الملف السياسي

الســـودان طــريق التحديات والانتصارات

26 أغسطس 2019
26 أغسطس 2019

إمـــــيل أمـــــين -

لم يقتصر الأمر على مجلس الأمن ، فقد سارعت كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والنرويج إلى إصدار بيانات مشتركة عبرت فيها عن التطلع الى العمل مع المؤسسات السودانية الجديدة بقيادة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، وتعهدها بدعم الحكومة الانتقالية في تحقيقاتها في أعمال العنف التي ارتكبت ضد المتظاهرين السلميين.

حقق الشعب السوداني الشقيق قفزة هائلة في مسيرته السياسية الأيام القليلة الماضية، واستطاعت كافة قواه السياسية القفز على أخطر تحد كارثي كان يمكن أن يعوق مسيرته،أي الحرب الأهلية.

آمن السودانيون أن الاتحاد قوة، وأن التفرقة والتشارع والتنازع سوف يقودان السودان الى مآل مماثل لكثير من الدول التي فضل فيها الأشخاص مصالحهم الضيقة على الخير العام، ولهذا وقعت في براثن الاقتتال الداخلي، سواء كان اقتتالا أيديولوجيا أو دوجمائيا. نجح أهم تيارين داخل السودان، التيار العسكري، والتيار المدني في التوصل الى صيغة إيجابية عبر فترة انتقالية، يمكن خلالها رسم ملامح ومعالم السودان الجديد، غير أن ذلك يعتبر الخطوة الأولى في رحلة الالف ميل التي يتعين على السودانيين قطعها لانتشال السودان من الأوضاع التي يعاني منها.

صباح توقيع الاتفاق التاريخي بين قوى الحرية والتغيير السودانية والمجلس العسكري السوداني، كان العالم برمته يطرح ذات التساؤل الذي يشغل السودانيين أولا، والأشقاء الأفارقة والعرب تاليا، والعالم كله من بعد ..» هل سيبدأ السودان فصلا جديدا من تاريخه، وهل سيستمر الوفاق بين التيارين الغالبين هناك، وكيف سيعالج السودان الجراح المفتوحة بمهارة تبعد عنه شبح الانقسام من جديد، والعديد من الأسئلة الصعبة والجوهرية التي تحتاج بالفعل إلى أجوبة شاملة وحقيقية، وبعيدا عن المناورات السياسية التي لا تفيد في الحال أو الاستقبال ؟

من فرنسا كانت صحيفة «لاكروا» تطرح التساؤلات المتقدمة، وفرنسا تكاد تكون من أهم الدول الأوروبية المهتمة بالشأن الأفريقي عامة والسوداني خاصة، وقد أشارت في تقرير لها الى أن الاتفاق الانتقالي الديمقراطي أمر جيد، يمكن أن يكون بمثابة تعبيد الطريق لتسويات سياسية طال انتظارها من قبل السودانيين، غير أن الإشكالية التي تلفت إليها هي ان التحديات جمة وكبيرة، والمخاوف من أن تؤدي الحلول الى تنازع او تشارع غير مقبول من أي من اطراف الشراكة، ما يعيد الجميع الى المربع رقم واحد مرة ثانية. بالرجوع الى ديسمبر الماضي من عام 2018 يتبين لنا ان التحدي الرئيس والذي يحتاج الى حل سريع وبأسرع مما يمكن هو الضائقة الاقتصادية التي تمر بها السودان، وقد كان قرار الرئيس السابق البشير رفع ثمن الخبز ثلاث مرات الشرارة التي اطلقت الاحتجاجات في طول البلاد وعرضها، وقد تسببت سياسات الرجل عينه في الكثير من المآسي بالنسبة للسودانيين، في الشمال تحديدا والذين تأثروا من خسارة غالبية مصادر النفط الموجودة في الجنوب، والتي ضاعت مردوداتها على أهل السودان منذ العام 2011، وذلك حين حدث الانقسام الكبير في ذلك البلد الغني بثرواته. بالقدر نفسه أخفقت الإدارة السابقة في الاستفادة من الأراضي الزراعية الشاسعة والواسعة التي يتمتع بها السودان، والتي يمكن لها أن تضحى السلة الكبيرة للغلال، لا للسودان أو السودانيين فحسب بل لعموم العالم العربي.

تأتي الإدارة الانتقالية اليوم محملة بأعباء وخطايا الماضي، وفي وسط معدل تضخم سنوي تشهده السودان يصل الى 70%، عطفا على أزمة سيولة حادة، الأمر الذي يجعل مسألة الاتفاق على الحلول السريعة مسألة لها أولوية قصوى على جميع الطروحات والشروحات الاخرى .مفتاح الحل في واقع الأمر يقع في مسارين، الداخلي حيث المصالحة بين كافة الفئات والطبقات، والخارجي بمعنى إعادة السودان الى مسار الدولة الطبيعية، لا الدولة الواقعة تحت حصار العقوبات الدولية من جراء اتهاماتها بدعم الإرهاب في العقود الثلاثة المنصرمة .السودان في وضع لا تحسد عليه اقتصاديا بالفعل، اذ تبلغ الديون الخارجية للسودان حاليا نحو 58 مليار دولار، وفق آخر إحصاء رسمي، تشمل الفوائد، كما أن لديه تركة ثقيلة من الديون المجمدة منذ أربعة عقود، وفضلا عن تخلفه عن السداد منذ أوائل الثمانينات، فقد خضع السودان لعقوبات أمريكية بسبب الصراع في إقليم دارفور لنحو عقدين وحتى عام 2017، الأمر الذي تسبب للسودان في عزلة شديدة عن الأسواق الدولية منذ سنوات طويلة. ضمن التحديات الكبيرة والمثيرة بالنسبة للسودان الجديد، العلاقة مع الأشقاء في جنوب السودان، والشاهد هنا أن أحدا لا يستطيع إرجاع عقارب الساعة الى الوراء، بمعنى أن الجنوب قد انفصل مرة والى الأبد، وأصبح دولة مستقلة عضو في الأمم المتحدة، وهذا أمر بدون انكار يترك الكثير جدا من الحزازات في الصدور، ولهذا فالمطلوب حالة من حالات التوافق الثنائي بين الشمال والجنوب، توافق سياسي، يقود الى توافق اقتصادي، وتعاون ثنائي لمصلحة الطرفين، من دون رياء او كبرياء من طرف تجاه الاخر، بل جهود متواصلة من الجانبين لتحسين حياة السودانيين انفسهم .في هذا السياق لا يمكننا ان نغفل التصريحات التي صدرت عن (الحركة الوطنية لجنوب السودان)، الموقعة على اتفاقية السلام، والتي أكدت على أن الحكومة الجديدة في السودان سيكون لها دور كبير ومهم في عملية سلام جنوب السودان .

تتبدى نوايا الجنوبيين من خلال تصريحات (استيفن لوال نقور) الناطق الرسمي باسم الحركة، والذي أشار الى أن السودان وتحت قيادة الحكومة الجديدة والمجلس السيادي برئاسة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، قادرة على دفع عملية السلام بالجنوب بحكم دور السودان في الايقاد، داعيا الى مساعدة الأطراف الموقعة على الاتفاقية المنشطة وتشكيل الحكومة بجنوب السودان في الموعد المتفق عليه . يرى نقور أن الأطراف الموقعة على اتفاقية السلام يتطلعون الى قيادة رشيدة جديدة للسودان، تبدأ برامجها بتحقيق عملية السلام، أي بإعادة اللحمة والسدى الى السودانيين انفسهم، واعادة الاهتمام بالسبيكة الاجتماعية للشعب السوداني، والحفاظ على النسيج الاجتماعي واعادة ترميمه بعد أن اهلكته الحروب . ضمن التحديات التي تواجه السودان في قادم الأيام نجد الجماعات المسلحة المختلفة التوجهات المنتشرة في البلاد، وهذه في واقع الحال تمثل خطرا كبيرا على السودان الموحد غير المنقسم، ولهذا فانه يضحى فرض عين محاولة إنهاء الأسباب التي ولدت انشقاقها وهذا شأن سياسي يسبق أي عمل عسكري، يتمثل في محاول ادماجها في السياق العام للدولة السودانية الجديدة، وبحيث يكون للسودانيين جيش وطني واحد، لا مجموعات مسلحة مختلفة تقود البلاد الى مزيد من التمزق والانشقاق.

يتوجب على الحكومة الجديدة أن تضع حدا للحروب الدائرة مع الحركات المسلحة في مناطق النزاع كما الحال في دارفور وجنوب كردفان والنيل الازرق، وغيرها، والنجاح في التوصل الى حلول هنا يعني ضمانة عودة الاستقرار والسلام الى كل السودانيين.

ملف اخر بدوره يكاد يتسبب للسودان في أزمات داخلية وخارجية لا سيما مع دول الجوار، ونعني به ملف النازحين واللاجئين والمهجرين، والمعروف انه طوال ثلاثة عقود تسببت سياسات النظام السابق في زحف بضعة ملايين من السودانيين كلاجئين الى دول الجوار، منهم من هرب بسبب الأوضاع المعيشية القاتلة، ومنهم من فضل الهروب بسبب الأوضاع السياسية الصعبة التي جعلت أي صوت معارض غير محبوب او مرغوب ومهدد بغياهب السجون، بل ان الكثيرين من ابناء السودان الذي عاشوا عالم السياسة لا يزالون بدورهم لاجئين في بلاد العالم، بعيدين عن وطنهم الأصلي، وحال أراد السودان قولا وفعلا بدء عهد جديد، فان عليه أن يولي اهتماما كبيرا لإعادة النازحين والذي هجروا قسرا من ديارهم، وكذا اطلاق سراح كافة المساجين السياسيين، وانهاء حالة العسف والخسف التي درج عليها السابقون، وان تتاح حرية الرأي والرأي الآخر، طالما بقي الأمر في اطار من البحث عن المصالحة الوطنية وتعميق الخير العام.على انه رغم التحديات والعقبات فان هناك علامات انتصار في طريق السودان تبدو واضحة كذلك من خلال تشكيلة المجلس السيادي المنوط به مستقبل السودان، اذ نلاحظ ان هناك تنوعا واضحا وملحوظا، وأن المرأة السودانية والتي كان لها كبير الاثر في نجاح الثور السودانية، قد تم تمثيلها من خلال سيدتين، وهذا يدلل على أن هناك وعيا كبيرا بأهمية المرأة في السودان الجديد، كمكون رئيس ضمن خطة انتشال البلاد ومن وهدة الإخفاق الآنية .

يلفت النظر أيضا أن واحدة من المرأتين من اقباط السودان، وهذه لمحة ولمسة تمثل انتصارا على فكرة التطرف والتعصب، وتعني بأن مسألة الدين والايمان والمعتقد هي مسألة شخصية بين الإنسان وربه، وان الإيمان والمعتقد لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون حائلا او عائقا ضد ممارسة أي شخص سوداني لمواطنته على الأرض السودانية، فالمهم والأهم هو مقدار العطاء الذي يسبغه على أرض بلاده، وعلى شعبه الذي يحتاج من يحنو عليه في الحال والاستقبال. ولعل المتابع لتصريحات الفريق البرهان وتأكيده على احترام الوثيقة الدستورية تمهيدا لتحقيق أهداف الثورة السودانية، يأمل خيرا في أن تمضي الأمور كما هو مخطط ومرسوم لها، بمعنى تولي البرهان رئاسة مجلس السيادة - الذي يتولى صلاحيات رئيس الجمهورية – لمدة 18 شهرا، وبعدها يتولى عضو مدني الرئاسة لفترة مماثلة، وبعد اكتمال الفترة الانتقالية تنظم الانتخابات في عموم البلاد .

ما يعطي الأمل في مستقبل افضل وفي انتصارات للسودان الجديد أن هناك حالة من حالات الترحيب الأممي بالاتفاق الأخير، فقد رحب مجلس الأمن الدولي بالاتفاقية الموقعة بين قوى التغيير والحرية والمجلس العسكري لتشكيل حكومة على رأسها شخصية مدنية، كما رحب بتعهد الحكومة الانتقالية بضمان التنفيذ الكامل لبنود الاتفاقية الانتقالية. لم يقتصر الأمر على مجلس الأمن، فقد سارعت كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والنرويج الى اصدار بيانات مشتركة عبرت فيها عن التطلع الى العمل مع المؤسسات السودانية الجديدة بقيادة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، وتعهدها بدعم الحكومة الانتقالية في تحقيقاتها في أعمال العنف التي ارتكبت ضد المتظاهرين السلميين .

ما الذي يتبقى اذن ؟

يمكن القول إن السودان الجديد في حاجة الى الدعم من الأشقاء العرب، دعما أدبيا وماديا كي ينجو من هوة الشقاق والمكائد، ومن جهة أخرى يتعين على المجتمع الدولي مد يد العون الطويلة للسودان ورفع اسمه من قوائم العقوبات، فلديه ما يكفيه من عقبات في الداخل.