1299680
1299680
المنوعات

يـوميـات نهـارية لمسـافـر نـائم

25 أغسطس 2019
25 أغسطس 2019

لـيـلـى عبـدالله -

«في سوق الدجاج، كنا نتحدث عن الحرب، يومها كانت العصافير لا تزال على الأشجار، وكان الشتاء ينعم ببرده وبأمطاره ورعوده، وكانت النساء ينظفن أصابع الباميا من صمغها بهدوء وأريحية، وكان البرتقال يأتي محمولا على شاحنات من بعقوبة، وكان الطين يطلق رائحة، هي مزيج من رطوبة أنفاس الأجداد ويباس الأسماك المعلقة على حبال الغسيل..».

هكذا يفتتح الشاعر والفنان التشكيلي فاروق يوسف يومياته في كتاب جاء أشبه بسيرة ذاتية غير أنها تضم في حناياها أحاسيسًا مفجعة عن الحرب وموقف الإنسان من هذه الحرب وتأثيراته على كيانه وعلى العالم من حوله.

يسرد كمتنبئ عن حرب بعيدة، وكأنها تقع في ناصية عالم آخر، حيث كل شيء على طبيعته، وكأن الحرب مجرد حديث عابر يُسمع من قناة أجنبية ويجري الجدال حولها كأمر غير ملموس. يظل يحفر هذه الفكرة في بداية يومياته، ويحشد الحياة في شوارع بغداد بكامل عافيتها ما قبل الحرب، غير أن السكون المجرد في طرح موضوع الحرب يتنامى كحدث كلي ومكثف «في سوق الدجاج، كنا نتحدث عن الحرب أيضا. لن يجرؤ أحد على إعادة تأليف الحكاية. الحكاية تعيد تأليف نفسها بنفسها. تفلت من إطارها التقليدي، فتتشظى. ريشها يملأ الوسائد، وغبارها على كل كتف.».

حين تغدو الحرب حقيقة جارحة وتتسرب كشيء دبق كل مفاصل الحياة في بغداد لا يجد الكاتب نفسه أسير مرحلة يستدعيها بقوة وهي مرحلة النسيان كحل مؤقت لقنابل الحرب التي هشمت جل حياته» كنت قد دربت نفسي على النسيان. تمارين شاقة في المحو مارستها، لكي أكون مستعدًا لتحمل عبء نهار عراقي جديد».

صار النسيان عقار المجروحين، دواء للأرواح المهشمة من داء الحرب، غير أن النسيان نفسه يكاد يخلق مسافات شاقة بين الإنسان ونفسه كتجربة الكاتب وهي يستحضر مرحلة النسيان «صار التذكر نوعًا من التأليف. فأنا في الحقيقة أكتب عن حياة عاشها شخص آخر. قد يكون هو ذلك الشخص الذي يشبهني، بالرغم من أنه لم يعش سوى أشهر قليلة بعد ولادته. عن طريق التذكر، صرت أسعى إلى التحقق من أن الحياة التي صرت أتذكرها في أثناء الكتابة لم تكن حياة متخيلة. لقد عشت هناك. أعرف ذلك. ولكن هذه الوقائع التي صارت تنبعث من بين الكلمات هل عشتها شخصيًّا؟ أم أن شخصًا آخر كان قد رواها لي بعد أن عاشها».

بعد أن ابتلعت الحرب الحياة البشرية في بغداد، صارت أكثر الأسئلة إلحاحًا هي هل انتهت الحرب؟ وحدهم الضحايا، ضحايا الدمار الشامل، والدم المراق، والحياة المشلولة، هم وحدهم من يحق لهم محاكمة الحرب، هم وحدهم يرون أن الحرب لم تنته، هم وحدهم من يدركون أن الحرب حين تأتي لا ترحل أبدًا. حتى الذين خاضوا هذه الحرب وعادوا منها لا يعودون حقًّا، بل يرى الكاتب وهو يسرد ذكرياته في هذه اليوميات الشاقة أن استعادة الأسرى أمر غير مستحب، بل يكاد يكون مصابًا بقدر آثار الحرب نفسها، فالمجتمع غير قادر على استيعابهم «الذهاب إلى الحرب هو شيء شبيه بذلك. حين تذهب إلى الحرب، فعليك أن لا تفكر بالعودة. وحين تنتهي الحرب، فإنك تذهب معها. يتذكرك الآخرون باعتبارك بطلًا، ولكن ليس من حقك أن تكون حيًّا. البطل لا يرى إلا من خلال حكايته».

فاروق يوسف، هذا الفنان المرهف، الذي جال معظم بلدان العالم، الذي زار مسقط وصادق الشاعر العماني» سيف الرحبي» وغيرهم، الذي كان ينشر في صفحات الجرائد القطرية أثناء إقامته هناك ردحا من الزمن، الذي طاف عواصم العالم، صارت كل البلدان بلاده غير بلاده، صارت ذكرياته محفورة في أنحاء تلكم البلاد، ولكن النسيان صار عقاره المفضل في بلاده، لقد خلف كل ما يخصه في بغداده، من بيت وأم ورفاق، وشوارع، ووجوه، ليكون غريبًا يستعيد ذاكرته في بلدان منفية ليتناسى بلادًا عطلتها الحرب، بلادا لم تعد تشبهه، لا تمت صلة بذاكرته، تاريخه، طفولته، لقد شوهت الحرب ملامحها، تفاصيلها، ذكرياتها، صارت خرابًا ولا تخلّف سوى الخراب!

«يخيل إلي أن حياتي لم تصنع من مادة صلبة أو متجانسة. دائما كنت أقع على مواقع هشة، لا يمكنني إخفاؤها أو التغاضي عنها. وإذا ما حاولت ذلك، فإن محاولتي كانت تأتي دائما متأخرة. وعلى مستوى آخر، فإن التناقضات التي تنطوي عليها ذائقتي الجمالية، كانت تصدم الآخرين (الغرباء طبعا) كما أتوقع».