشر، إلا الأم، ولذلك تعجب عندما تسمع أن هناك من يسيئون إلى أمهاتهم، ونسوا ذلك الفضاء الإنساني الجميل الذي احتواهم كل سنوات عمرهم حتى بلغوا من العمر عتيا، حيث تركوها تعاني هرمها، ووحدتها، وآلامها، ومصائب أسقامها، وتردداتها إلى مشاف بعيدة أو قريبة، وانتصروا فقط لحيواتهم المعنونة بصورها الاحتفالية الزاهية، ولا يستبعد أن استسلموا لهذا المارد «اللسان» في تغيير بوصلة اتجاهاتهم المختلفة، فهذه الـ «عجوز» لم تعد تعي ما تقول، وسلطة لسانها تتقاطع مع مناصبهم، ووجاهاتهم، ومراكزهم، و«برستيجاتهم» وكل صورهم المضاءة بموسيقاها الصاخبة.

«زلة لسان» قاب قوسين أو أدنى من الهلاك المحقق، حيث لها أن تمسح كل تاريخك الإنساني الجميل فـ «بمجرد أن تخطئ ينسى الجميع أنك كنت رائعا وأنهم كانوا يصفقون لك يوما ما»- كما يقول أحدهم - ولكنها للأسف لا تمسح تأريخك المحمل بالمآسي، والشظايا التي أرسلتها إلى الأطراف المختلفة المتلقين لرسائلك القاسية، بل تضاعف من الإساءة والألم على الذين اكتووا في يوم من الأيام بزلة لسانك.

أختم هنا بمقولة متداولة عن المفكر والشاعر الإنجليزي شكسبير عندما قال: «يرضع الطفل من أمه حتى يشبع، ويقرأ على ضوء عينيها حتى يتعلم القراءة والكتابة، ويأخذ من نقودها ليشتري أي شيء يحتاجه، ويسبب لها القلق والخوف حتى يتخرج من الجامعة، وعندما يصبح رجلا، يضع ساقا فوق ساق في أحد مقاهي المثقفين، ويعقد مؤتمراً صحفيا يقول فيه: إن المرأة بنصف عقل !!... تبا لسطحية سكنت عقول البشر».