أفكار وآراء

فــي المواطـنـة والـهــويــة

14 أغسطس 2019
14 أغسطس 2019

محمد جميل أحمد -

ثمة ارتباط بين المواطنة والهوية. وبطبيعة الحال، لانقصد أن المواطنة في ارتباطها بالهوية ؛ تكف عن أن تكون معياراً حصرياً لتعريف الفرد في العالم الحديث. بل نقصد أن العلاقة بين المواطنة والهوية هنا لهما ارتباط على وجه مخصوص في الدول التي تتعدد فيها الأعراق أو اللغات أو الأديان أو الألوان أو المذاهب. فهنا تكون حاجة المواطنة، في الوقت ذاته، حاجة للتعبير عن الهوية. بل ستكون هي الشرط الشارط للتعبير عن الهوية. بمعنى آخر، ستكون المواطنة والهوية في الدول التي تتعدد فيها الأعراق والأديان واللغات والألوان ؛ وجهي العملة الواحدة تحديداً.

إن رصيد الهويات المتنوعة في البلدان التي تشكو من غياب استحقاق المواطنة سيعكس بالضرورة استخدامات ضارة لشعارات الهوية، أياً كان نوعها، لأن الهوية في معناها العام معطيات قابلة للتأويل المتعدد الوجهة والمكان، وإذا ما بدا التنوع فاقداً لمعنى المواطنة في أي دولة، فالأرجح أن صدام الهويات سيكون جزءاً من طبيعة الصراع التي تتوهمه الهويات المتعددة عن نفسها في تلك الدولة! هذا يعني، أن المواطنة ضامنة للهوية وأن الأخيرة في غياب الأولى ستنفتح بالضرورة على جدل واختلاف حول تفسيراتها المتنوعة، التي قد تتغول على بعضها وقد تكون مبررا للإضرار بمبدأ التنوع وتحويله من قيمة مضافة إلى قيمة سالبة!

وفي حين أن التفسيرات المتعددة لجدل الهويات تحمل في الغالب الأعم احتمالات مزدوجة لإمكان ممارسات نفي وصراع داخل إطار الهوية الواحدة وضد الهويات الأخرى في الوقت ذاته، لغياب المبدأ الموضوعي في التفسير، نجد أن مبدأ المواطنة باعتباره مفهوماً حقوقياً منضبطاً استقر عليه تعريف الفرد/‏ المواطن في منظومة العالم الحديث؛ هو مفهوم قابل للتمثل بمعنى واحد لدى الجميع، باختلاف هوياتهم وأعراقهم وأديانهم في الوطن الواحد. فالمواطنة؛ إذ تعني مساواة جميع المواطنين في دولة ما أمام الدستور في الحقوق والواجبات دون النظر إلى أديانهم أو أعراقهم أو لغاتهم، فهي تضبط العلاقات بمعيار واضح هو الحقوق، ومبدأ واضح هو الوطن والوطنية.

والمواطنة بهذا الاعتبار، تعبير عن فردية الفرد باعتباره كائناً موضوعياً لا يقبل القسمة على أحد إلا الوطن. ومن ثم فإن التمثُّل الحقيقي للمواطنة عبر التشريعات والقوانين والتطبيقات سيجعل لها دوراً كبيراً في تسكين صراع الهويات في المجتمعات المتنوعة. بيد أن المواطنة كمبدأ ومفهوم نظري، يحتاج إلى تحقق تطبيقاته العيانية والشفافة في ممارسات أجهزة الدولة العدلية، كما يحتاج إلى تعبيرات أخرى لتعميقه وتوطينه في ذاكرة الوعي العام للمواطنين، وهنا يلعب التعليم دوراً كبيراً ومركزياً في تعيين هذه المواطنة عبر تمثلات معرفية ومنهجية تنعكس في جميع مراحله وأطواره. كما تلعب الفنون، بمختلف أنواعها، دوراً بارزاً في تعزيز تلك المواطنة، لأن الفنون الجميلة بمنطقها الوجداني ستعكس صورة موازية وفريدة في الضمير والخيال والذاكرة العامة للمواطنين.

ومن البديهي أن تلك التعبيرات الفنية قد لا تفيد أو تبقى شعارات جوفاء حين يغيب نفاذ المبدأ الدستوري للمواطنة، والتطبيقات المتصلة به في حقوق المواطنين المتساوية. بحيث تصبح تلك التعبيرات الفنية عندئذ تماماً كاستخدام شعار الهويات المختلفة حين تغيب قيم وحقوق المواطنة عن بلد ما.

بطبيعة الحال، لا تلغي المواطنةُ التعبيرَ عن الهويات المتنوعة، بل تعززها وتؤطر طبيعة التعبير عنها لتكون عاكسة للتنوع الجميل ومنسجمة مع الهوية العامة التي تصنعها المواطنة من حيث أنها علاقة انتماء يفاخر بالوطن ويعكس تمثلاته على جميع مواطنيه بسوية واحدة. فتتحول احتمالات التناقض في الهوية، في هذه الحال، من التوظيف السلبي إلى التعبير الايجابي، ومن الحرب إلى السلام، ومن العنف إلى الأمن. ومن الصراع إلى التنافس البيني الشريف. يمكن القول، أيضاً، أن تجارب مجتمعات العالم الحديث عززَّت قوة مبدأ المواطنة، ورجحانه في الوطن الواحد (حتى مع وجود امتداد لتلك الهويات في أوطان أخرى مع مواطني ذلك الوطن على ذات المستوى من تمثيل كفاءة مبدأ المواطنة، كما هو الحال في سويسرا)، حيث أن إدارة التنوع التي وفرها الدستور السويسري لمواطنيه المتعددي الأعراق واللغات المتصلة ببلدانهم الأصلية، في المانيا وفرنسا وإيطاليا؛ جعلت خيارات المواطنين السويسريين في الانتماء إلى سويسرا المتعددة أهم بالنسبة إليهم حتى من امتداداتهم في كل من فرنسا وألمانيا وإيطاليا. وربما هذا الشرط العقلاني التي تضمنه المواطنة لإدارة الاختلاف والجماعة الوطنية، هو الذي عصم سويسرا من الدمار في الحربين العالميتين الأولى والثانية اللتين اندلعتا بين أصول شعب سويسرا في البلدان المجاورة!

كما يمكن القول، إن المواطنة هي انتصار للموضوع على الذات، والعام على الخاص، وشكل من أشكال العقلنة السياسية التي لابديل عنها في تدبير المبدأ الأساس للحمة الجماعة الوطنية. وتكمن حيوية استحقاق المواطنة في طبيعتها الواضحة والقابلة للتمثل، التي لا تعرف الانقسام على الهويات الصغرى الخام، بل ينقسم أفرادها فقط على مبدأ الوطن كمواطنين بالتعريف الحصري. وإذا كان انتماء المواطنة لا يخلو من كونه متخيلاً مشتركاً، في أحد أبرز سماته النظرية؛ فإنه، كذلك، لا يصادر التعبيرات الأخرى لدوائر الانتماء في الهويات الصغرى، ولكن، فقط، باعتبارها هويات واعية بكونها ترساً في عجلة المواطنة وحبات عقد في خيطها الناظم.