أفكار وآراء

الهويات المتنافية.. العروبة الســياسية نموذجاً

28 أغسطس 2019
28 أغسطس 2019

محمد جميل أحمد -

من أهم إشكاليات الوعي الأيديولوجي، بما أنه وعي مزيف تمثيلاته التي تكمن في خارج وحدات التفكير العقلي، بحسب ليو ألتو سير، أي في ذلك الحماس الذي يتم تعميمه عبر هتافات ذات طابع سياسي يكون الزخم الجماعي الحماسي والتخييلي هو فقط شرط تسويغها للجماهير، فيما تتأولها هذه الأخيرة بتأويلات يقينية تصبح معها المقولات الأيديولوجية كما لو أنها حقائق!

هكذا، يمكن القول إن انفكاك خطاب الأيديولوجيا عن التفكير المنطقي في القدرة على تمثل واقع العالم الحديث (كما هو لا كما نتمناه) أصبح في المنطقة العربية أحد مخلفات التفكير المعيق عن رؤية العالم وعن الوعي به في حدود ما هو عليه.

وإذا كان خطاب الإسلاموية اليوم، بعد فشله الذريع وتناقضاته الأصلية مع منطق العالم الحديث، قد بدا واضحاً؛ فإن هناك حتى اليوم من يرى إمكانية حقيقية لمبدأ غامض سياسياً كمفهوم «العروبة السياسية» وإن كان يمكن تمثله ثقافياً.

إن شرط العروبة في السياسة لا يكاد اليوم يعني شيئاً محسوساً، فضلا عن أنه، إذا ما نظرنا إليه حتى في إطار الهوية الوطنية العربية، قد لا يكون مستوفياً معناه في قابليته لأن يكون شرطاً حصرياً لتعريف الجماعة الوطنية في كثير من البلدان العربية، بمعزل عن تأويله كمفهوم ثقافي.

وبالرغم من أن هذه القناعة العقلانية البسيطة في تفسير المعنى العدمي لمبدأ العروبة السياسية إلا أن هناك حتى اليوم؛ من يؤمن بهذا المفهوم للعروبة السياسية كما لو أنه حقيقة لا تقبل الجدل.

بطبيعة الحال، حين نفرِّق بين مفهومين للعروبة سياسي وثقافي، لا ننفي حقيقة متصلة بأصل المفهوم، بقدر ما نحاول أن ننفي عنه تأويلاً غير واقعي تقتضي تمثُّلاته -في حال الإيمان به وفق أيدلوجيا سياسية- أن يكون شرطاً عدمياً، كشيك بلا رصيد، في العالم الواقعي الذي نعيش فيه، وهو عالم تحكمه نظم إدراك شكلتها الحداثة السياسية للعالم الحديث.

ولربما هي مفارقة بادية للعيان؛ أن تكون الحال العربية اليوم في تمثيلاتها وفق مبدأ العروبة السياسية، تعبيراً يكاد يخلو من أي تأثير في إعادة التعريف بالهوية السياسية خارج الوعي الذاتي للسرديات المتصلة بالفضاء العام في المنطقة العربية.

إن الدلالة السياسية لمفهوم العروبة، بعكس ما يتصورها كثير من المؤمنين بها، عادة ما تنصرف بالضرورة إلى مبدأ ثقافي في التعريف بالعرب خارج المنطقة العربية. وهي وفق هذا المنظور تناظر ما يمكن أن نسميه بـ(العالم الإسباني) إن جاز التعبير.

ولأن الشرط السياسي لمفهوم العروبة سيؤدي بالضرورة إلى مطابقة متوهمة مع الشرط الوطني الخاص بالجغرافيا السياسية لكل بلد عربي على حدة؛ فإن تأثيرات المفهوم السياسي للعروبة وضغوطه على مشاعر المؤمنين به ستكون لها اقترانات شرطية أخرى لا يمكن تطابقها مع شرط المواطنة كهوية حصرية لتعريف الفرد داخل الجغرافيا السياسية التي ينتمي إليها، أي داخل الدولة.

هكذا يمكن أن يتضح لنا، في دلالة أولى أن قناعاتنا مثلاً بالعروبة السياسية كمصير حتمي لأقطار المنطقة العربية ربما لا تتحقق أبداً، وفق ذلك الخيال الأيديولوجي للعروبة السياسية ما يعني كذلك أنه ربما يكون وهماً تذهب من أجله أعمار الكثيرين أدراج الرياح!

من ناحية أخرى، كان لمقتضيات الشرط السياسي للعروبة في بعض البلدان العربية كالعراق تمثيلات خطيرة اضطرت النظام السياسي هناك لأن يمارس إعادة تعريف لهويات أخرى من المواطنين كالأكراد مثلاً.

كما أن ظلال التعريف السياسي لمفهوم العروبة قد تكون له ردود فعل خطيرة في بعض بلدان منظومة الجامعة العربية، كالسودان مثلاً الذي لا تزال بعض نخبه الثقافية تمارس ما يمكن تسميته بردود فعل نكوصية، تدرج المعنيين المختلفين للعروبة السياسية والعروبة الثقافية في معنى واحدٍ عبر نزعات رفض هي الأخرى انعكاس للأثر المفترض لمفاعيل المفهوم السياسي للعروبة ونتائجه مع مرور الوقت.

فإذا كان النشيد الرسمي لمؤتمر الخريجين (وهو أول نواة لكيان سياسي للنخبة السودانية المتعلمة تأسس عام 1938) الذي نظم كلماته السياسي السوداني خضر حمد، والتي يقول فيها : «أمة أصلها للعرب * دينها خير دين يحب» فبطبيعة الحال ستكون ثمة مصادرة لانتماءات آخرين في وطن كالسودان أصول السودانيين العرقية فيه تتوزعها أعراق أفريقية كثيرة.

هكذا سنجد أن دلالة العروبة السياسية لا تخلو من مغالطات وإكراهات ومتطلبات أيديولوجية قد تكون لها ردود فعل منعكسة مضطردة، حتى في مكونات الجغرافيا السياسية لدولة المواطنة العربية.

إن العروبة في صميمها ثقافة ولغة عابرة للآخرين بهويتها الإنسانية (لا العرقية ولا السياسية) وإذا ما تعاملت النخب العربية بهذا المنطق في تثمين العروبة الثقافية، فسيكون أثرها الإيجابي بالغ النفع والفائدة في مفردات كثيرة تجمع الناس في هذا الجزء من العالم المسمى عربياً.