أفكار وآراء

​مأزق الفلسفة العربيّة بين تحدّيات الواقع ورهانات المستقبل

11 أغسطس 2019
11 أغسطس 2019

د. عماد عبدالرّازق / كاتب وأكاديمي من مصر - المقال ينشر بالاتفاق مع مؤسسة الفكر العربي -

ندعو جميع المهتمّين بالفكر الفلسفي والدراسات الفلسفيّة للعمل معًا من أجل وضع نصوص دوليّة للارتقاء بالدراسات الفلسفيّة، وتسخير الفلسفة لخدمة التثقيف الدولي للأُمم، ما يعني عمليا دعم أنشطة الجمعيّات الفلسفيّة والجامعات ودُور النشر وتحفيزها والتنسيق في ما بينها.

بادئ ذي بدء نشير إلى حقيقة قد يغفل أو يتغافل عنها الكثيرون، وهي أنّ الفلسفة تقوم بدَورٍ حيويٍّ ومحوريٍّ في تقدُّم الأُمم والشعوب، كما أنّها الأساس الذي تُبنى عليه نهضة الأُمم وتقدُّم الحضارات. ومن هنا جاء قول ديكارت في كتابه «مبادئ الفلسفة» إنّ حضارة الأمّة وثقافتها إنّما تُقاس بمقدار شيوع التفلسُف الصحيح فيها.

في هذا السياق نشير إلى أنّ حال الفلسفة العربيّة في عالَمنا العربيّ المُعاصر تعاني من محنة حقيقيّة يدركها كلُّ مَن يعمل في مجالها، وتعاني المَدارس والجامعات العربيّة من تراجُعٍ ملحوظ في تدريسها، لا بل ثمّة عدائيّة حيال الفلسفة بوجه عامّ، وكأنّها شيطان شديد الغواية، يغوي الناس ويقودهم إلى ارتكاب الأفعال المرذولة، أو كأنّها عقبة في سبيل التقدُّم والرقيّ الحضاري.

وإذا ما ألقينا الضوء وتأمّلنا بعُمق محنة الفلسفة العربيّة وأسباب تراجعها، فإنّنا سنجد أنّ أحد أهمّ الأسباب هو التراجع الواضح والملحوظ لتدريس الفلسفة في العقد الأخير، في المَناهج التعليميّة العربيّة، وتكريس النهج المضادّ للفلسفة، واتّساع العلوم الدينيّة مقابل تراجُع الفلسفة. وفيما يحدث ذلك في الوطن العربي، فإنّنا نشهد في المقابل تطوّرا للفلسفة في الغرب على مستوى تطبيقها في المَناهج التعليميّة؛ بل لا نبالغ في القول إنّ الغرب يحاول أن يجعل من الفلسفة مَنهجا تربويّا في المرحلة الابتدائيّة، وهذا إن دلَّ على شيء، فعلى أهميّة الفلسفة ومكانتها في حياة هذه الشعوب والمجتمعات.

ومن هنا نلفت الانتباه إلى أنّ أزمة الفلسفة في العالَم العربي هي أزمة الإنسان العربي بوجه عامّ، حيث إنّ المجتمعات العربيّة مسكونة بضديّة الفلسفة، وبالوقوف ضدّ مَن يقوم بالاشتغال بها، ومُحاربتها على الأصعدة المختلفة. ولعلّ الأدهى من ذلك، يتمثّل بسيادة انطباعٍ عامّ لدى معظم الشعوب العربيّة بأنّ كلّ مَن يشتغل بالفلسفة هو إنسان مُصاب بمَسٍّ من جنون، ويسكن برجا عاجيّا، ويكون مُنفصلا عن الواقع، ويعزف لحنا لا يفهمه الآخرون، ويعيش في جزيرة منعزلة. وبناء على ذلك، ثمّة فجوة واسعة بين مَن يعملون بالفلسفة وبين مجتمعاتهم. وهذه هي الطامّة الكبرى، لأنّ الشعوب العربيّة لا تدرك أهميّة الفلسفة ودَورها الكبير في نهضة الشعوب وتقدُّم المجتمعات، كما أنّها لا تُدرك أنّ الفلاسفة هُم مرآة عصرهم، وضمير مجتمعاتهم، والمُنظّرون لمشكلات مجتمعاتهم، وواضعو الحلول لها. وإذا ما رجعنا إلى الوراء، أي إلى دخول مصطلح الفلسفة إلى الثقافة العربيّة الإسلاميّة، نرى أنّها دخلت إلى هذه الثقافة عبر تعريب الفلسفة اليونانيّة، وخصوصا في عهد المأمون، وأنّها كانت تسمّى في ذلك الوقت علوم الأوّلين. ومن هنا تبلورت ثلاثة مجالات للنظر العقلي في الحضارة العربيّة الإسلاميّة، هي: عِلم الكلام والفلسفة والتصوّف. ومحنة الفلسفة العربيّة بوجه عامّ تتجلّى في الصراع بينها وبين الدّين، وهو الأمر الذي يطرح سؤالا جوهريّا ومحوريّا يفصح عن هذه المحنة التي تعيشها الفلسفة العربيّة، وهو حول علاقة الدّين بالفلسفة، وحول ما إذا كان هناك من تضادّ وصراع وتناقض بينهما أم علاقة تعاضُد وانسجام.

التوفيق بين الفلسفة والدّين شغلت هذه القضيّة أذهان الفلاسفة المُسلمين والعرب، لذا حاولوا التوفيق بين الفلسفة والدّين، ولعلّ أشهر هؤلاء هو الفيلسوف ابن رشد، وذلك في محاولته التوفيق بين الشريعة والحِكمة. وفي هذا السياق يجب أن نطرح سؤالا مهمّا هو: لماذا تظهر العلاقة بين الدّين والفلسفة في العالَم العربي وكأنّها علاقة تصادميّة وغير تفاعليّة وانسجاميّة؟ وما الذي دفع بالعديد من الفُقهاء في الإسلام إلى تحريم الفلسفة؟ هنا نستحضر فتوى ابن الصلاح الشهرزوري (557 - 643 هـ، 1161 - 1245م) ونستدعيها، لكونه حرَّم من خلالها الفلسفة والمنطق والاشتغال بهما. يقول الشهرزوري في فتواه هذه إنّ الفلسفة أسّ السفه والانحلال، ومَن تفلسف، فقد عميت بصيرته عن محاسن الشريعة المطهّرة. وقد شخَّص المفكّر المصري فؤاد زكريّا تلك العلاقة بين الفلسفة والدّين وأَرجع الصدام بينهما إلى أنّ الفلسفة تفترض مقدّما تعدُّد الآراء و تَقبّل الرأي الآخر، في حين أنّ الدّين، وبارتكازه على الحقيقة المُطلقة، يرى أنّ الرأي الآخر عبارة عن مروق وزندقة. وللخروج من هذا المأزق الذي تعيشه الفلسفة العربيّة في قضيّة الصراع بين الدّين والفلسفة، يدعو فؤاد زكريّا إلى الاهتمام بما يُسمّى فلسفة الدّين، التي تتناول طبيعة التجربة الدينيّة، والسّمات المُميِّزة للإيمان الديني بالقياس إلى أنواع الإيمان، وطبيعة اللّغة الدينيّة.

انطلاقا ممّا تقدَّم، نلفت الانتباه إلى أنّ محنة الفلسفة العربيّة تؤكِّد واقع المجتمع العربي المأزوم على المستويات الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة والدينيّة. أمّا السؤال حول أسباب هذا الموقف السلبي من الفلسفة في الوقت الرّاهن، فيقودنا إلى التساؤل عمّا إذا كان العقل الأشعري، كما استخلص البعض، قد أدخل الفلسفة العربيّة الإسلاميّة في أزمة؟ ولقد أجاب بعض المُختصّين عن ذلك بالقول إنّ الفلسفة عملٌ عقليّ نقديّ شاقّ يبحث في عمق الأشياء والظواهر لمَعرفة العلاقات والروابط الجامِعة بينها، وهذه السمات والخصائص ليست من خصائص المجتمعات العربيّة، ولا من ثقافتها التاريخيّة. مجتمعاتنا العربيّة لا تحبّ العمل، وتكره النقد، فمن الطبيعي ألّا تحظى الفلسفة باهتماماتها.

من هنا نقول بضرورة الاهتمام بالفلسفة على المستويات كافّة، وضرورة إدخالها في مناهجنا التعليميّة في المدارس والجامعات، لكونها تُساعد على تكوين رؤية نقديّة، وتكشف عن بواطن الأمور، وتُساعد في تحقيق نهضة الأُمم والشعوب. وإذا أرادت مجتمعاتنا العربيّة التقدُّم والرقيّ وأخذ مكانها اللّائق بين الأُمم، فعليها إعادة الاعتبار للفلسفة ولضرورة تدريسها ومنحها المزيد من الاهتمام. فالفلسفة هي الحلم الذي يجب أن نسعى إلى تحقيقه في حياتنا ومَدارسنا وجامعاتنا، من أجل نهضة شاملة، أسوة بالغرب الذي اهتمَّ بالفلسفة في مناهجه التعليميّة كلّها، ما ساعده على التقدّم والتطوّر.

من هنا يجب أن يكون هناك تخطيطٌ شامل في مَناهجنا الدراسيّة تبدأ من المرحلة الابتدائيّة لنعلِّم الطفل كيف يُفكّر وكيف تتكوّن لديه رؤية نقديّة، وهذا ما فعله الغرب حين بدأ منذ المرحلة الابتدائيّة بتدريس مَناهج فلسفيّة، ولو بسيطة، تعمل على تشكيل وعي الطفل وجعْله أكثر تمرّساً بالتفكير النقدي البنّاء. كما يجدر بالقائمين على تدريس الفلسفة في المراحل التعليميّة المُختلفة العمل بجديّة على تبسيط المقولات الفلسفيّة الصعبة والمعقّدة التي تُسبِّب نفور عددٍ كبيرٍ من التلامذة، والعمل على غرس الحدّ الأدنى الضروري من المقولات الفلسفيّة والأخلاقيّة في ذهن الناس العاديّين، لأنّ ذلك يُعزِّز احترام الشخصيّة الإنسانيّة والنّزعة السلميّة والمَيل إلى التسامح، والنفور من التعصّب والطائفيّة، والتفاني في خدمة الثقافة، ما يجعل للفلسفة دَورا فعّالا ومحوريّا في بناء الأُمم والشعوب، على غرار الدَّور المحوري الذي اضطَّلعت به على مرّ العصور والأزمان، مُسهِمة في نهضة الحضارات.

ولعلّنا بذلك ندعو جميع المهتمّين بالفكر الفلسفي والدراسات الفلسفيّة للعمل معا من أجل وضع نصوص دوليّة للارتقاء بالدراسات الفلسفيّة، وتسخير الفلسفة لخدمة التثقيف الدولي للأُمم، ما يعني عمليّا دعم أنشطة الجمعيّات الفلسفيّة والجامعات ودُور النشر وتحفيزها والتنسيق في ما بينها. ونشير إلى أنّه في العام 1949 بادر خبراء من الجنسيّات كافّة، ومن تخصّصات مُختلفة، إلى إنشاء المجلس الأعلى للفلسفة والعلوم الإنسانيّة، للقيام بأنشطة تهدف إلى إشاعة روح التفاهم لدى الإنسان العادي وتعزيز التفاهم الأخوي بين البشر، لأنّ في الأمر ما يُساعد على إخراج الفلسفة العربيّة من أزمتها ويُعيد إليها دَورها الفعّال في تقدّم الأمّة.