أفكار وآراء

​الفعل التواصلي عند الفيلسوف الألماني هابرماس

16 أغسطس 2019
16 أغسطس 2019

د. فاطمة واياو -

يوم 18 يونيو الفائت، احتفلت ألمانيا بمرور تسعين عامًا على ميلاد فيلسوفها الكبير يورغن هابرماس بما يليق بنِتاجه وشخصه المعرفيّ الرصين، حيث مَنحت تتويجًا لأهمّ فلاسفتها الأحياء، وذلك على الرّغم ممّا شابَ إحدى مُحاضراته في مدينة فرانكفورت، التي حضرها أكثر من 3000 مُستمِع يوم 19 (يونيو) الماضي، من طارئ غير عادي متمثِّلا في محاولة نسفها ربّما، عقب الإعلان عن الإنذار بنشوب حريق والطلب من الحضور جميعًا إخلاء المكان؛ بحيث ظلّ السؤال عالِقًا: هل كان هناك تهديد فعلًا أو أنّ الأمرَ كان حربًا خفيّةً ضدّ فكرٍ متنوِّر في عالَم العَولمة المتوحّشة اليوم، التي تكتوي بنارها مبادئُ أوروبا الحرّة الديمقراطيّة وأفكارُها قبل أن تهدِّد عالَم الجنوب بديكتاتوريّاته وانغلاقه الفكري؟

إذا كان مفهوم الفضاء العامّ أو العمومي، لا نجد أساسًا له في التفكير الفلسفي والسياسي العربي، باستثناء ما ذكره ابن خلدون في مقدّمته عن ترتيب عمران المدينة، أي الفضاء العامّ، هذه الإرهاصات الخلدونيّة التي لم تُتبع بتراكماتٍ معرفيّة عربيّة كفيلة بتأسيس فلسفة مُتكاملة عن الفضاء العامّ العربي الإسلامي، فإنّ الفكر الفلسفي الأوروبي اهتمّ بهذا المفهوم، وذلك منذ عصر الأنوار مع إيمانويل كانط إلى الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس الذي أصَّل له وذهبَ إلى أنّ الفضاء العامّ «يحتلّ مَوقعًا مركزيًّا في الفكر السياسي المُعاصر، باعتباره مجالا للمُناقشة وإطارًا لمُختلف القدرات الفكريّة على البرهنة والإقناع»، (فاطمة واياو، [النساء في الفضاء العامّ المغربيّ: إقصاء متواصل وعنف مؤبّد]، هسبريس، 15/‏‏‏‏‏ 7/‏‏‏‏‏ 2015).

هابرماس فيلسوفًا:

كان صعود الرأسماليّة واندحار المرحلة النازيّة من أهمّ الأسباب التي جعلت هابرماس يتساءل عن جدوى الفلسفة، وتأثيرها على فعل التواصل، وهذا السؤال الإشكالي جعل منه أحد أهمّ الفلاسفة المُعاصرين الذين أسَّسوا للتواصل، بخاصّة في المجال العامّ، وذلك من خلال إسهاماته التي أضافها على ما جاءت به مدرسة فرانكفورت.

ففي الخمسين كِتابًا التي ألَّفها يورغن هابرماس كان يطرح الإشكال الفلسفي للقرنَين العشرين والحادي والعشرين، باعتباره آخر الفلاسفة المُخضرَمين؛ فكان المحور الإشكالي لديه يتمثّل في محاولته إيجاد معنًى ودَورٍ للفلسفة في العصر الحالي الذي يتّسم بهَيمنة التقنيّة والتكنولوجيا والعلوم الفزيائيّة والنزعة الوضعيّة، فكان السؤال الذي طرحه عن دَور الفلسفة في خضمّ هذا المعترك مشروعًا، بل ملحًّا.

ولأنّ هابرماس يؤمن بأنّ النقد لا يُمكن أن يكون فعّالًا إلّا إذا نتج عنه بناءٌ عقلاني جديد؛ فقد سعى إلى تطوير مفهومٍ جديد للفلسفة قائم على تفكيره الفلسفي البعيد عن الإطار الميتافيزيقي، الذي يتّجه إلى أنّ الفلسفة ليست من العلوم الحقّة، وقد استند هابرماس في طرحه هذا على ما توصّلت إليه مدرسة فرانكفورت التي تأثَّر بأعمالها قبل أن يُصبح واحدًا من فلاسفتها الكِبار، ولاسيّما تأثّره بأستاذه تيودور أدورنو.

ولعلّ سجاله مع مارتن هايدجر شكَّل أبرز إسهاماته في مجال الفلسفة، حيث عمل من خلال ذلك على دحض الفكر النازي الذي كان مُسيطرًا، ونجحَ أيضًا في القطيعة مع الفلسفة المُطلقة والأداتيّة معًا، حيث جعلَ الفلسفة حركة تواصليّة نقديّة وإجرائيّة تُعانِق المعيش اليومي ولا تنفصل عنه.

هابرماس مُفكّرًا:

إضافة إلى سؤال الفلسفة، عُرف هابرماس على الخصوص باشتغاله على إشكاليّة الفضاء العامّ والتواصل، فقد أفرد العديد من أبحاثه حول قضيّة الفضاء العامّ، لم يكُن هابرماس الأوّل ولا الوحيد الذي اشتغل على هذا المفهوم؛ إذ سبق للفيلسوف إيمانويل كانط أن قدَّم تعريفًا للفضاء العامّ في مؤلّفه (ما هو التنوير) سنة 1784، ووردت فيه عبارة الاستعمال العمومي للعقل، وكان ذلك الإرهاص الأوّل لظهور مفهوم المجال العامّ أو الفضاء العامّ.

غير أنّ هذا المفهوم -الذي ظهر في القرن الثامن عشر- سيختفي إلى حدود ستينات القرن العشرين، وبالتحديد سنة 1961 حيث سيُعيد يورغان هابرماس البحث مرّة أخرى في إشكاليّة الفضاء العامّ من خلال أطروحته حول: «التحوّلات البنيويّة للأوضاع الاجتماعيّة».

فما الفضاء العامّ عند هابرماس؟ وكيف ينتظم؟ وكيف يتمّ التواصل فيه؟

هناك من أَخطأ التقدير واعتبرَ أنّ هابرماس ينتصر للدّين على حساب العقلانيّة أو علمانيّته، غير أنّه على العكس من ذلك، في كلّ نقاشاته كان يُحارب تسلّط الدّين ويُحاول قدر الإمكان إيجاد مَوطئ قدمٍ له في الفضاء العامّ من دون أن يُصبح مُسيطرًا كما حدثَ إبّان عصر القرون الوسطى ومثلما هو واقع الحال الآن، وهو في مقاربته هذه يستنير بفلسفة كانط في هذا المجال، وينتصر للعقل والعقلانيّة ولا يقبل بأيّ شكل من الأشكال أن يُصبح العقل خاضِعا للدّين.

هكذا نلمح تأسيسًا حداثيًّا لمفهوم الفضاء العامّ باعتباره ذلك الفضاء الوسط الذي يقع بين المجالَين الخاصّ، وهو الأسرة وما يترتّب عنها، وفضاء السلطة مُمثَّلًا في الحكومة. وهابرماس يرى أنّ وسائل التواصل الحديثة والمُعاصرة جعلت من الفضاء العامّ مجالًا لتبادُل المعلومة وتحقيق تواصلٍ حرّ وواسِع الانتشار ينفلت من الرقابة، ليتّخذ أشكالًا تعبيريّة حرّة، فلم يعُد فعل التواصل مُقتصرًا على نُخبٍ بعَينها، بل على شريحة واسعة من الناس.

يركّز هابرماس جهوده على محاولة التقريب بين وجهات النظر بين العلمانيّين والدينيّين ومحاولة نبذ الأصوليّة التي يعتبرها ذات شقَّين: الأصوليّة الغربيّة والأصوليّة الشرقيّة، اللّتين تخفيان صراع المَصالح الاقتصاديّة والتجاريّة المُقنَّعة بالمصالح السياسيّة.

هابرماس عقلانيًّا تعدّديًّا... ولكنْ؟

لكنّ تعدديّة هابرماس لم تكُن شاملة؛ فقد تعرَّضت نظريّته حول المجال العامّ للنقد، وبخاصّة من طرف الفيلسوفة الأمريكيّة (نانسي فريزر) التي تُعتبر من الجيل الثالث لمدرسة فرانكفورت والتي اهتمّت بشكلٍ خاصّ بدحض فكرة أنّ المجال العامّ يقوم على الطبقة البرجوازيّة فقط، وقد ربطت بين انحياز هابرماس لهذه الطبقة وإغفاله أهميّة الحركة النسويّة أو المجال العامّ بالمفهوم النسوي؛ فهي تذهب إلى أنّه عمليًّا تمّ استبعاد النساء والعديد من الجماعات الأقليّة الأخرى من النقاش، لتخلص إلى أنّ الفضاء العامّ الهابرماسيّ (نسبة إلى هابرماس) ليس إلّا فضاءً برجوازيًّا ذكوريًّا بامتياز يعتمد الإقصاء.

هابرماس سياسيًّا:

يقول هابرماس: «إنّ مستقبل الفكر الفلسفيّ يظل مرهونًا بالمُمارَسة السياسيّة»، وقد لا ننكر أنّ مُجابَهة هابرماس للنازيّة ونقده اللّاذع لما ارتكبته في حقّ اليهود، ومَوقفه من إسرائيل، فيها الكثير من الحماسة للجانب الإسرائيلي على حساب الحقوق الوجوديّة للشعب الفلسطيني، إلّا أنّ ذلك لا يمنع من التأكيد على أنّ إسهاماته في التفكير الفلسفي السياسي تصل إلى مداها حين جعل من الديمقراطيّة التداوليّة والتواصليّة أساس الفكر الفلسفي السياسي.

فقد شكَّل فكر هابرماس مجالًا لإعادة إيقاظ الديمقراطيّة بعدما أدخلتها النازيّة في سبات عميق، ما أتاح سيطرة الفكر الدكتاتوري الاقصائي، ولعلّ جهود هابرماس تركَّزت أوّلًا في التخلّص من بقايا الفكر النازي التي علقت به عندما كان في صفوف الشبيبة النازيّة، وبالتأكيد كان ذلك عملًا جبّارًا حينها، ما جعله يحارب الفكر النازي الذي نخر بنية العقل الألماني عن طريق التربية والتعليم في عهد النازيّة، ومن هنا يُمكن القول: إنّ هابرماس يدعو في النهاية إلى مجتمع التعدديّة الثقافيّة؛ حيث يُسهم الجميع في التواصل داخل الفضاء العامّ من دون ديكتاتوريّة دينيّة أو سياسيّة أو ثقافيّة على الرّغم من إقصاء فئات معيّنة كما سبقت الإشارة إلى ذلك، بمعنى أنّ هابرماس بموقفه هذا يُعارِض مَوقف هنتنغتون الذي انتهى إلى صراع الحضارات وإلى أنّ الحضارة الغربيّة هي المُنتصرة في حربها ضدّ الحضارات الأخرى، بل على العكس من ذلك هابرماس يؤمن بضرورة التواصل العقلاني الحرّ وجدواه من أجل السلام العالَمي.

السؤال الذي يُمكن طرحه ختامًا: هل أصبح الفضاء الافتراضي ممثلا البديل الأنسب للفضاء العمومي العربي؟ ففيه تتحقّق الحريّة والديمقراطيّة، والأهمّ حريّة التعبير للجميع. فهل يصبح نزْع الخوف عن المُواطن العربي لا يتمّ إلّا عبر الفضاء الافتراضي، حيث يغدو الفضاء العامّ البديل الذي أَسَّس له هابرماس كفضاء للحريّة ونزْع الخوف؟ بهذا يكون المواطن العربي قد استطاع أن يصوغ فضاء عامًّا ينفلت من ربقة السلطة ومن القمع، ليرسم حريّة وحوارًا، بل كذلك احتجاجًا ناجحًا. ولعلّ حملة (مُقاطعون) التي قام بها المواطنون المغاربة احتجاجًا على الغلاء، والتي تمّ التنسيق لها عبر مَواقع التواصل الاجتماعي لهي خير دليل على أنّ التواصل عبر الفضاء الافتراضي سيشكِّل بديلًا للتواصل عبر الفضاء العامّ، على الرّغم من أنّ الفضاء العمومي بالمعنى الكانطيّ، وفي مرحلة أرقى بالمعنى الهابرماسيّ، يظلّ في حيّز الأمنية والحلم.

كاتبة مغربيّة مقيمة في اسكتلند، المقال ينشر بالاتفاق مع مؤسسة الفكر العربي