أفكار وآراء

السياسة الخارجية في أمريكا منقسمة على نفسها

27 أغسطس 2019
27 أغسطس 2019

عاطف الغمري -

في إطار التجاذب من النقيض إلى النقيض في سياسة أمريكا الخارجية، أي من التشدد تارة ثم إلى التهدئة تارة أخرى من جانب إدارة ترامب، تدور حاليا في الولايات المتحدة مناقشات من جانب النخبة التقليدية المختصة بالسياسة الخارجية، تعبر عن سعي لتحديد إجابة عن هذا السؤال: هل تتجه الولايات المتحدة كقوة عظمى إلى خوض التنافس الساخن مع القوى الأخرى، بما يلزمه من احتمالات الصراع والمواجهات، أم تتجه إلى ضبط النفس؟.

هذه المناقشات التي كانت قد بدأت في الأشهر الأخيرة من عام 2018، جرت تحت عنوان «دور أمريكا في العالم».

وشهدت المناقشات اتفاقا بين الساسة والمحللين من كافة الاتجاهات – اليمين واليسار والوسط – على أن الأخطاء التي ارتكبت على مدى زمني طويل، دون أن تكون هناك مراجعة أو محاسبة لمن وقعوا فيها من نخبة مؤسسة السياسة الخارجية، هي التي أدت إلى وصول الولايات المتحدة إلى حالة من عدم اليقين، بالنسبة لدورها في العالم مستقبلا.

وهذه الأخطاء كانت من أسباب افتقاد مبدأ التوافق Consensus، الذي استقر في فترة التسعينيات من القرن الماضي، بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي، حول أسس وتوجهات السياسة الخارجية، مما مكنها من تبوء مركزها على قمة العالم، وبأقل تكلفة.

وأصبح إحياء هذا التوافق مرة أخرى، عملية تقابلها صعوبات غير هينة زادت منها سياسة ترامب، الذي اتخذ موقفا رافضا للمؤسسة التقليدية للسياسة الخارجية، وتكرار انتقاده لها، وكثرة تغييره لوزرائه ومساعديه. وكان من نتيجة ذلك انتهاج مواقف في السياسة الخارجية، ثم التراجع عنها.

وعلى ضوء هذه المتغيرات، ابتعدت كثيرا فرص التوافق، الذي كان دائما بمثابة سند داعم للسياسات الخارجية، ومن ثم لم تتحقق رؤية محددة لمستقبل دور أمريكا في العالم، بين النخبة المشاركة في هذه المناقشات، وحيث اتخذ الفريقان الرئيسيان فيها، مواقف يناقض فيها كل منها الآخر.

أحدهما يرى أن الولايات المتحدة أخطأت بتركها المجال للصين وروسيا للصعود استراتيجيا. بينما كان يجب عليها صياغة استراتيجية مواجهة لهذين المنافسين. وما كان ينبغي لها أن ترحب عقب انتهاء الحرب الباردة بانضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية، وانضمام روسيا إلى مجموعة الدول العشرين الصناعية الكبرى. بينما يرى الفريق الآخر أن السياسة الأمريكية اتسمت باستعراض القوة، وإظهار طموحاتها حول العالم، بينما المصالح المتبادلة مع القوى المنافسة، كانت تحتاج إلى قدر كبير من ضبط النفس، وليس دفع الصراعات إلى قرب حافة الهاوية.

صحيح أن أحدا منهم لم يشكك في حقيقة صعود الصين، وتأثيرها عالميا واستراتيجيا، إلا أن ذلك يحتاج أولا وقبل أي شيء إلى تحديد مضمون الرؤية الأمريكية لموقفها ودورها إزاء هذا الصعود، أخذا بالمفهوم القديم في العلاقات الدولية، والقائل بعدم وجود حليف دائم أو عدو دائم.

وأمام هذا التفاوت في الآراء، فإن المناقشات وصلت إلى هذا السؤال: هل يتجه المستقبل إلى التنافس الحاد بين القوى الكبرى، أم إلى التهدئة وضبط النفس؟.

وارتبط بالسؤال نفسه تساؤل آخر يترتب عليه وهو: ما المكانة التي ستحتلها أمريكا في العالم؟.

ولما كانت المفاهيم الأمريكية التقليدية والمستقرة، قد نالها قدر كبير من التغيير في عهد ترامب، إلا أن توجهاته لم تقدم إجابة قاطعة على هذه التساؤلات، نظرا لأنه يتحرك ما بين المسارين المختلفين.

من ثم يرى البعض من المحللين الذين راقبوا هذه المناقشات، أن رئاسة ترامب قد تكون مجرد مرحلة انتقالية، تتحدد بعدها صياغة متفق عليها للمبدأ المطروح وهو دور أمريكا في العالم. وأن الوصول إلى هذه الصياغة قد يتم بمشاركة النخبة التقليدية من صناع الاستراتيجية العالمية Grand Strategy الذين استبعدهم ترامب من دائرة مستشاريه، وخبراء صناعة سياسته الخارجية.