أفكار وآراء

أمريكا ..رؤية كارتر واستشرافات زكريا

30 أغسطس 2019
30 أغسطس 2019

إميل أمين/ كاتب مصري -

[email protected] -

بدأ الكاتب والمنظر السياسي الأمريكي الشهير فريد زكريا يطرح تساؤلات صادمة عن قوة أمريكا ، وهل دمر الأمريكيون قوتهم الذاتية وأضاعوا بالفعل لحظة القطبية المنفردة في نهايات التسعينات؟

لاتزال الولايات المتحدة الأمريكية مالئة الدنيا وشاغلة الناس ، إلى درجة أن فنان الكاريكاتير الأوروبي غداة قمة السبع الكبار الأخيرة في فرنسا ، شبه أعضاء اللقاء بفريق كرة القدم ، وبجانبهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مختطفا الكرة الأرضية ومدعيا أنها ملكه هو فقط ، أي أنه الآمر والناهي فيها ومن غير أن ينازعه على سطوتها أي شخص آخر حول الكوكب .

المشهد الكاريكاتيري يحمل ضمن مضامينه الكثير من التساؤلات السياسية حول المشروع السياسي الأمريكي ، ذاك الذي قام عليه الرئيس ترامب حتى الساعة ، أي أمريكا القومية المتفردة ، أمريكا الاستثنائية أبدا ودوما ، وهي لهجة في واقع الحال يختلف فيها معه الكثير من المراقبين حول العالم ، سواء من داخل أمريكا أو من خارجها .

هذه السطور محاولة لاستشراف كيف يرى الأمريكيون حال ومآل بلادهم والعالم على مشارف العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين ، وهل ستبقى حظوظ أمريكا كما كانت في منتصف القرن العشرين أم انها ستتغير . على انه قبل المضي في التحليل ربما ينبغي الإشارة إلى ان أمريكا عاشت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية أي عام 1945 وحتى الساعة فترة مد امبراطوري غير مسبوق ، ولا نغالي إن قلنا انها تجاوزت الامبراطورية الأمريكية في قوتها ومنعتها ، وانها ذهبت في اختراعاتها ومنتجاتها ، ووسائل القوة المسلحة ، عطفا على المساهمة الاقتصادية في موازين العالم ، حدا لم تبلغه قوة أخرى حول العالم في التاريخ المعاصر او البعيد .

دخلت الولايات المتحدة الأمريكية سباقات عديدة لا سيما المسلحة منها ، وخرجت منتصرة بقوة ، وفي مقدمة تلك السباقات يجيء السباق المسلح مع الاتحاد السوفييتي طوال أربعة عقود خلال الفترة التي عرفت بالحرب الباردة ، وفيما وقعت القوة الشيوعية في براثن الفخ الرأسمالي الأمريكي ، راكمت واشنطن رؤوس الأموال وصارت بالفعل السيد في ميادين العالم الاقتصادي ، ويكفي الزائر لواشنطن العاصمة الأمريكية الأشهر ان يرى بأم عينه وعلى مقربة من البيت الأبيض مقر البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ، وكلاهما أضحيا السيدين في عوالم المال والاقتصاد حول العالم .

لكن هذه الرؤية هناك من يخالفها اليوم في الداخل الأمريكي وبقوة ، وفي مقدمة السياسيين الكبار والرؤساء السابقين يأتي الرئيس الأمريكي «جيمي كارتر» ، الرئيس الطيب الذي لا يزال الأمريكيون يعتبرون انه أحد أضعف رؤساء أمريكا في القرن العشرين ، والذي وصفه المؤرخ البريطاني الكبير «نايجل هاملتون»، في كتابه الشهير «القياصرة الأمريكيون» بأنه الرئيس الذي انتقد في البداية واحترم في النهاية ، مهزلة الجميع بداية ومحط احترامهم لاحقا .

لم يعتبر الأمريكيون كارتر رئيسا مغوارا ذلك لأنهم ألفوا أن كل رئيس أمريكي لابد له من حرب خاصته ، يظهر فيها فحولته السياسية ، عبر ميادين ضرب النار ، حتى وان كلف ذلك خزانة بلاده مليارات الدولارات وحرم الأطفال والفقراء منها .

يعد الصراع الصيني الأمريكي في الوقت الراهن أحد التحديات الرئيسية التي تقابل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرجل منذ حملته الانتخابية لم يتوان عن رصد ما يراه محاولات صينية مستمرة ومستقرة للانتقاص من دور ومكانة أمريكا حول العالم ، ويرى ان الصينيين يخدعون الأمريكيين عبر التلاعب بالعملة، ومن خلال سرقة اخر الاختراعات الأمريكية العلمية والعسكرية على حد سواء ، ومن هذا المنطلق يعلن ترامب حروبه التجارية على الصين ، وإن كانت في واقع الأمر حروبا مكلفة ليس للأمريكيين ولا للصينيين فحسب ، بل لعموم الاقتصاد العالمي ، الأمر الذي ينذر ويحذر منه الكثيرون من المراقبين الذين يرون أن حربا تجارية قائمة وقادمة ، بين واشنطن وبكين قد تدخل العالم في ضائقة مالية ، وأزمة من الركود والتضخم القاتلين ، ومعهما يصعب الفكاك ، ذلك أن الاقتصادين الأمريكي والصيني هما أكبر اقتصادين حول العالم حتى الساعة .

والثابت أنه حتى وقت قريب كانت الصين أكبر حائزي سندات الخزانة الأمريكية ، وبمبالغ تفوق التريليوني دولار ، غير أن الصينيين وخلال العام الفائت تحديدا ، قرروا التخلي عن الكثير من تلك السندات ، بسبب الشكوك الكبرى في أن يمضي الاقتصاد الأمريكي الى المزيد من القوة والمنعة ، بل العكس إذ يتنبأ الكثيرون بأن الاقتصاد الأمريكي سوف يلاقي عقبات تحد من نموه .

للصينيين دالة على الحكمة الكونفوشيوسية ، وهو أمر لا يدركه الرئيس ترامب ، فدالته على الصفقات العقارية وليس أكثر ، ولا يدري انه كلما امتد نفوذ دولة ما خارج أراضيها تعين عليها ان تختصم من قوة اقتصادها الداخلي لصالح ما يسمى فرط امتدادها الامبراطوري من جديد .

مؤخرا أعلن كارتر انه أرسل لترامب رسالة اطلعه فيها على تجربته في التعامل مع الصين ، مشيرا إلى ان أمريكا وخلال العقود الأخيرة انفقت تريليونات الدولارات على الحروب ، بينما استثمرت الصين في مشاريع مثل السكك الحديدية فائقة السرعة التي تعود بالنفع على شعبها .

كارتر في رسالته تلك لفت الى ان ترامب رد على رسالته من خلال الاتصال به على خط خاص ، وأخبره بصراحة شديدة أن الصينيين كانوا يتقدمون على الولايات المتحدة في نواح كثيرة .

هل سيغير الرئيس ترامب مسار تعامله مع الصين والصينيين ام انه سيظل على عهد الصراع باق ؟ الجواب قد لا يكون من اليسير ادراكه اليوم أو غدا ، لكنه حكما لن ينتهي هذا العقد الا وستحسم هذه المسألة بطريقة أو بأخرى ، غير انه يمكن القطع في كل الأحوال بأن الصين قد قضمت جزءا بالغا من الكعكة الأمريكية ..كيف ذلك ؟

باختصار غير مخل ، نجح الصينيون في أن يهددوا امريكا بالردع النقدي وليس النووي ، ومن جهة ثانية فإنهم سخروا رؤوس الأموال وفوائضها التي توافرت لهم في العقدين الأخيرين وبعد النجاحات الكبرى التي حققوها من تجارتهم مع العالم في تقديم القروض الميسرة لبقية دول العالم النامي ، والآن ها هم يخترقون اوروبا عينها بملياراتهم ، إلى الدرجة التي تبدو فيها دول أوروبا متنازعة مع ايطاليا من جراء شراكاتها مع الصين ، وتعتبر بروكسل إيطاليا كعب اخيل الصيني بالنسبة للجسد الأوروبي . الصين تقدم القروض للعالم شرقا وغربا من دون أن تربط الأمر بحقوق الإنسان أو قضايا الدمقرطة وما الى ذلك من أفكار يوتيوبية ، كما تفعل الولايات المتحدة ، ما يجعلها محبوبة ومرغوبة من مشارق الأرض الى مغاربها .

هل لهذا بدأ الكاتب والمنظر السياسي الأمريكي الشهير فريد زكريا يطرح تساؤلات صادمة عن قوة أمريكا ، وهل دمر الأمريكيون قوتهم الذاتية وأضاعوا بالفعل لحظة القطبية المنفردة في نهايات التسعينات؟ الشاهد أن الرئيس جورج بوش الأب الذي انتهى العالم الثنائي القطبية على يديه ، أعلن ان نظاما عالميا جديدا قد ولد ، وانه نظام احادي القطبية ، فيه تنفرد أمريكا بمقدرات العالم ويصعب أن يشاركها أحد في قيادتها أو ريادتها.

غير ان هذه القطبية الاحادية لم يكن لها أن تستمر طويلا ولم يمض عقدان من الزمن الا واستمعنا الى كبار المنظرين للسياسة الأمريكية مثل ريتشارد هاس يتحدث عن عالم متعدد الأقطاب ، يشارك فيه آخرون امريكا تسيد العالم.

يتساءل فريد زكريا : ما الذي أدى الى تآكل الهيمنة الأمريكية ، هل صعود منافسين جدد ام توسع امبراطوري؟

وعنده أنه كما هو الحال مع أي ظاهرة تاريخية كبيرة ومعقدة ، ربما كان كل ما سبق . كان نهوض الصين أحد التحولات التكتونية في الحياة الدولية التي كانت ستؤدي إلى تآكل قوة أي هيمنة لا نظير لها ، بغض النظر عن مهارتها في دبلوماسيتها.

لكن عودة روسيا كانت قضية أكثر تعقيدا . من السهل ان ننسى الآن . ولكن في أوائل التسعينات ، كان القادة في موسكو مصممين على تحويل بلادهم الى ديمقراطية ليبرالية وأمة أوروبية وحليف للغرب .

يدلل فريد زكريا على صدقية كلامه بالإشارة إلى ان ادوارد شيفرنادزه ، الذي كان وزيرا للخارجية خلال السنوات الأخيرة من عمر الاتحاد السوفييتي ، كان مساندا للحرب الأمريكية ضد العراق في الفترة من 1990-1991 ، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي كان أول وزير خارجية روسي ، اندريه كوزيريف ، ليبراليا أكثر تحمسا وأمميا وداعما قويا لحقوق الإنسان .

ما الخطأ الذي ارتكبته الولايات المتحدة في تلك الفترة وجعل القراءة تسير في المعكوس لاحقا لا سيما من قبل صحوة روسيا المجابهة للنفوذ الأمريكي الأحادي ؟

يرى زكريا أن أكبر خطأ ارتكبته أمريكا خلال لحظة أحادية القطب هو التوقف عن الاهتمام ...ماذا يعني ذلك ؟

يعني أن الأمريكيين أرادوا العودة الى ديارهم ، وقد فعلوا ذلك بالفعل ، خلال الحرب الباردة ، ظلت الولايات المتحدة مهتمة بشدة بالأحداث في أمريكا الوسطى ، وجنوب شرق آسيا ، ومضيق تايوان ، وحتى انجولا ونامبيا.

غير انه بحلول منتصف التسعينات ، فقدت واشنطن كل الاهتمام في العالم ، لم يكن لدى الكونجرس اثناء إدارة جورج بوش الأب شهية لجهد طموح لتحويل روسيا ، ولا مصلحة في طرح نسخة جديدة من خطة مارشال أو الانخراط بعمق في البلاد .

وحتى في خضم الأزمات الاقتصادية الخارجية التي عانت منها ادارة كلينتون كان على صانعي السياسة في الولايات المتحدة أن يتدافعوا ويرتجلوا ، مع العلم ان الكونجرس لم يكن ليخصص أي أموال لإنقاذ المكسيك او تايلاند أو اندونيسيا .

هل يمكن القول إن أمريكا لم يكن لديها سيناريو لليوم الثاني ؟

هذا السؤال طرحه ايضا ذات مرة توماس فريدمان عراب العولمة الأشهر وكاتب النيويورك تايمز الشهير ، والذي أشار الى أن أمريكا خاضت الكثير من المغامرات بدون أن يكون لديها أدنى رؤية لليوم التالي وما سيجري فيه ، وكيف ستلاقي واشنطن تحديات ظهور قوى جديدة على سطح الكرة الأرضية .

يربط زكريا بين تآكل النفوذ الأمريكي وبين الأخطاء التي تصل إلى حد الخطايا والمتشابهة في سيرة ومسيرة القوى العظمى وآخرها المملكة المتحدة ، وفي مقدمة تلك الأخطاء التغطرس والإكراه .

كانت أمريكا عظيمة عندما كانت رائدة بأفكارها ، ويرى زكريا ان غروب شمس الأفكار الأمريكية سيكون إيذانا بأفول امبراطوريتها .. فانظر ماذا ترى ؟