أفكار وآراء

نقاش مكانة القدس في العملية الوطنية الفلسطينية

17 أغسطس 2019
17 أغسطس 2019

ماجد كيالي -

على الدوام ظلت قضية القدس تحتل مكانة متميزة في مسيرة الكفاح الوطني الفلسطيني، في كل المراحل، وفي مختلف التطورات المتعلقة بالصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل، حتى إنها كانت من بين أهم قضيتين (مع قضية اللاجئين) اللتين أدتا إلى إخفاق مفاوضات كامب ديفيد 2 (يوليو 2000)، التي كانت جرت بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي تحت رعاية الولايات المتحدة الأمريكية في ظل إدارة بيل كلينتون.

وكانت أعلى تجليات الكفاح الفلسطيني من أجل القدس في الانتفاضة الأولى (1987ـ 1993)، إذ أضحت بمثابة عاصمة فعلية للفلسطينيين ومركزا قياديا لانتفاضتهم، سيما مع وجود القيادة الرسمية في الخارج (وقتها)، ومع بروز شخصيات مقدسية ذات مصداقية، كان على رأسها المرحوم فيصل الحسيني. وقد برز في تلك الفترة مركزان لعبا دورا كبيرا في الانتفاضة، الأول، هو المسجد الأقصى، إذ باتت صلاة الجمعة، التي كان يحتشد فيها مئات ألوف الفلسطينيين، بمثابة واحدة من أهم مظاهر الانتفاضة ورفض الفلسطينيين للاحتلال، والتحريض على المقاومة. والثاني، «بيت الشرق»، الذي كان بمثابة مركز توجيه للانتفاضة، وكمعبر عن الفلسطينيين في الأرض المحتلة، إذ بات مقرا يزوره وزراء أجانب وسفراء وقناصل ومراسلو وسائل إعلامية.

الجدير بالذكر هنا أن هذه المكانة للقدس، وللقيادات المقدسية، ظهرت بفضل انتفاضة الفلسطينيين في الأرض المحتلة، ومن دون تدخل من القيادة الرسمية، مع التذكير أن «هبة النفق» (1996) حدثت بسبب قيام إسرائيل بإجراء حفريات تحت المسجد الأقصى، وأن الانتفاضة الثانية (2000ـ2004) اندلعت إثر انتهاك أريئيل شارون حرمة المسجد الأقصى (أواخر سبتمبر 2000).

المشكلة في قضية القدس أنها تحتل مكانة مركزية ورمزية، تاريخية ودينية، في إدراكات الطرفين المتصارعين (إسرائيل والفلسطينيين)، في صراع صفري، أو وجودي، حيث كل طرف ينطلق من أن أي مكسب لأحدهما يعني خسارة للطرف الآخر، علما أن قضية القدس بالنسبة للفلسطينيين بات لها، إضافة إلى رمزيتها أو مكانتها الدينية والتاريخية، مكانة وطنية أيضا، إذ فيها سجلت بدايات الحركة الوطنية الفلسطينية (ما قبل النكبة) مع إنشاء «الجمعيات الإسلامية ـ المسيحية» (مطلع القرن الماضي)، وتشكيل «الهيئة العربية العليا» بزعامة الحاج أمين الحسيني، مع مجمل الهبات والتطورات التي حفلت بها تلك المدينة، إلى حين استكملت إسرائيل احتلالها (1967). أما فيما بعد فقد كانت مدينة القدس أحد مراكز الكفاح الفلسطيني، والانتفاضات الفلسطينية (حتى الآن)، بل إنها احتلت مكانة مركزية في الانتفاضتين الأولى (1987ـ1993) والثانية (2000ـ2004)، عبر المسجد الأقصى، وبيت الشرق، والجمعيات الفلسطينية في القدس الشرقية، وصولا إلى المرحلة الراهنة، مع الهبات الشعبية التي بتنا نشهدها في القدس الشرقية، ضد الإجراءات الإسرائيلية الرامية لتهويد المدينة، وهدم البيوت فيها ومصادرة الأراضي وبناء الجدار الفاصل وتعزيز المستوطنات، كما ضد سياسة ترامب القاضية باعتراف الولايات المتحدة بسيادة إسرائيل على القدس (أواخر 2017).

السؤال الآن: هل يمكن الحديث عن قضية خاصة للقدس؟ بداية يمكن القول بخطأ تجزئة القضية الفلسطينية، باعتبار أنها قضية تحرر وطني، أي قضية شعب سلبت أرضه وانتزعت حقوقه وحرم من هويته؛ هذا أولا. وثانيا، لأن إسرائيل هي التي تسعى، في حقيقة الأمر، لتجزئة قضية فلسطين، وتجزئة حقوق شعب فلسطين، لأن تلك هي الوصفة الأنسب لها لتقويض صدقية القضية الفلسطينية، وفكفكة مفهوم الشعب الفلسطيني، وقضم الحقوق الوطنية للفلسطينيين. وثالثا، لأن القول بقضية خاصة للقدس، قد يفيد بتحويل الصراع من أجل التحرر الوطني، إلى نوع من صراع ديني، وهو فضلا عن أنه خاطئ ومضر، فهو يخدم هدف إسرائيل، التي تدعي بأن الصراع يجري بين شعبين على الحقوق والادعاءات التاريخية والدينية ذاتها. رابعا، قد يفيد التذكير هنا بأن الحركة الوطنية الفلسطينية عندما كانت تطرح برنامج التحرير، قبل عقد اتفاق أوسلو (1993)، لم يكن ثمة قضية خاصة للقدس، أو لأية قضية أخرى (وضمنها اللاجئين)، إذ كان مفهوم التحرير يتضمن استعادة القدس (شرقية وغربية)، وعودة اللاجئين، كنتيجة لعملية التحرير. والمعنى أن قضية القدس تميّزت بعد التحول من برنامج التحرير إلى برنامج التسوية، أو إلى حل الدولتين، وعلى أساس إنهاء احتلال إسرائيل للضفة الغربية وغزة، واعتبار القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية القادمة (كما جرى التعبير عن ذلك في إعلان الاستقلال الفلسطيني (1988).

بيد أن كل الاعتبارات المذكورة لا تحول دون استثمار المكانة التاريخية والرمزية للقدس في الصراع من أجل التحرر الوطني، وفق رؤية وطنية، تطابق بين أرض فلسطين وشعب فلسطين وقضية فلسطين، من مختلف جوانبها، وانطلاقا من أن شعب فلسطين واحد في كافة أماكن وجوده، في رواية واحدة وهوية واحدة، وإن اختلفت الظروف والأولويات، بمعنى أنه ينبغي الحذر من قصر قضية القدس على مكانتها الدينية، أو إعلاء شأن مكانتها الدينية على حساب مكانتها الوطنية، كمدينة في مكانة القلب بالنسبة للجغرافية والشعب الفلسطينيين.