أفكار وآراء

السودانيون.. من الجهاد الأصغر إلى الأكبر

24 أغسطس 2019
24 أغسطس 2019

د. عبد العاطي محمد -

بعد نحو 8 أشهر عصيبة عادت البسمة إلى شفاه السودانيين وهم يتابعون تطورات الفصل الأخير من المفاوضات الشاقة بين المجلس العسكري الانتقالي وقوى الحرية والتغيير وهو التوقيع على وثيقة الإعلان الدستوري التي حددت ملامح الحكم في المرحلة الانتقالية ومهام هياكله الثلاثة: مجلس السيادة ومجلس الوزراء والبرلمان.

ولا شك أن الحدث يشكل نجاحا متميزا مقارنة بما جرى في تجارب عربية أخرى منذ عام 2011، ولكنه يظل بمثابة تتويج الجهاد الأصغر، وأما الجهاد الأكبر فهو النجاح في تفعيل ما تم الاتفاق عليه خلال 3 سنوات من الآن دون حدوث أية ردة إلى الوراء.

الجهاد الأصغر لم يكن سهلا بل كان شاقا وعسيرا، فمنذ اندلاع الاحتجاجات قبل نحو 8 أشهر والمشهد السوداني يمر بتطورات متضاربة بين يوم وآخر، ما بين التفاؤل بإمكانية تحقيق مطالب المحتجين، وبين التصعيد في المواجهة مع المجلس العسكري الانتقالي مع أنه كان طرفا وعاملا مهما في تغيير النظام القديم، أي كان داعما للمطالب الشعبية. وفي أوقات كثيرة بدت الصورة قاتمة للغاية وسط حالة من الشك سيطرت على من تصدروا المشهد من تحالف المعارضة وتحديدا قوى الحرية والتغيير تجاه العسكريين الذين تولوا السلطة، وهؤلاء بدورهم لم يخفوا اعتراضهم على أن تكون هذه القوى هي المتحدثة الوحيدة باسم كل السودانيين لتحقيق التغيير. ولم تنجح المفاوضات الأولى في ردم الهوة بين الطرفين. ومع الوصول إلى طريق مسدود بات الوضع مهيأ لاندلاع حرب أهلية في البلاد. ولكن الفرج جاء على أيدى الوسطاء الأفارقة ممثلين في الاتحاد الإفريقي وإثيوبيا، ومعه بدأت العقد تنفك الواحدة بعد الأخرى. وعاد الطرفان إلى مائدة الحوار والتفاوض، فكان الإعلان السياسي ثم أعقبه الإعلان الدستوري لتبدأ الخطوات العملية للمرحلة الانتقالية.

والحقيقة لم يبدو المشهد الذي امتد لأكثر من 8 أشهر غريبا على الوضع السياسي في السودان منذ أواسط خمسينات القرن الماضي وإن كان قد أضاف جديدا حقا مقارنة بما سبقه. فقد حدث أربع مرات قبل هذا الحدث الخامس، وذلك على مدى نحو 60 عاما. فأزمة الحكم ظلت تراوح مكانها بين القيادة العسكرية والمدنية وإن ظلت الغلبة للأولى. وربما كان شعار السلطة المدنية الذي ساد الاحتجاجات دليلا على الشوق الشعبي إلى تغيير بنية الحكم تماما استنادا إلى ميراث العقود الستة الماضية التي عرفت هيمنة العسكريين على الحكم، برغم المظاهر العديدة على وجود الممارسات الديمقراطية التي ميزت النظام السياسي السوداني منذ الاستقلال!، حيث التعدد الحزبي والتنوع الأيديولوجي من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وكذلك الحياة النيابية الخصبة.

لنا أن نتذكر مثلا أن مفهوم مجلس السيادة ليس وليد مشهد اليوم بل هو موجود منذ الاستقلال، فكان أول مجلس بهذا المعنى في عام 1955حتى عام 1958 عندما تم حله بانقلاب إبراهيم عبود، وكان الثاني عام 1964 والثالث بعده بعام واحد الذي استمر 4 سنوات وألغاه جعفر نميري والرابع 1985 واستمر 4 سنوات وألغاه البشير 1989. وربما كان الخلاف الذي احتدم وطال بين قوى الحرية والتغيير حول مجلس السيادة هذا بسبب التجارب الفاشلة السابقة، حيث شددت هذه القوى على وضع الضوابط التي لا تسمح بانتكاسة جديدة، ولذلك تمسكت بتشكيله من عسكريين ومدنيين وبأن تكون الأغلبية للمدنيين مع حصر مهامه في الجوانب السيادية والشرفية وإبعاده عن السلطة التنفيذية من الناحية الفعلية، وهو ما حدث بالفعل وفقا لما جاء في الإعلان الدستوري. وقد وافق المجلس العسكري الانتقالي على ذلك بعد مشقة اقتناعا من قياداته بأنه أحد الأمور التي تجنب البلاد الدخول في حرب أهلية جديدة، واعتبره المتظاهرون ومن يمثلونهم انتصارا للثورة على النظام القديم. ومما يذكر أن المجلس العسكري الانتقالي سينتهي بالطبع مع تشكيل مجلس السيادة.

يضاف إلى ذلك أن قوى الحرية والتغيير هي التي تختار الوزراء ويقوم مجلس السيادة بتعيينهم (بوصفه سلطة سيادية)، كما اختارت هذه القوى شخصية مهمة على درجة عالية من الكفاءة لتولي منصب رئاسة الوزراء هو د. عبدالله حمدوك الخبير الاقتصادي الدولي والذي عمل سابقا أمينا عاما للجنة الاقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة، ولم يكن محسوبا على النظام القديم. وتولت قوى الحرية والتغيير اختيار النائب العام ورئيس القضاة. وتم الاتفاق على تشكيل البرلمان من 300 نائب ثلثاهم من قوى الحرية والتغيير والباقي من أحزاب وشخصيات سياسية أخرى. كما تضمن الإعلان الدستوري تفعيل العدالة الانتقالية بالنسبة لمن تورطوا في قضايا فساد أو جرائم ضد الشعب، هذا فضلا عن الشروع في إعادة هيكلة إدارة الدولة لإنصاف من تم إقصاؤهم والتخلص من غير الأكفاء.

مثل هذه الضوابط لم تكن قائمة في التجارب السابقة لنظم الحكم الانتقالية في السودان، ووضعها بهذه الكيفية يوضح إلى أي حد كانت النخبة السودانية التي قادت التغيير واعية بأخطاء الماضي، ويؤكد في نفس الوقت أن قيادات المجلس العسكري الانتقالي كانت بدورها على مستوى عال من تقدير المسؤولية الوطنية، وواعية أيضا بالدروس المستفادة من تجارب التغيير التي ضربت أكثر من بلد عربي منذ عام 2011. وعزز من التوصل إلى هذه الضوابط أن المناخ العام في البلاد كان مناخ ثورة شعبية، بمعنى أن الاحتجاجات كانت مستمرة وعريضة ومن ثم ضاغطة بقوة على الطرفين: الانتقالي وقوى الحرية والتغيير بأن يتوافقا من ناحية وألا يتخليا عن إحداث تغيير حقيقي في بنية النظام السياسي في إطار الأهداف التي طرحتها الاحتجاجات مثل السلام والحرية والعدالة. ويحسب للطرفين أنهما حرصا على عدم تحول الثورة إلى فوضى دموية. صحيح أنه حدثت حالات انفلات راح ضحيتها عشرات القتلى (فض اعتصام القيادة بالقوة)، ولكن بوجه عام لم تتجه السودان إلى حرب أهلية أو مواجهات مسلحة خطيرة بين الأمن والمتظاهرين. كما يحسب للطرفين أنهما لم يسمحا بالتدخل الخارجي في المشهد السوداني، ويقصد بذلك وجود تورط واضح من أطراف خارجية في نصرة طرف على الآخر أو تأجيج مناخ الحرب الأهلية. كما يحسب لجميع القوى السودانية أنها أظهرت قدرا عاليا من الوعي السياسي لم تعرفه في الحقيقة التجارب العربية الأخرى ممن شهدت نفس الموقف، وذلك لأن الشعب السوداني يمتلك نخبة عريضة من أبنائه الذين على درجة عالية من الثقافة السياسية العميقة.

كل ما سبق يشير إلى نجاح السودانيين في إنجاز الجهاد الأصغر وهو وضع الأسس الجديدة لبناء نظام سياسي يرضى عنه الجميع يحقق العدالة والسلام والكرامة والحرية، ويحفظ للسودان وحدته الوطنية. وإذا كانوا قد استغرقوا وقتا طويلا، فقد كان هذا ضروريا لكي يكون العقل الجمعي السوداني متوافقا عن اقتناع والتزام بما يتعين القيام به من خطوات للتغيير في المستقبل المنظور. ولكن الجهاد الأكبر يتعلق بتفعيل ما تم الاتفاق عليه، وتلك مهمة صعبة للغاية وتحد حقيقي لكل السودانيين. وينصرف هذا الجهاد الأكبر إلى ثلاث قضايا كل منهما لا تقل أهمية عن الأخرى، وهى بناء الثقة بين كل القوى النافذة، وتحقيق السلام، والإنقاذ الاقتصادي. فالتدقيق الشديد في تحديد الهياكل الثلاثة للسلطة في المرحلة الانتقالية، واستغراق الجهد في اختيار العناصر في كل منها وفقا لمعايير الكفاءة (المهنية) والشروط المعتادة لتولي الوظائف العامة (النزاهة وغيرها) والوطنية (عدم التورط في أخطاء النظام السابق)، كل ذلك إذا ما كان يشير إلى شيء فإنه يشير إلى وجود أزمة ثقة بين الجميع!. ولعل إصرار قوى الحرية والتغيير على أن تكون المرحلة الانتقالية 39 شهرا وهي مدة طويلة، دليل على أن الاختبار العملي لتنفيذ ما تم الاتفاق عليه هو المحك لنجاح المرحلة. وإطالة المدة تعني المهمة صعبة وتحتاج إلى وقت كاف لا إلى الاستعجال، خلالها يمكن اختبار صدق مواقف كل طرف، وإن حدثت مشكلة، وهذا متوقع بالتأكيد، فالوقت يسمح بالحوار والتفاهم ومن ثم سرعة العلاج. ولا يخفى أن ذلك يعكس شعورا من جانب القوى المدنية السودانية بأنه يتعين على العسكريين أن يبددوا المخاوف التي أفرزتها التجارب السابقة بأن يؤكدوا من خلال الـ 21 شهرا الأولى التي من المقرر أن تكون فرصة القرار لهم فيها، ما يطمئن القوى المدنية على أن السودان يتحول فعليا نحو السلطة المدنية المطلقة. وهناك مشكلة السلام التي تخص الموقف من الحركات الثورية المسلحة التي تطالب بأن يكون لها نصيب في الحكم الجديد، وهو ملف حمل آلاما كثيرة ومخاطر للانفصال ويثير أزمة فقدان العدالة في توزيع الموارد، ونزوح الملايين من ديارهم، فضلا عن المطاردة القانونية لعناصر هذه الحركات. ونظرا لخطورة القضية تم تخصيص الأشهر الستة الأولى لحل مشكلاتها، وحتى وضع الإعلان الدستوري لم يكن واضحا مستقبل هذه القضية الشائكة. وتبقى الأزمة الاقتصادية التي كانت سببا مباشرا في اندلاع الاحتجاجات، وهي مهمة ثقيلة للغاية وتحتاج إلى جهد كبير من الحكومة، ورغم كفاءة شخصية رئيس الوزراء المقترح فإنه يحتاج إلى دعم داخلي وإقليمي ودولي، وفي هذا الإطار أصبح ضروريا رفع القيود الغربية على السودان وتحديدا من جانب الولايات المتحدة.