أفكار وآراء

عالم ثنائي أم متعدد الأقطاب؟

16 أغسطس 2019
16 أغسطس 2019

إميل أمين - كاتب مصري -

[email protected] -

ما الذي تجري به الأقدار في محيط الكرة الأرضية، وهل هو تقدم إلى الخلف أم صعود إلى الهاوية من جديد؟

عدة علامات استفهام حول تطورات المشهد الدولي الجديد، الذي يقترب من الانفجار رويدا رويدا، لا سيما بعد أن تبدلت مشاهد اللعبة الجيوسياسية الأممية.

خيل للعالم مع نهاية ثمانينات القرن المنصرم وبدايات التسعينات أن زمن القطبية الثنائية الذي عرفته الإنسانية منذ قرون طويلة قد ولى، وأن الحاضر أحادي القطبية، أو هكذا زعمت الولايات المتحدة الأمريكية، حيث كانت قد انفردت بمقدرات العالم في زمن جورج بوش الأب، ونادى المنظرون بأنه زمن الأحادية القطبية الأمريكية، وأوان انفراد واشنطن بالعالم.

غير أنه ومن دون أي مقدرة على الاستشراف المبكر، لم يطل المقام بهذه الأحادية، وبدا وكأن المشهد الأممي يعود ثانية إلى قطبية ثنائية بأكثر مما توقع البعض، وفي المقدمة منهم ريتشارد هاس المنظر الأهم للسياسات الأمريكية من أقطاب متعددة.

ما الذي يدعونا إلى طرح فكرة عودة الثنائية الأممية من جديد؟

تبدو تطورات أو بالأحرى تدهورات المشهد الدولي هي المنطلق والوازع الذي يقودنا في ثنايا وحنايا هذا التفكير، وفي المقدمة منها إشكالية الانسحاب الأمريكي من معاهدة التسلح النووي للصواريخ قريبة ومتوسطة المدى، الأمر الذي دعا البروفيسور الروسي (ليونيد كروتاكوف)، المدير العام لصحيفة البرافدة الروسية للإشارة في حوار أخير له إلى أن زمن القطبين العالميين يعود الآن من جديد، وأنه إذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية من وجهة نظره تسير على طريق فقدان مواقعها، فإن ذلك لم يغير من أهدافها وغاياتها في الهيمنة، وعنده أنها هي وبريطانيا يخترعان أفكارًا زائفة ومدمرة عن روسيا وحول بوتين، ولا تكفان عن وضع خطط لإخضاع روسيا التي يصفها بأنها تمتلك الموارد الأساسية لتنمية الاقتصاد العالمي.

جاءت خطة الانسحاب الأمريكي من المعاهدة الصاروخية التي تم توقيعها العام 1987 مع الاتحاد السوفيتي لتطرح الكثير من الأسئلة عن بقية الاتفاقيات الخاصة بالحد من انتشار الأسلحة النووية، هل هو زمن الانتشار ما بعد النووي في البر إلى البحر والفضاء؟

الاتفاقية التي نحن بصددها تعود إلى نهاية الثمانينات من القرن المنصرم، والتي قضت بالحد من انتشار فئة كاملة من الأسلحة ذات الإمكانات النووية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في نهاية الحرب الباردة؛ إذ حظرت المعاهدة الصواريخ التي تطلق من الأرض، والتي يبلغ مداها من 500 إلى 5500 كيلومتر أي حوالي 200 إلى 3400 ميل.

كانت الاتفاقية خطوة حقيقية في إطار تخليص العالم من شرور الأسلحة النووية، فقد تم تدمير نحو 2693 صاروخًا قصير المدى ومتوسطه، لولا تلك المعاهدة كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي كلاهما سوف يوجه هذا العدد من الصواريخ ضد الآخر.

من المذنب؟ وما السبب في الانسحاب الأمريكي الذي يعود بنا إلى دائرة الثنائية التي نشير إليها؟

في تقرير الأيام الماضية لمجلة الفورين بوليسي الأمريكية نقرأ: «إن الأمريكيين والأوربيين يتهمون الروس بأنهم طوروا منظومة صاروخ كروز أرضي من نوع (نوفاتور 9 إم 729)، الذي يعتقد أن مداه يتراوح بين 500 إلى 5500 كيلومتر».

والحقيقة أن الروس في السنوات الأخيرة قد أعلنوا كثيرا جدا عن أسلحة صاروخية مخيفة عادت بنا إلى زمن السباق ما بعد القريب والمتوسط المدى، وأسلحة فرط صوتية، وعندهم أن هذا ليس إلا نوعا من أنواع الحماية الذاتية ودرء أخطار الشبكة الصاروخية الأمريكية في الفضاء، تلك التي يستخدم فيها الليزر لإبطال مفاعيل الصواريخ الأرضية.

يمكن للمرء أن يدلل على عودة الثنائية القطبية من باب الصراع على امتلاك أكبر وأخطر الصواريخ بين الجانبين الأمريكي والروسي مثل (مينيتمان الأمريكي) و (توبول الروسي).

الصاروخ الأمريكي عابر للقارات، قادر على حمل رؤوس نووية، من تصميم وصناعة شركة بوينج، يصل وزنه إلى 36 ألف كيلوجرام، وتصل سرعته إلى 23 ماخ. أما مدى الطيران فيصل إلى 13 ألف كيلومتر، فيما يصل أقصى ارتفاع تحليق إلى ألف و100 كيلومتر.

وعلى الجانب الروسي؛ فإن صاروخ توبول هو صاروخ باليستي محمل على عربة ويمكن إطلاقه من القواعد الأرضية، يصل أقصى مدى له 11 ألف كيلومتر، فيما يصل طوله إلى 22 مترا، ووزنه إلى 47 ألف كيلوجرام، وتصل أقصى سرعة له إلى 22 ماخ، ويستطيع حمل رؤوس نووية.

ومن المعروف أن روسيا لا تزال أكثر دولة لديها أسلحة نووية، بتعداد كلي يشمل الأسلحة خارج الخدمة وداخلها والمخزنة، يصل إلى 6500 رأس نووي، فيما يصل عدد الرؤوس النووية الأمريكية إلى 6185 رأس، بحسب اتحاد العلماء الأمريكيين.

تأتي الخطط الأمريكية العسكرية الأخيرة من أجل تعميق فكرة عودة ثنائية القطبية، وفي المقدمة منها الصواريخ الجديدة التي ستصوب نحو جبال الأورال وكامتشاتكا، لا سيما بعد أن أعلن وزير الدفاع الأمريكي الجديد (مارك اسبر) عن نية بلاده نشر صواريخ متوسطة وقصيرة المدى في آسيا، وقال: «لقد حان الوقت لنحرر أنفسنا من الاتفاقية، ونتمتع بإمكانية الدفع بمصالحنا، وحلفاؤنا في الناتو يشاركوننا هذا الرأي».

التساؤل المطروح الآن من الجانب الروسي يبدو كالتالي: ما حاجة الأمريكيين إلى نشر صواريخهم في آسيا؟

المعروف أن مفاوضات نزع السلاح عادة ما تستمر لمدة طويلة، وقد يمر عام واثنان وثلاثة، فيما وزير الدفاع الأمريكي الجديد يأمل في نشر صواريخ جديدة في آسيا في الأشهر المقبلة.

هل المشهد عبارة عن خدعة أمريكية لجر الصين وروسيا إلى اتفاقية صواريخ جديدة لمصلحة واشنطن كما جاء في مقال لـ(اندريه ريزتشيكوف) في (فزغلياد) الروسية؟

الشاهد أن نشر الأمريكيين المحتمل للصواريخ التي كانت تشملها في السابق معاهدة الصواريخ المتوسطة وقصيرة المدى في اليابان لن يهدد الصين فقط، بل كذلك المنشآت والقواعد العسكرية الاستراتيجية الروسية الموجودة في الشرق الأقصى. هنا يظهر العسكريون الروس على الملأ، ومنهم على سبيل المثال الجنرال (يوري نتكاتشيف)، الذي يرى أن «الصواريخ التي يمكن أن تنشرها الولايات المتحدة في قواعدها العسكرية في أفغانستان ستشكل خطرا خاصا على الحاميات العسكرية الدائمة والمنشآت الاستراتيجية الموجودة في جبال الأورال الجنوبية وسيبيريا الغربية».

في الحديث عن إشكالية الثنائية القطبية هذه المرة تبدو في الأفق ملامح ومعالم مغايرة للثلاثي الأكبر الذي كان ولا يزال يعد الأقوى فاعلية في خريطة العالم، ونعني بهذا: واشنطن وروسيا وبكين... ماذا نعني بذلك؟

الشاهد أن واشنطن كانت دائمًا تلعب على المتناقضات، وتغزل على التباينات ما بين موسكو وبكين؛ ففي أوائل السبعينات، وحين كانت موسكو القطب الضد والند لواشنطن لعبت الدبلوماسية الأمريكية، وبرع هنري كيسنجر في نسج شباكه حول الصين، وما عرف وقتها بدبلوماسية البنج بونج.

ومع تغير مراكز النفوذ العالمي، وصعود بكين -التي أضحت المهدد القطبي الأكبر لواشنطن- بدأنا نرى محاولة أمريكية لتمتين روابط العلاقات مع موسكو من أجل مجابهة الصين.

هنا يمكننا الحديث عن وحدة رأي وتوجه صيني– روسي لملاقاة النسر الأمريكي، وربما هذا ما اتضح من خلال التصريحات التي أعقبت حديث مارك إسبر عن نشر صواريخ أمريكية في آسيا.

في أعقاب التصريحات الأمريكية حذرت الصين الولايات المتحدة من مغبة نشر صواريخ في منطقة شرق آسيا والمحيط الهادي داعية أيضا دول المنطقة، خصوصا اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا، إلى أن تكون «حذرة».

ما الذي يمكن للصين فعله؟ مؤكد أنها ستتلاقى استراتيجيا مع الجانب الروسي، وفي هذا الإطار كان (فو كونغ)، المدير العام لمراقبة الأسلحة في الخارجية الصينية يصرح للصحفيين بأن «الصين لن تبقى مكتوفة، وستكون مضطرة إلى اتخاذ تدابير انتقامية في حال نشرت الولايات المتحدة صواريخ متوسطة المدى في هذه المنطقة من العالم».

والثابت أنه حين تنشر واشنطن صواريخها في آسيا، فإنه يمكنها بذلك أن تقارع الصين؛ لأن القسم الأكبر من ترسانة بكين يضم أسلحة كانت محظورة بموجب المعاهدة التي لم توقعها الصين.

يعتبر وزير الدفاع الأمريكي إسبر أنه على الصين ألا تفاجئ بالخطط الأمريكية، وعنده «إنه ينبغي ألا يشكل ذلك مفاجأة؛ لأننا نتحدث عنه منذ وقت غير قصير»، ويضيف: «أود أن أؤكد أن ثمانين في المائة من ترسانتهم مؤلفة من أسلحة تشملها معاهدة الأسلحة المتوسطة. ليس مفاجئا إذن أن نبدي رغبتنا في قدرات مماثلة».

هل سنشهد الآن مولد تحالف قطبي ثنائي جديد حول العالم بين بكين وموسكو؟

أغلب الظن أن ذلك كذلك بالفعل والقول، وعليه فإننا لم نعد أمام عالم ثنائي القطبية بل متعدد الأقطاب لا سيما أن بريطانيا وبقية دول أوروبا لم تعد تداري أو تواري مخاوفها من الصعود الروسي الكبير، الذي بدا في دعم الحركات القومية والشوفينية الأوروبية، تلك التي تغذيها روسيا بالأموال تارة، وبالخبرات الانشقاقية تارة أخرى.

لن تقف بريطانيا مكتوفة الأيدي أمام التهديدات الروسية المتمثلة في الغواصات الحديثة الخاصة بموسكو، ذات المحركات التي تعمل بالديزل والكهرباء، التي يمكنها مراقبة تحركات الأسطول الملكي البريطاني، والتلاعب إن أرادات بكوابل الاتصالات تحت المياه.

إلى ذلك يتردد الحديث بانتظام عن (تهديد روسي) على لسان مسؤولين عسكريين بريطانيين، ففي يناير 2018 زعم وزير الدفاع البريطاني آنذاك (غافن ويليامسون) أن موسكو تعمل على تطوير خطة لتدمير البنية التحتية الحيوية في بلاده، وقال: «سوف يفكرون هكذا: كيف يمكننا أن نجعل بريطانيا تتألم جدا؟ إيقاع خسائر في اقتصادها، وتمزيق بنيتها التحتية، والتسبب بالآلاف من الموتى ومحاولة خلق فوضى كاملة في البلاد». يعني المشهد باختصار غير مخل أن الناتو سيجد قبلة الحياة في أزمة معاهدة الصواريخ وأنه سيسترجع الوحدة والاتحاد مع أوروبا وكندا وأستراليا على أضعف تقدير.

باختصار غير مخل في عالم متعدد الأقطاب يسعى الأمريكيون إلى تكبيل أيدي روسيا بمعاهدة جديدة تمنع نشر أحدث الأسلحة، وفي الوقت نفسه إطلاق أيديهم في نشر صواريخ متوسطة وقصيرة المدى وإنتاج أسلحة نووية تقليدية من أجل تحقيق توازن مع صواريخ بوتين.

كما سيطلب الأمريكيون من روسيا التخلص من طوربيدات بوسيدون القادرة على أحداث تسونامي مهلك بالقرب من شواطئ أمريكا الشرقية والغربية، كما سوف يسعون إلى منع نشر مجمعات افانغارد وصواريخ سارامات... إنه عالم على شفا الانفجار فانظر ماذا ترى؟