الملف السياسي

أزمة كشمير في دورتها الجديدة واحتمالات التصعيد

19 أغسطس 2019
19 أغسطس 2019

د.صلاح أبونار -

في الخامس من أغسطس دخلت أزمة كشمير دورة جديدة جاءت معها باحتمالات تصعيد خطرة. فعلى الرغم من تلك الأزمة كانت السبب المباشر لنشوب حربين بين الهند وباكستان في عامي 1947 و1965، لم تشهد الأزمة عبر تاريخها على امتداد سبعة عقود متواصلة، تغيرا جذريا في القاعدة الحاكمة للتعامل معها.

فلقد كان أطراف الأزمة الثلاثة ومعها القوى الدولية وقرارات الأمم المتحدة، يتفقون على أن إقليم «جامو وكشمير» حسب مسماه الرسمي هو دولة تابعة للهند لكنها تتمتع بالاستقلال الذاتي، وأن التخلي عن تلك القاعدة يعني العودة بالأزمة إلى نقطة الصفر وإطلاق شرارة صراع شديد الضراوة.

ولكن قرارات الخامس من سبتمبر جاءت لتعصف بتلك القاعدة. في هذا اليوم تقدم وزير الداخلية الهندي بمشروع قانون للبرلمان الهندي، يطالب بالموافقة على إلغاء «المادة 370» من الدستور الهندي، ومعها «المادة 35 ألف» الملحقة بها. وتنص المادة 370 على منح الإقليم دستوره الخاص وعلمه الخاص واستقلاله في إدارة أموره، فيما عدا: الشؤون الخارجية والدفاع والاتصالات. بينما تنص المادة 35 على حق المجلس التشريعي لكشمير، في تحديد المقيمين في الدولة أي مواطنيها ومنح المواطن وثيقة تدل على ذلك ومعها نسق من الحقوق الحصرية، تتعلق بحق الملكية وشغل وظائف الدولة والمؤسسات التعليمية. ومن الواضح أن الهدف من المادتين كان الحفاظ على الهوية الثقافية والدينية لكشمير، وتمكين المعتبرين أهالي كشمير أي مواطنيها من السيطرة على مقدراتها الاقتصادية ومؤسساتها السياسية والمدنية. وكان الوجه الآخر والمنطقي لإلغاء المادتين هو إلغاء دستور كشمير، وتطبيق كافة قوانين الهند عليها، وسلب كشمير الحق في تحديد المواطنة ومعها نظام الحقوق الحصرية.

وعلينا إذا أردنا أن نفهم أصول الموقف الراهن أن نستدير صوب التاريخ. في عام 1947 انتهى الاستعمار البريطاني للهند، وصدر قانون استقلال الهند الذي أعلن تقسيمها إلى دولتين: الهند وباكستان، أما باقي الإمارات الصغيرة المستقلة والتي كان عددها 635 إمارة، فلقد منحها القانون الحق في الالتحاق بأي من الدولتين أو الاستقلال. وانضمت غالبية الإمارات إلى الهند فيما عدا ثلاث إمارات كان منها إمارة جامو وكشمير. كانت كشمير ذات الأغلبية المسلمة يرأسها المهراجا الهندوسي هاري سينج، الذي كان يفضل أصلا البقاء مستقلا ولكن تطورات الأحداث قادته وجهة أخرى. وفي أكتوبر 1947 قامت جماعات مسلحة تنتمي إلى قبائل باكستانية بغزو كشمير، وعندما عجز المهراجا عن مواجهتها قرر طلب مساعدة الهند العسكرية. ووافقت الهند على نجدته شريطة موافقته على معاهدة تنص على التحاق إمارته بالهند، وعندما وافق تدفقت القوات الهندية لنجدته مع هذا التحول في الموقف تحولت الإمارة إلى مسرح لصراع عسكري هندي – باكستاني، دفعت به الهند إلى الأمم المتحدة واستمر حتى يناير 1949 عندما نجحت الأمم المتحدة في وضع نهاية له، عبر فرض وقف لإطلاق النار وتحويل خط وقف إطلاق النار إلى ما تدعوه قرارات الأمم المتحدة «خط السيطرة»، ووفقا له أضحت المناطق الخاضعة لسيطرة القوات الهندية والباكستانية خاضعة فعليا وليس قانونيا لسيطرة الدولتين.

في سياق موازٍ دارت المفاوضات بين كشمير والهند حول شروط التحاقها بالهند. ولم يقتصر التمثيل الكشميري على السلطة الحاكمة الممثلة في المهراجا، فلقد شارك فيها أيضا ممثلون لحزب المؤتمر الوطني الكشميري بزعامة الشيخ محمد عبد الله، الذي شارك في يوليو 1949 ومعه ثلاثة من قادة الحزب في أعمال الجمعية التأسيسية الهندية، لمناقشة أحكام المادة 370 من الدستور الهندي. وفي عام 1950 بدأ سريان الدستور الهندي ومعه المادة 370. وفيما بين 1951 و1956 ستقوم القوى الكشميرية بإعداد دستور لكشمير يتسق مع أحكام المادة 370. في 1956 سيبدأ سريان هذا الدستور الذي أقر أن كشمير جزء لا يتجزأ من الهند وفقا لأحكام المادة 370، وفي عام 1957 أجريت في كشمير أول انتخابات تشريعية. ولكن هنا ينبغي التوقف وإيراد ملاحظة مهمة. كان لهذا التوافق الدستوري وجهه الآخر، الذي نصت عليه عدة قرارات لمجلس الأمن: قرار 21 أبريل 1948، وقرار 3 أغسطس 1948 وقرار 5 يناير 1949. وتنص القرارات الثلاثة على أن الوضع النهائي لكشمير، يحسم عن طريق المفاوضات بين الطرفين وعبر وسيلة ديموقراطية هي الاستفتاء العام وحق تقرير المصير. ولم يكن هذا مجرد موقف دولي من النزاع، فلقد رافقته مواقف معلنة من الهند وباكستان أقرا فيها التزامهما بحل المشكلة عن طريق التفاوض، وعبر استفتاء عام يتفق الطرفان على شروطه وملاءمته للظروف القائمة.

ولكن على أرض الواقع سارت الأمور في اتجاه آخر. فلم تكن هناك أي نوايا حقيقية لإجراء استفتاء، بل إنه مع مرور الزمن أخذ المعنى الحقيقي للمادة 370 في التآكل.

وفي اتجاه آخر موازٍ شهدت كشمير تطورات تنزع نزعة نقيضة، انطلقت مسيرتها عام 1966 في أعقاب الحرب الهندية – الباكستانية الثانية 1965 – 1966، تميزت بعدة صفات. فهي قاعدية واستقلالية المطالب، وبالتالي تتمايز عن اتجاهات النخب السياسية التوافقية، التي يتمثل سقفها السياسي في الحفاظ على المادة 370. وداخلها تحتل النزعات الأصولية مكانة بارزة، وتميل الفرق الشابة منها إلى العنف وتنزع صوب الإرهاب. وسوف تشهد السنوات الممتدة من 1977 إلى 2001 صعوداً متصلاً لتلك النزعات والجماعات المعبرة عنها، وفي أعقاب ذلك ومع دخول العلاقات الهندية – الباكستانية في مرحلة استقرار سوف تدخل في مرحلة تراجع دونما أن تختفي من المشهد السياسي. ولكن في 2016 ستعاود صعودها، لتساهم مع عوامل أخرى في دفع التطورات إلى نهايتها الراهنة.

ولقد جاءت التطورات الأخيرة نتيجة لتفاعل عدة عوامل. من جهة أولى هناك دور أساسي ومركزي للتغيرات داخل المشهد السياسي الهندي، ونعني بها صعود التيارات القومية الهندوسية المتطرفة والتراجع المتصل في قوة حزب المؤتمر الوطني الهندي، الذي صك الصيغة الدستورية للتعامل مع مشكلة كشمير. في مايو 2014 تولى حزب بهارتيا جانتا أي حزب الشعب الهندي السلطة للمرة الأولى، وهو حزب يميني هندوسي يتبني مواقف يمينية شعبوية متطرفة، تعلي بشدة من مفاهيم الأغلبية المتجانسة، ويعادي علمانية حزب المؤتمر المحايدة ساعيا إلى ما يدعوه بالعلمانية الإيجابية التي تقوم بتهميش وإقصاء الديانات الأخرى. وفي مايو 2019 اكتسح الانتخابات النيابية للمرة الثانية ليكسب بمفردة 303 مقاعد مقابل 52 لحزب المؤتمر، ويحقق عبر تحالفه القومي 353 مقعداً، مقابل 98 مقعدا لتحالف المعارضة. والحاصل أن الحزب وصل إلى السلطة للمرة الثانية بقوة كاسحة، ودونما معارضة يمكنها إعاقة خطوات، الأمر الذي أغراه بتنفيذ هدف إلغاء المادة 370التي كانت على رأس برنامجه السياسي. ومن جهة ثانية هناك تصاعد حالة التوتر السياسي داخل كشمير. والذي تجسد في صعود موجة جديدة للعنف السياسي، انطلقت في سبتمبر 2016 بالعملية الموجهة ضد وحدات عسكرية هندية في اوري، وتواصلت بعد ذلك حتى وصلت إلى ذروتها في عملية فبراير 2019 التي أسفرت عن مصرع 45 جنديا هنديا. علاوة على الاضطرابات السياسية التي تمثلت في مظاهرات يوليو في عامي 2016 ثم 2017 الحاشدة في ذكري استشهاد برهان واني. ثم قرار الحاكم المركزي بحل مجلس كشمير التشريعي في نوفمبر 2018، وإعلان الحكم المركزي الهندي المباشر لكشمير في الشهر التالي. وهناك من جهة ثالثة تصاعد التوترات في نطاق العلاقات الهندية – الباكستانية. انطلق هذا التصاعد من تصور هندي بوجود دور باكستاني داعم للعمليات العسكرية الكشميرية، سواء عبر دعم مادي ومؤسسي أو عبر التساهل معها من خلال تركها تشكل قواعد آمنة داخل أراضيها. ووفقا لتحليل لمحلل أمريكي متخصص يمكن رصد أبعاد هذا التوتر في رد الهند على هجوم فبراير 2019. حمل هذا الرد معه خصائص جديدة لا نجدها في ردود الهند العسكرية السابقة. للمرة الأولى منذ حرب 1971 بين الدولتين، لجأت الهند إلى استخدام الغارات الجوية، وكانت من قبل لا تستخدم سوى العمليات البرية الخاصة. وللمرة الأولى استهدفت الهند أهدافا عسكرية داخل الأراضي الباكستانية ذاتها، وكانت من قبل تقصر ردودها على أهداف داخل أراضي كشمير الواقعة تحت سيطرة باكستان.

ومن شأن التطورات السابقة موضوعة في سياقاتها الفاعلة أن تطرح السؤال التالي: ماهي احتمالات تطور الأزمة في دورتها الجديدة؟

يشكل القرار الهندي انقلابا كاملا على قواعد إدارة الأزمة كما توافق عليها الأطراف لعقود عديدة وهناك نتيجة مؤكدة للقرار الهندي وهي أن العنف السياسي سيتصاعد بحدة داخل كشمير، ومن المرجح كما تفيدنا الخبرات الماضية أن يتسع ليشمل أهدافا داخل الهند ذاتها، كما حدث في ديسمبر 1999 وديسمبر 2001 ونوفمبر 2008. وهناك نتيجة أخرى مؤكدة وهي أن التوتر العسكري سيتصاعد بين الهند وباكستان. ولكن يصعب تصور المدى الذي يمكن أن يأخذه. يصعب تصور مواجهة عسكرية شاملة بين دولتين نوويتين خاضتا من قبل ثلاثة حروب. والأصعب أن نتصور أن القوى الدولية ستقف ساكنة، بينما التفاعلات تدفع بالطرفين صوب هذه الحرب الشاملة. والأرجح أننا سنشهد مواجهات بينهما أدنى كثيرا من حرب شاملة، وبطيئة الإيقاع وخاضعة للتحكم. وفي كل الأحوال سوف يسهم عاملان في تشكيل احتمالات الأحداث. الأول هو الإيقاع الذي ستتبعه الهند في تحويل قراراتها إلى إجراءات واقعية ملموسة على الأرض، والثاني نمط حركة القوى الدولية ومدى قدرتها على الإحاطة بالأزمة ومنع تصعيدها عبر إطلاق مفاوضات دولية.