أفكار وآراء

الذكاء الاصطناعي - دعوة إلى حلم أمريكي جديد

21 أغسطس 2019
21 أغسطس 2019

باوباو شانغ - نيويورك تايمز -

ترجمة : قاسم مكي -

ينبغي أن يكون الصدام الذي نشب بين المحتجين وطائرات «الدرون» ذاتية القيادة وأفراد الشرطة في مسيرة الأحلام الأمريكية الأسبوع الماضي (أحد أسابيع عام 2043، بحسب الكاتبة – المترجم) دعوة إلى واضعي السياسات للتحرك. وعلى المتشككين في البيت الأبيض والكونجرس قبول إجماع الاقتصاديين والتقنيين بأن الذكاء الاصطناعي وعلم الروبوتات يعيدان تشكيل اقتصادنا ويهددان وظائف معظم الأمريكيين. وعلينا افتراض أن هذا الوضع لن يتغير وأن على الحكومة ضمان مستويات معيشة جيدة لكل الأمريكيين بصرف النظر عن قدرتهم على العمل.

(ملحوظة: تفترض كاتبة المقال أنها في عام 2043. وتكتب عن أحداث تتخيل وقوعها في المستقبل)

يخفي النمو القوي للناتج المحلي الإجمالي بنسبة 3.4% في العام الماضي وكذلك المعدل الرسمي للبطالة عند 4.6% حقيقة أن عائلات أمريكية عديدة تكابد من أجل تدبير أمور معاشها. فنمو الأجور يواصل ركوده. إذ يعمل ما يقرب من 6 من بين كل 10 أشخاص بالغين كمتعاقدين بدون أمان وظيفي طويل الأجل أو فرص للترقي الوظيفي. ولا يشارك في القوة العاملة على الإطلاق ثلاثة تقريبا من بين كل عشرة من الأشخاص البالغين ممن هم في سن ذروة العطاء الوظيفي. لذلك فهم لا يحسبون في إحصاءات البطالة.

من الواضح أن الحل ليس في وقف التقدم التقني. لقد قادت الثورة التقنية في العقود الثلاثة الأخيرة إلى نمو اقتصادي هائل واستحدثت العديد من السلع والخدمات المتاحة التي ما كان من الممكن تخيلها قبل 25 عاما. كما أثبتت قدرتها على المساهمة في التلطيف من التغير المناخي وتحسين الرعاية الصحية والدفع بالبحث العلمي إلى الأمام.

رغما عن ذلك فقد حاز حتى الآن كبار مسؤولي شركات التقنية على معظم الثروة التي تولدت عن التقدم في مجال الذكاء الاصطناعي والروبوتات. لقد حان الوقت لتوزيع منافع ثورة الذكاء الاصطناعي على نطاق عريض من خلال شبكة ضمان اجتماعي أكثر اتساعا.

غير أن أعضاء الكونجرس لسوء الحظ يتخذون المسار المعاكس. فقد اقترحوا إجراء تخفيضات في تمويل سلسلة من البرامج الاجتماعية.

لقد وصلت أعداد غفيرة من الناس إلى واشنطن يوم السبت الماضي للاحتجاج على هذه التخفيضات. وفي أثناء المظاهرات قذف محرضون يرتدون أقنعة بالحجارة طائرات درون استخدمت للسيطرة على الشغب. ردا على ذلك نثرت الطائرات الفلفل على المتظاهرين مما أدى إلى تدافع جُرح خلاله أكثر من 20 شخصا عولجوا في مشاف محلية. كما مات أحد المتظاهرين المصابين الاثنين فيما احتجزت الشرطة 35 شخصا أثناء التظاهر واعتقل 25 آخرون لاحقا بعدما استخدمت السلطات تقنية «التعرف على الوجوه» لتحديد هوية المتظاهرين من أفلام المراقبة.

إن معاقبة الفقراء الذين تضرروا من «الإحلالات» الاقتصادية خطأ ظل يتكرر طوال التاريخ الأمريكي. ففي أثناء الثورة الصناعية أزاحت الآلات العديد من أصحاب الحرف والعمال الزراعيين. ولمنع هؤلاء العاملين العاطلين عن العمل من السعي للحصول على مساعدة حكومية أنشأت الحكومات المحلية «مساكن فقراء» تلزم القاطنين بها أداء أعمال شاقة.

وفي الفترة بين عامي 1990 و2020 قلصت الحكومة الاتحادية وبعض الحكومات الولائية مرارا الإنفاق على البرامج الاجتماعية وذلك في تزامن مع اختفاء وظائف الطبقة الوسطى كنتيجة «للتعهيد» والأتمتة. وقنع العمال الذين لا يملكون المهارات المطلوبة في اقتصاد المعرفة بالانضمام إلى الطبقة الدنيا لعمال الخدمات.

تختلف موجة الأتمتة المتقدمة الحالية عن الموجات السابقة في أن آلات اليوم تتفوق على البشر في أداء أعمال عديدة تتطلب ذكاء. ويتنبأ مسح حديث لباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي بأن ثمة فرصة بنسبة 90% لتفوق الآلات على البشر في أداء معظم الأعمال ذات الصلة بالاقتصاد بحلول عام 20175.

حقا حررت الآلات البشر من الأعمال الشاقة (جمع القمامة) والخطرة (قطع الأخشاب). لكنها أيضا قللت من الحاجة إلى العمل الإنساني بوتيرة أسرع من وتيرة إيجاد وظائف جديدة ومجزية.

فمثلا كان في السابق يتم الترويج للقيادة الآمنة للشاحنات «عن بعد» كوظيفة جديدة وآمنة لسائقي الشاحنات الذين ستؤدي أتمتة قيادتها، بخلاف ذلك، إلى إحلالهم. لكن في العام الماضي نجحت الشركات المصنعة للشاحنات في الضغط على الحكومة الاتحادية لترتيب الاستغناء التدريجي عن إشراف هؤلاء السائقين «من بعد» على كل الشاحنات ذاتية القيادة. نتيجة لذلك سيتعرض ما يقرب من 400 ألف سائق للصرف من الخدمة.

اعتقد العمال في الولايات المتحدة لفترة طويلة أن الحلم الأمريكي يرتكز على المساواة في الفرص. لقد آمنوا أنهم إذا ما اجتهدوا سيكون في مقدورهم تأمين مستوى معيشي محترم. كان هذا صحيحا في العقود التي تلت الحرب العالمية. لكن منذ أواخر السبعينات تعرض الحلم الأمريكي للخطر أولا من العولمة والآن من أتمتة مكان العمل. لذلك نحن بحاجة إلى حلم أمريكي جديد يناسب عالما لا يكفي فيه العمل الشاق والمثابرة والمقدرة لضمان كسب العيش. ستكون أول خطوة لمعالجة عدم المساواة الحالية في الدخل تبني ضريبة دخل سلبية تضمن لكل العائلات عتبة دخل تصل على الأقل إلى ضعف المستوى «الفدرالي» للفقر. وستستمر العائلات في الحصول على الفوائد الاجتماعية ولو بمقدار متناقص حتى يصل دخلها المكتسب إلى ثلاثة أضعاف مستوى الفقر.

يمول هذا البرنامج بزيادة المعدلات الحدية لضريبة الثروة وضريبة التركة وكذلك توسيع نطاق ضريبة الكربون الفدرالية. وفي الوقت نفسه يتم خفض أو إلغاء البرامج الاجتماعية التي تغني عنها ضريبة الدخل السلبية.

ظل التشريع الخاص ببرنامج ضريبة الدخل السلبية (قانون تجديد الأحلام الأمريكية) معلقا ولم يبت فيه الكونجرس منذ عام 2040. لكن الحماس تجدد لهذا البرنامج في حملة الانتخابات الرئاسية للعام القادم. لقد اعتبر يوما ما «أضغاث أحلام» لكن حتى الآن أيده 5 مرشحين رئاسيين.

رغم تشكك ناخبين عديدين في جدوى مثل هذا البرنامج الاجتماعي الموسع علينا أن ننظر إلى الخارج. فقد أدركت الصين وهي دولة قائدة أخرى في مجال الذكاء الاصطناعي أن الأتمتة المتقدمة قللت من أعداد العمال المطلوبين للتصنيع. نتيجة لذلك وسعت الحكومة في بيجينج من برنامجها الخاص بضمان الحد الأدنى لمستوى المعيشة (ديباو) لمساعدة هؤلاء العمال الذين تم إحلالهم.

علينا أيضا مراجعة التاريخ الأمريكي القريب وتذكر أن المستهزئين تشككوا يوما ما في إمكانية إجازة الكونجرس لبرنامج الرعاية الاجتماعية. لكن ذلك تحقق في عام 2034.

تبنت الولايات المتحدة أخيرا برنامج الرعاية الصحية «الذي تتحمل نفقاته جهة واحدة» بسبب التحولات في الإرادة السياسية والتقنية. فبحلول عام 2030 أصبح معظم العمال الأمريكيين متعاقدين أو عاملين بدوام جزئي وبالتالي غير مؤهلين للحصول على التأمين المرتكز على صاحب العمل. كنتيجة لذلك تم حشد نسبة كبيرة من الناخبين لتأييد برنامج الرعاية الصحية للجميع. وفي الوقت ذاته قللت التقنية الجديدة من كلفة إدارة الرعاية الصحية والفحص الطبي والعلاج مما جعل البرنامج قابلا للاستدامة في الأجل الطويل.

إن «قانون تجديد الأحلام الأمريكية» ليس حلا شاملا لانعدام المساواة الاجتماعية والاقتصادية الذي نعيشه الآن في الولايات المتحدة. لكنه الخطوة الأولى في إصلاح شبكة أماننا الاجتماعي حتى يتمكن الأمريكيون من الحصول على مستوى معيشي لائق عندما تجعل الآلات عملهم زائدا عن الحاجة.

من الواجب أن تدشن ثورة الذكاء الاصطناعي عصر الوفرة للجميع وليس تكديس الثروة في أيدي القلة.

* الكاتبة باحثة منتسبة بمركز حوكمة الذكاء الاصطناعي بجامعة أكسفورد وزميلة بمركز بيركمان كلاين للإنترنت والمجتمع بجامعة هارفارد.