أفكار وآراء

وجــوب التخـطيـط لمســتقــبـل بــلا نــقــود

18 أغسطس 2019
18 أغسطس 2019

الإيكونومست- ترجمة قاسم مكي -

طوال الـ 3000 عام الماضية كانت النقود هي التي تخطر في بال الناس كلما فكروا في المال. تنطوي المعاملات اليومية من شراء الطعام إلى سداد قيمة المشروبات على تبادل أوراق متغضنة وقطع معدنية رنانة. لكن في أثناء العقد الماضي انطلقت ثورة المدفوعات الرقمية وصار من المألوف استخدام البطاقة البلاستيكية أو الهاتف الذكي لسداد قيمة المشتريات عند نقاط البيع بالمتجر. أما الآن فإن هذه الثورة على وشك تحويل النقود في بعض البلدان الغنية إلى «كائن مهدد بالانقراض». حقا يمكن أن يجعل ذلك الاقتصاد أكثر كفاءة. لكنه أيضا يطرح مشاكل جديدة قد تجعل الانتقال (من النقود المادية إلى النقود الرقمية) رهينا بحلها.

تتخلص البلدان المختلفة من النقود بسرعات متفاوتة. لكن وجهة « السفر» صارت واضحة وفي بعض الدول أوشكت الرحلة على الانتهاء. ففي السويد هبط عدد معاملات تجارة «التجزئة» للفرد الواحد بنسبة 80% خلال العقد الماضي. ويصل معدل المدفوعات النقدية إلى 6% فقط من إجمالي قيمة المشتريات في النرويج. ومن المحتمل أن بريطانيا متخلفة بحوالي أربعة إلى ستة أعوام عن بلدان شمال أوروبا (السويد والنرويج وفنلندا). وربما أن الولايات المتحدة متأخرة بعشرة أعوام.

أما خارج البلدان الغنية فلا تزال النقود هي السائدة. ولكن حتى هناك تتآكل هيمنتها. ففي الصين ارتفعت نسبة السداد رقميا من 4% من إجمالي المدفوعات في عام 2012 إلى 34% في عام 2017.

تكمن قوتان وراء تلاشي استخدام النقود تتمثل إحداهما في الطلب. فالزبائن الأكثر شبابا يريدون أنظمة مدفوعات «تتناغم» دون أي نشاز في حياتهم الرقمية. لكن من المهم بنفس القدر حقيقة أن الجهات التي تقدم السلع والخدمات مثل البنوك وشركات التقنية (في البلدان المتقدمة) وشركات الاتصالات (في البلدان الصاعدة) تقوم بتطوير تقنيات مدفوعات سريعة وسهلة الاستخدام وتتيح لها استخلاص بيانات والحصول على رسوم. فهنالك تكلفة مرتفعة لتشغيل البنية الأساسية التي يرتكز عليها الاقتصاد النقدي والتي تشمل أجهزة الصرف الآلي والمركبات الناقلة للأوراق النقدية والصرافين الذين يستلمون النقود المعدنية. لذلك معظم الشركات المالية حريصة على التخلي عن التعامل بالنقود أو ردع العملاء المتشبثين بها بفرض رسوم مرتفعة على معاملاتهم.

عموما إن قدوم الاقتصاد غير النقدي شيء ممتاز. فالتعامل النقدي غير كفء. إذ تقدر تكلفة سك العملة النقدية وفرزها وتخزينها وتوزيعها في البلدان الغنية بحوالي 0.5% من الناتج المحلي. لكن المكاسب لا تقف عند هذا الحد. فعندما يتم التخلي عن المدفوعات المادية أو النقدية (غير الرقمية) يقل تعرض الناس والمتاجر للسرقة. كما تتمكن الحكومات من تشديد الرقابة على حالات الغش وتجنب سداد الضرائب. إن «رقمنة» المدفوعات توسع بقدر كبير من مجال نشاط أصحاب منشآت الأعمال الصغيرة والتجار الأفراد بتمكينهم من البيع خارج حدودهم.

كما تنشئ الرقمنة أيضا تاريخا ائتمانيا للعملاء (يثبت قدرتهم على الوفاء بالالتزامات المالية) مما يساعدهم على الاقتراض.

لكن في مقابل هذه المنافع هنالك «حزمة» من دواعي القلق. فأنظمة الدفع الإلكتروني يمكن أن تتعرض للأعطال الفنية وانقطاعات التيار الكهربائي والهجمات الإلكترونية. في الشهر الماضي مثلا صار بنك «كابيتال وان» الأمريكي آخر شركة مالية يتم اختراقها (سرقة بياناتها). أيضا في الاقتصاد النقدي قد يتخلف عن ركب الفقراء وكبار السن وأهل الريف. كما أن التخلص من النقود، وهي نظام سداد مستتر، لمصلحة نظام رقمي قد يتيح للحكومات التلصص على عادات الناس في التسوق والشركات العملاقة الخاصة استغلال بياناتهم الشخصية.

توجد ثلاثة حلول لهذه المشاكل.

أولا، على الحكومات ضمان عدم حلول «احتكار» جهات خاصة للأموال الرقمية محل«احتكار» البنوك المركزية للعملات المعدنية والورقية. فبدلا من ترك قلة قليلة من شركات بطاقات الائتمان تبسط هيمنتها على «القنوات» الإلكترونية للمدفوعات الرقمية يجب على الحكومات فتح هذه القنوات لسلسلة من الشركات المالية الرقمية التي يمكنها إرساء خدماتها على هذه القنوات.

كما يلزم الحكومات حث البنوك على تقديم خدمة التحويلات الرقمية الفورية من بنك إلى بنك بين حسابات الإيداع كما في السويد وهولندا. ويجب أن يؤدي التنافس إلى إبقاء الأسعار عند مستوى منخفض بحيث يتمكن الفقراء من الاستفادة من معظم الخدمات المقدمة. كما يجب أن تعني المنافسة أنه في حال تعثر شركة ما يمكن للشركات الأخرى الحلول محلها مما يجعل النظام مرنا.

ثانيا، على الحكومات التمسك بوجوب حفاظ البنوك على سرية بيانات العميل وخفاء قنوات معاملاته. ويجب أن تكون الشركات الرقمية التي تستخدم هذه القنوات لتقديم الخدمات حرة في «تنقيد» بيانات المعاملة، مثلا عبر الإعلانات، طالما ظل نموذج عملها التجاري (نمط حصولها على الربح) معلوما للمستخدمين. وسيفضل بعض الزبائن الخدمات المجانية التي ترصد مشترياتهم فيما سيرغب آخرون في دفع مقابل هذه الخدمات لتجنب ذلك.

ثالثا وأخيرا، من اللازم أن يكون التخلص من استخدام النقود تدريجيا. يجب إلزام البنوك، لفترة تمتد إلى عشرة أعوام، بقبول وتوزيع النقود في المناطق المأهولة بالسكان. فمن شأن ذلك أن يتيح للحكومات الوقت الكافي لمساعدة الفقراء على فتح حسابات مصرفية وتعليم كبار السن وتعزيز استخدام الإنترنت في المناطق الريفية.

لقد نتج التدافع نحو استخدام النقود الرقمية عن ابتكار وطلب تلقائيين (حدثا بطريقة عفوية). ولكي تجني الحكومات كل المكاسب التي ستترتب عن هذا التدافع عليها الاستعداد لذلك اليوم الذي تتداول فيه الأيدي أوراق البنكنوت المهترئة لآخر مرة.