أفكار وآراء

جرين لاند .. واستراتيجيات الحروب البحرية

06 سبتمبر 2019
06 سبتمبر 2019

إميل أمين/ كاتب مصري -

[email protected] -

حين كانت الحرب العالمية الثانية تقترب من نهايتها، وقتها بدا جليا أن بريطانيا لم تفقد مكانتها كقطب دولي أوروبي كبير، وامبراطورية لا تغيب عنها الشمس، إلا بعد أن بدأت سيطرتها على أعالي البحار تتقلص، وبدأت القوة البحرية الأمريكية والسوفييتية تتصارعان وتتنازعان السيطرة على البحار والمحيطات حول العالم.

عبر سبعة عقود خيل للبعض أن ريادة الإنسان للفضاء، وبرامج استعماره، عطفا على الصواريخ بعيدة المدى والمتوسطة والقصيرة، قد اختصمت كثيرا جدا من الرصيد الاستراتيجي للمياه ومن يسيطر على التجوال فيها، غير انه لاحقا يتبين لنا أن هذا كان طرح غير سديد، وأن من يسيطر على البحار يستطيع أن يفرض إرادته بقوة على القرار الدولي.

في الأعوام الأخيرة تراء للعالم أن هناك سباقا بحريا جديدا قد اشتعل بين الأقطاب التقليدية كموسكو وواشنطن من جهة، وبين القوى الصاعدة مثل الصين من جهة ثانية.

موسكو التي تعرضت لحالة من الامتهان الأخلاقي والمادي بصورة غير مسبوقة من الغرب بعد زمن جورباتشوف، هي التي بث فيها بوتين روح القياصرة العظام، ولهذا رأينا قطع الأسطول القديم يعاد تجديدها لتكون صالحة للحركة في المياه الدولية، وقد وصلت بعض قطعها بالفعل إلى المياه الإقليمية لبعض دول أمريكا اللاتينية.

فيما الصين تقوم ببناء حاملات طائرات وقطع بحرية حربية مختلفة الأشكال لتحافظ على حضورها وقوتها القادمة لا محالة، وهي في كل الأحوال تدرك أن معركة مع القوات البحرية الأمريكية يمكن أن تنشب في بحر الصين الجنوبي في أي وقت.

أما الولايات المتحدة الأمريكية فالمتابع لتطورات المشهد البحري هناك، يرى أن عملية تبديل وإحلال تجري بسرعة كبيرة، وأن كثيرا من قطع الأسطولين الخامس والسادس يعاد بناءهما بأدوات ومحركات عصرية، تجعل الهيمنة على البحار مرة أخرى مسألة في صلب استراتيجيات الحروب الأمريكية في القرن الحادي والعشرين.

ما الذي يدفعنا إلى إعادة فتح هذا الملف الحيوي مرة جديدة هذه الأيام؟

المؤكد أن الكثيرين منا قد وصل إلى آذانهم لفظة (جرينلاند)، والتي اكتسبت زخما ونقاشا كبيرين في الشهر الأخير، فماذا عن الاسم وما هي الإشكالية التي تربطه بأحاديث الاستراتيجيات البحرية في عالمنا المعاصر؟

تعد جرينلاند أكبر جزيرة في العالم بعد استراليا، وتعتبر قارة بحد ذاتها، وهي إقليم دنماركي مستقل، يقع بين شمال المحيط الأطلسي والمحيط القطبي الشمالي، وتبلغ مساحتها 2 ملايين كيلومتر مربع، وتتمتع بالحكم الذاتي في ظل السيادة الدنماركية ولها حكومتها وبرلمانها، ويبلغ عدد سكانها نحو 56 ألف شخص يتركزون حول الساحل.

والشاهد أن جرينلاند قد تردد اسمها الأعوام القليلة الماضية بسبب المخاوف المرتبطة بذوبان الثلوج، من جراء ظاهرة الاحتباس الحراري، ومعروف أن الثلوج تغطي اكثر من 80 % من مساحة الجزيرة، وقد زاد ذوبان الثلوج هناك من أمر مهم للغاية وهو المقدرة على إمكانية الوصول إلى الثروات الطبيعية الكامنة تحت أراضي تلك المنطقة الشاسعة.

لكن الواقع هو انه ليس قصة ذوبان الثلوج هو ما لفت النظر إلى جزيرة جرينلاند، بل الفكرة التي طرحها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بخصوص شراء الولايات المتحدة الأمريكية الجزيرة من دولة الدنمارك.

السؤال الأولى الذي يتبادر إلى الأذهان هل غير الرئيس ترامب نوع نشاطه من تاجر عقارات وصاحب صفقات تتصل بالمنازل إلى تاجر جزر حول العالم؟ السؤال بالفعل كما وصفته بعض الأوساط الأمريكية تهكمي بالدرجة الأولى، لكنه يميط اللثام عن قضية مثيرة تتعلق بالموقع والموضع، لا سيما وان الولايات المتحدة الأمريكية لديها من المساحات الشاسعة الكثير جدا القريب من القطب الشمالي وبخاصة في آلاسكا، وجرينلاند بها إشكاليات عديدة، فتراجع الجليد ربما يكشف عن نفايات نووية سامة تركت في عدة مواقع عسكرية أمريكية خلال الحرب الباردة، كما أن واشنطن ليست في حاجة إلى المزيد من الموارد الطبيعية مثل الفحم والزنك والنحاس، وخام الحديد، حيث أراضيها القارية مليئة بكل أنواع وأصناف هذه المعادن... هل يعود بنا السبب الحقيقي إذن إلى قصة مغايرة تتقاطع والحديث عن عودة الأهمية الاستراتيجية لحروب البحار، وبخاصة أنها جزيرة غير مربحة من المنظور الاقتصادي لترامب، فهي تعتمد في تمويل ثلثي ميزانيتها على الدنمارك، كما أنها تعاني من معدلات عالية من الانتحار وإدمان الكحول والبطالة؟

الشاهد أن السر يقبع في دائرة الأمن القومي الأمريكي، والأمر مرده الحقيقي عودة الصراع بين واشنطن وموسكو، وبدرجة عالية من درجات المواجهة الساخنة، والتي تكاد تتجاوز ما عرفه الجانبان في زمن الحرب الباردة، وبالطبع مع الأخذ في عين الاعتبار صعود بكين ومحاولاتها الخاصة بالامتداد خارج نطاقها الإقليمي.

في هذا السياق كان شخصان مطلعان على المفاوضات التي حاول ترامب أن يجريها مع الدنمارك قبل أن تغلق رئيسة وزرائها الباب بصفعة قوية في وجه سيد البيت الأبيض يصرحان لصحيفة النيويورك تايمز الأمريكية ذائعة الصيت بالقول: إن ترامب يريد شراء الجزيرة لأهميتها بالنسبة للأمن القومي الأمريكي، ويؤكدان على أن واشنطن لطالما رأت في جرينلاند موقعا وموضعا استراتيجيين، الأمر الذي جعلها في بدايات المواجهة مع الجانب السوفييتي تنشئ قاعدة جوية ومحطة رادار. ولعل المثير في المشهد أن يجد ترامب أصواتا أمريكية من الجمهوريين مثل النائب الجمهوري (مايك جالاجر)، تؤيده في مسعاه هذا، وترى أنها خطوة جيوسياسية ذكية، وان الولايات الولايات المتحدة الأمريكية لديها حاجة ملحة لان تكون الجزيرة ملكا لها وتحت إدارتها.

يعن لنا أن نتساءل في واقع الأمر: هل فكرة شراء الجزيرة من الدنمارك هي من بنات أفكار ترامب صانع العقارات، أم أنها الدولة الأمريكية العميقة، تلك التي تدرك احتياجات أمريكا الجوهرية من اجل بقاء سطوتها ممتدة طوال المائة عام الحالية، أي إدراك أهداف وثيقة القرن الأمريكي بجعل القرن الحادي والعشرين قرنا أمريكيا بامتياز هي من طرح الفكرة وتسعى إلى إتمامها؟

تدهشنا صفحات التاريخ الأمريكي، التي تخبرنا أن فكرة شراء جرينلاند قد طرحت للمرة الأولى في ستينات القرن التاسع عشر في عهد الرئيس اندرو جونسون، وان لم يحدث تحرك رسمي حتى عام 1946 عندما عرض الرئيس الأمريكي هاري ترومان على الدنمارك مائة مليون دولار، مقابل الجزيرة، وكان قد عرض في وقت سابق مقايضة أراض في الاسكا مع مناطق استراتيجية في جرينلاند.

وجدت رغبة ترامب رفضا واضحا من رئيسة وزراء الدنمارك والتي وصفت الفكرة بانها سخيفة، الأمر الذي أدى إلى أن يقوم ترامب بإلغاء زيارة كانت مقررة للدنمارك، وقد وصف رد فعل رئيسة وزراء الدنمارك بانه بغيض، على الرغم من أن الدنمارك كانت عادة من الدول الأوربية الأولى التي تسارع إلى المشاركة في الطلبات الأمريكية التي تسعى للحصول على دعم عسكري، وبخاصة في الألفية الجديدة، حيث ساهمت الدنمارك في غالبية حروب واشنطن في الشرق الأوسط وأفغانستان.

والثابت لمن لا علم لديهم أن الدنمارك تمتلك قوة بحرية قوية، ولديهم تاريخ مثير مع البحر وأحواض السفن، وبحسب الكاتبة الصحفية لارا سليغمان عبر مقالها في احد أعداد مجلة الفورين بوليسي الأمريكية الأخيرة، فان الدنمارك كانت من الدول التي شاركت في المعارك الأساسية التي خاضتها الولايات المتحدة في العقود الثلاثة الأخيرة، بما في ذلك عملية الناتو في ليبيا وحربي العراق وأفغانستان.

كما أن الدنمارك سارعت إلى إرسال سفنها جنوبا في حرب الخليج الأولى، والدنماركيون قدموا مساهمات مهمة للجهود الأمريكية لمواجهة القرصنة قبالة السواحل الصومالية بدءا من عام 2008، من ضمن ائتلاف بحري يشبه الائتلاف الذي تسعى أمريكا إلى إقامته اليوم.

وفي الوقت نفسه للدنمارك مصلحة أساسية في حماية الملاحة في الخليج، وكونها تملك اكبر الصناعات البحرية في العالم، فان الشركات الدانماركية تصدر عشرة في المائة من التجارة العالمية. ما الذي يجعل البحر وجرينلاند والسيطرة عليها مسألة غير قابلة للنقاش أو التفاوض مع الجانب الأمريكي؟

عند البروفيسور الفرنسي مارتن موت، أن البحر يمثل مصادر القوى الرئيسية الأربعة: فالبحر هو الحاجز الذي يفصل بين الأراضي ولديه مهمة دفاعية. وكما أن البحر يمثل حلقة الوصل بين الأراضي، فقد يكون على العكس من ذلك طريقا للغزو، وللسبب نفسه يمنح السفن القدرة على تحميل أقصى قدر من المنتجات بأقل تكلفة مادية، وتعتبر السفن الناقل التجاري الرئيسي في العالم.

تستوقفنا عبارة أن البحر يمكن أن يكون طريقا للغزو هذه، لا سيما وان منطقة القطب الشمالي باتت محل صراعات يمكن أن تقود إلى مواجهات عسكرية مسلحة في الأعوام القادمة أن استمر التصعيد على هذا النحو.

استراتيجيات الحروب عبر البحار مسألة تنبه لها الجانب الروسي بقوة الأيام الماضية، وهذا ما كتبه سيرغي مانوكوف في صحيفة سفوبودنايا بريسا، عن الفوائد التي تجنيها الولايات المتحدة من امتلاك جزيرة جرينلاند الدنماركية، فيما لو تمت الصفقة، والذي يرى أن صراع القوى العالمية من اجل الهيمنة في القطب الشمالي يشتد، فيما أثير حول شراء الولايات المتحدة المحتمل لجزيرة جرينلاند الدنماركية ليس سوى حلقة من حلقات المعركة القادمة.

أما نائب مدير معهد الجغرافيا التابع للأكاديمية الروسية للعلوم اركادي تيشكوف، فيذهب إلى أن امتلاك الولايات المتحدة جرينلاند إذا ما حدث سيعزز بلا شك الموقف الأمريكي في منطقة القطب الشمالي، وان أي تغيرات في تبعية أراضي القطب الشمالي ومياهه ستؤثر على توازن القوى الدولية في المنطقة. يحتاج الجواب عن سؤال: ما الذي يجري في القطب الشمالي؟ إلى مقال قائم بذاته، غير انه وباختصار غير مخل تسمح الجزيرة لمالكها بالتأثير في نظام الملاحة في المنطقة، فتتيح التأثير المتزامن في القطاع الأطلسي والممر الشمالي الغربي، وهي على الرغم من عدم استخدامها الآن، يمكن أن تستخدم مستقبلا، بفعل الاحتباس الحراري، مثلها مثل طريق بحر الشمال الروسي.

عطفا على ما تقدم فان نجاح الرئيس ترامب في شراء جرينلاند يؤدي إلى تقليل المسافة بين الولايات المتحدة ودول مجلس القطب الشمالي، ما يجعل أمريكا جغرافيا قريبة من ايسلندا والدول الاسكندنافية وروسيا، وبفضل ألاسكا وجرينلاند، ستتمكن الولايات المتحدة من الضغط على الجميع في القطب الشمالي، ومن هناك سيكون وصول الأمريكيين إلى روسيا وسيبيريا أقصر وأيسر. هل هي عودة لزمن الحروب البحرية الاستراتيجية من أجل تعظيم النواحي الاستراتيجية والعسكرية والاقتصادية واللوجستية بالنسبة للأقطاب الدولية الكبرى؟