أفكار وآراء

نصف قرن من الدبلوماسية المدهشة

27 أغسطس 2019
27 أغسطس 2019

عوض بن سعيد باقوير -

صحفي ومحلل سياسي -

لقد تحدث عدد كبير من المعلقين في الغرب والولايات المتحدة عن نموذج السياسة الخارجية عبر تصريحات وعدد من المؤلفات الرصينة ولعل نموذج سير المفاوضات السرية بين الولايات المتحدة وإيران ضمن مجموعة القوى الكبرى هي واحدة من المشاهد التي تحدث عنها أحد الخبراء الأمريكيين الذي كان مشاركا في تلك المفاوضات معلقا على لقاء نادر بين الإيرانيين والأمريكيين بعد عداء تاريخي استمر لعدة عقود وتحديدا منذ قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية عام 1979 بعد قيام ثورة الإمام الخميني.

منذ انطلاق مبادئ السياسة الخارجية للسلطنة لما يقارب من نصف قرن يمكن القول وعلى ضوء شواهد عديدة وأحداث كبرى إن جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم - حفظه الله ورعاه - قد أحدث نقلة كبيرة في مجال العلاقات الدولية من خلال ترسيخ مبادئ الحوار والتعاون والاحترام المتبادل وإيجاد لغة مشتركة تساعد في حل المشكلات بين الدول.

تلك المبادئ الراسخة أطلقها جلالته -حفظه الله - مع أول خطاب في مسيرة النهضة المباركة ظهر يوم الخميس 23 يوليو من عام 1970 وهي مبادئ اتسمت بالموضوعية والاعتدال وقراءة المشهد المحلي والإقليمي والدولي بفكر عميق ونظرة شمولية جعلت سلطنة عمان خلال قرابة نصف قرن واحة للسلام والأمن من ناحية، ودولة ذات مصداقية في تعاملها مع مختلف القضايا مما أهلها للقيام بأدوار مهمة وحيوية على صعيد المنطقة والعالم.

الدبلوماسية العمانية لها سجل حافل بالإنجازات ومن دون ضجيج إعلامي وهي تهدف إلى إنهاء الإشكالات والمحافظة على منطقة حساسة كمنطقة الخليج التي عانت خلال الأربعة عقود الأخيرة جملة من الحروب والصراعات أثرت على مقدرات شعوب هذه المنطقة، ولا تزال الحرب في اليمن تشكل هاجسا كبيرا من خلال تأثيراتها الإنسانية المدمرة على الشعب اليمني الشقيق وتواصل السلطنة جهودها من أجل إيجاد تسوية سياسية تنهي هذه الحرب المدمرة المتواصلة منذ خمس سنوات.

الرؤية الثاقبة

عند رسم السياسة الخارجية لأي دولة فإن رؤية القائد تلعب الدور الأكبر نحو دراسة العوامل المؤثرة خاصة عاملي الجغرافيا والتاريخ والظروف المحيطة، ولا شك أن جلالة السلطان المعظم وعند تقلده الحكم عام 1970 نظر إلى تلك المتغيرات الجيوسياسية للسلطنة، رغم أن جلالته حينها كان في العقد الثالث من العمر ومع ذلك كانت هناك مؤشرات مهمة، انطلق منها جلالته من خلال خبرته العسكرية ودراسته لأصول الحكم في المملكة المتحدة ومن هنا رسم جلالته السياسة الخارجية للسلطنة وفق مفاهيم وأسس تأخذ في الاعتبار تلك العوامل الجغرافية والتاريخية وأيضا المحيط المجاور وقضايا الحدود التي تعد إحدى القضايا الشائكة التي تعاني منها عدد من الدول العربية.

ورغم الظروف الداخلية التي استنزفت الموارد في السنوات الخمس الأولى من بداية النهضة المباركة، فإن حركة الدبلوماسية العمانية كانت حاضرة لإيجاد الاستقرار في المنطقة ولعل الاجتماع الوزاري لدول الخليج الثماني في مسقط كان باكورة التحرك العماني لإيجاد منظومة أمنية وهو الأمر الذي يبحث الآن مجددا بين إيران ودول مجلس التعاون لدول الخليج العربية على ضفتي الخليج.

كما أن الدبلوماسية العمانية ووفق الرؤية العميقة لجلالته - حفظه الله ورعاه- كان لها دور ريادي عند اندلاع حروب المنطقة كالحرب العراقية - الإيرانية وحروب الخليج ومنها احتلال الكويت عام 1990 من قبل القوات العراقية وحتى عام 2003 حيث الغزو الأمريكي للعراق واحتلاله وإسقاط نظامه آنذاك، كما أن للسلطنة دورا مقدرا أثناء الحصار على العراق من خلال مشروع النفط مقابل الغذاء كما كان لها دور مهم في موضوع اليمن خاصة بعد الوحدة اليمنية عام 1990.

كما كان للسلطنة جهود عديدة لحل الخلافات منها ما يتم الإعلان عنه وبعضها يبقى غير معلن حفاظا على سير المحادثات وأهمية نجاحها كما حدث في موضوع الملف النووي الإيراني عام 2013 حتى تم الاتفاق عام 2015 ، ومن هنا فإن السياسة الخارجية للسلطنة ونحن نستعرض بعض ملامحها ونحن نقترب من نصف قرن من ذلك الأداء المدهش نفخر كمواطنين بتلك الرؤية الثاقبة للقائد - حفظه الله ورعاه - الذي أوجد التناغم والنسيج الوطني الداخلي ليتم الانطلاق للخارج من خلال تلك المبادئ والمثل التي تركز على السلام وإعلاء قيم التعاون والتسامح في ظل تخبط سياسي وأخلاقي تشهده المنطقة والعالم حيث الصراعات والحروب في أكثر من منطقة.

صعوبة المهمة

الذي تحقق من أداء مدهش للدبلوماسية العمانية خلال ما يقارب من نصف قرن لم يكن سهلا وعلى الأجيال الجديدة أن تدرك ذلك ليس فقط على صعيد السياسة الخارجية ولكن على صعيد المنظومة التنموية حيث كانت هناك تحديات حقيقية في الداخل وفي الإقليم ومع ذلك استطاع جلالة السلطان المعظم من خلال فكره المستنير ونظرته الثاقبة أن يقرأ الأحداث بالشكل الصحيح وهو الذي تحدث أن تكون السلطنة صديقة لكل دول العالم وفق الثوابت والاحترام والتعاون وتبادل المصالح ولا شك أن تلك الرؤية لجلالته قد تحققت.

السلطنة جغرافيا تقع في منطقة حساسة وهناك الطموحات غير المنضبطة وهناك التحديات الاقتصادية حيث تذبذب أسعار النفط خلال العقود الأخيرة وهناك الحروب والصراعات التي اندلعت بالقرب من الجغرافيا العمانية ومع ذلك فإن ربان السفينة استطاع وبحكمة فائقة أن يعبر بالسلطنة إلى شاطئ الأمان من خلال استراتيجية سياسية تجنب السلطنة أي مشكلات ناتجة عن ذلك القرب الجغرافي رغم أن تلك المهمة ليست سهلة في محيط متقلب وسريع الأحداث كما يحدث الآن على سبيل المثال.

ونحن نقترب من نصف قرن تحقق الدبلوماسية العمانية رصيدا كبيرا من العطاء المخلص البعيد عن الأنانية السياسية، ويتحدث العالم شرقه وغربه عن تلك الواقعية السياسية وموضوعية ومصداقية المواقف العمانية المشهودة ولا شك أن ذلك يجعل السلطنة تتسم دوما بالهدوء في معالجة الأمور وتنطلق من تلك المبادئ الراسخة التي سوف تتواصل لأنها تهدف إلى بناء الإنسان والبعد عن الحروب التدميرية التي تسبب الكوارث وضياع الفرص للأجيال الجديدة الحالمة بحياة مستقرة بعيدا عن الحروب والتدافع على المصالح الضيقة، ولعل المشهد الآن في منطقة الخليج والعالم العربي هو مشهد مؤلم حيث الحروب لا تزال مندلعة في اليمن وسوريا وليبيا وهناك استفزازات على أكثر من صعيد بين إسرائيل ولبنان وهناك القضية الفلسطينية التي تواجه أخطر مراحلها في ظل الانقسام والضعف العربي، ومن هنا فإن المرحلة الحالية تحتاج إلى مراجعة حقيقية وفق آليات مختلفة تدرس الواقع الصعب الذي يمر به العالم العربي وخطورة الأوضاع التي سوف تواجه أجياله في المستقبل.

النموذج العماني

وفي ظل قراءة للمشهد السياسي العماني من خلال تجربة ثرية للدبلوماسية الوطنية خلال مدة زمنية تقترب من نصف قرن، فإن هذا النموذج العماني الناجح بكل المقاييس يستحق التأمل والمتابعة والبناء عليه وفق تلك الرؤيا ، التي احتاطت لكل الأحداث والمتغيرات بعيدا عن التخبط السياسي وأنانية المواقف؛ لأن السياسة الخارجية تعبر في النهاية عن موروث حضاري وتاريخي وجغرافي، وقبل ذلك دراسة الوضع الإقليمي بالشكل الصحيح فالقراءة الصحيحة للأحداث وما يمكن أن يحدث يحدد المواقف وطبيعتها بما لا يخرج عن تلك الثوابت.

ولقد تحدث عدد كبير من المعلقين في الغرب والولايات المتحدة عن نموذج السياسة الخارجية عبر تصريحات وعدد من المؤلفات الرصينة ولعل نموذج سير المفاوضات السرية بين الولايات المتحدة وإيران ضمن مجموعة القوى الكبرى هي واحدة من المشاهد التي تحدث عنها أحد الخبراء الأمريكيين الذي كان مشاركا في تلك المفاوضات معلقا على لقاء نادر بين الإيرانيين والأمريكيين بعد عداء تاريخي استمر لعدة عقود وتحديدا منذ قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية عام 1979 بعد قيام ثورة الإمام الخميني.

وهناك نماذج عديدة في مجال تلك الديبلوماسية المدهشة التي لا تحبذ الضجيج وتتخذ من المسار الهادئ تحركا للوصول إلى أهدافها وعلى ضوء تلك القراءة فإن بلادنا ومن خلال محطات عديدة حققت إنجازا سياسيا ودبلوماسيا نفخر به، وهذا بلا شك إنجاز حقيقي لإدارة حكيمة بقيادة جلالة السلطان المعظم الذي أوجد هذا التوازن والمصداقية للسياسة الخارجية العمانية وأصبحت تحظى بالاحترام والتقدير من قيادات العالم وشعوبها، ووفق ذلك أصبحت هناك حاجة ملحة لدور السلطنة للمساعدة في إطفاء النيران في المنطقة وبذل الجهود المضنية للمحافظة على المنطقة واستقرارها لصالح شعوبها ومقدراتها في عالم يتسم بالمشكلات والنظرة الضيقة للأحداث وتحركات غير منضبطة وفي المحصلة النهائية سوف يسود صوت الحكمة والمصداقية والموضوعية وهي ثوابت آمنت بها السلطنة ونجحت فيها بكل اقتدار خلال نصف قرن.