الملف السياسي

«لا تراجع ولا استسلام».. شعار بروكسل الصارم

05 أغسطس 2019
05 أغسطس 2019

ياسمين أسامة فرج -

إن أوروبا تعتبر الاتفاق الحالي للبريكست ضامنا أساسيا للحفاظ على صادراتها إلى بريطانيا والتي من الممكن أن تتأثر بقوة في حالة الخروج البريطاني من دون صفقة.

«اتفاق بريكست الحالي هو الأفضل والوحيد وغير قابل للتفاوض».. هكذا أعرب الاتحاد الأوروبي مرارا وتكرارا عن موقفه الصارم بشأن الخروج البريطاني من التكتل الأوروبي «البريكست»، مشددا على تمسكه الشديد بالاتفاق الذي تم التوصل إليه مع رئيسة الوزراء البريطانية السابقة تريزا ماي في نوفمبر من العام الماضي، والذي من بعده رفعت بروكسل يدها عن الخوض في أية مفاوضات جديدة بشأن البريكست وأدارت ظهرها لرفض البرلمان البريطاني للاتفاق ثلاث مرات واكتفى زعماء أوروبا برمي الكرة في ملعب لندن.

ومع تولي بوريس جونسون رئاسة الحكومة البريطانية خلفا لماي، بدأ التكتل الأوروبي غير آبه لتهديدات جونسون برحيل بلاده من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق، إذ أكد جان كلود يونكر رئيس المفوضية الأوروبية، في اتصال هاتفي مع رئيس الوزراء البريطاني الجديد، أن الاتفاق الذي تم التوصل إليه بين بروكسل ولندن هو الأفضل والوحيد الذي يمكن أن يكون.

وأشار يونكر إلى أن الاتحاد الأوروبي سيحلل أي أفكار تطرحها المملكة المتحدة، بشرط أن تتطابق مع الاتفاق الموجود. كما أكد أن بروكسل مستعدة فقط للتفاوض حول بعض نقاط الإعلان السياسي وهو الوثيقة «غير الملزمة» التي تحدد العلاقة السياسية المستقبلية بين لندن وبروكسل.

وفي المقابل، يعتبر جونسون الاتفاق الحالي المطروح على الطاولة بشأن البريكست «ميتا»، وهدد بأنه لن يقابل أحدا من زعماء الاتحاد الأوروبي إلا إذا أظهروا رغبة في تعديل الاتفاق وخاصة إلغاء بند شبكة الأمان الخاص بحدود إيرلندا الشمالية، مؤكدا أنه سينفذ الخروج البريطاني في موعده المقرر 31 أكتوبر المقبل بأي شكل وأن حكومته تكثف استعدادها للخروج بدون اتفاق. كما هدد جونسون بعدم تسديد فاتورة الطلاق البريطاني من الاتحاد الأوروبي التي تقدر بـ 39 مليار جنية أسترليني إذا رفض الاتحاد الأوروبي شروطا أفضل لبلاده لإتمام الخروج.

وتعد «شبكة الأمان» أو «الباك ستوب» أكثر النقاط الخلافية بين بروكسل ولندن، فهي أحد بنود اتفاق الانسحاب الذي توصلت إليه ماي مع القادة الأوروبيين في نوفمبر الماضي، وتضمن تجنب عودة الحدود الفعلية بين أيرلندا الشمالية التابعة للمملكة المتحدة، وجمهورية أيرلندا العضو في الاتحاد الأوروبي. ويرى المعارضون البريطانيون لذلك البند أنه يعني أن تستمر أيرلندا الشمالية في اتباع قواعد ولوائح الاتحاد الأوروبي. وقد تسبب ذلك البند تحديدا في رفض البرلمان البريطاني اتفاق ماي ثلاث مرات. وتعني شبكة الأمان الإبقاء على الحدود بين أيرلندا وأيرلندا الشمالية «مفتوحة» لضمان تدفق التجارة الحرة بينهما، وهو ما يتطلب بقاء أيرلندا الشمالية، التابعة لبريطانيا، خاضعة للنظام الجمركي الأوروبي الأمر الذي يعارضه بشدة مؤيدو الخروج «الخشن» في بريطانيا معتبرين أنه فخ لإبقاء البلاد مرتبطة إلى ما لا نهاية بالاتحاد الأوروبي.

وأمام تشدد جونسون وتهديداته، تصر بروكسل على أنها مستعدة تماما لسيناريو الخروج البريطاني من دون اتفاق، وذلك رغم تحذيرات مؤسسة «سي بي آي» الحكومية البريطانية للتوظيف في تقرير لها من أن الاتحاد الأوروبي اتخذ خطوات أقل كثيرا من تلك التي اتخذتها بريطانيا لمواجهة تداعيات البريكست بدون اتفاق. وذكر التقرير- الذي قيم الاستعدادات الاقتصادية لكل من بروكسل ولندن لمواجهة الخروج غير المنظم - أن دول الاتحاد اتخذت إجراءات قليلة ومحدودة ومؤقتة في هذا الشأن كتمديد تراخيص شاحنات البضائع الثقيلة البريطانية لمدة 9 أشهر من تاريخ الخروج من دون اتفاق والسماح للطائرات البريطانية بالاستمرار في التحليق لمدة ستة أشهر. وردا على هذا التقرير، أكدت أنيكا برايدهارد المتحدثة باسم المفوضية الأوروبية للشؤون الاقتصادية رفضها لما جاء في التقرير مؤكدة أن بروكسل مستعدة تماما واتخذت استعداداتها لحماية دول الاتحاد من تداعيات هذا السيناريو. وقالت «قدمنا اقتراحات ب_ 19 تشريعا وتم تبنيهم جميعا، كما اتخذنا 63 قرارا تنفيذيا و100 إشعارا وخمسة اتصالات كل ذلك من أجل إظهار أننا مستعدون».

ولعل من أبرز دول الاتحاد الأوروبي التي تتخذ موقفا شبه عدائيا من «المماطلة» البريطانية في مسألة البريكست «هي فرنسا، حيث أطلق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في بداية الأزمة تصريحات نارية قال فيها إن أوروبا لن تبقى «رهينة» لعملية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. كما دعا ماكرون إلى الوحدة داخل أوروبا، مؤكدا: «انتهت فترة السذاجة الأوروبية». ودائما ما يصور ماكرون نفسه على أنه حامل لواء أوروبا الموحدة ضد تصاعد موجات التشكيك في الوحدة الأوروبية.

ولعل الكثير من التساؤلات تدور حول أسباب هذا التشدد الأوروبي تجاه الخروج البريطاني، والحقيقة أن أهم تلك الأسباب هو أن الكثير من القادة الأوروبيين يتخوفون من أن يؤدي الخروج السهل لبريطانيا إلى تشجيع دول أخرى على الانسحاب من التكتل الأوروبي خاصة في ظل صعود التيارات الشعبوية والقومية اليمينية المشككة في الوحدة الأوروبية، وهوما ظهر جليا في اتساع قاعدة الأحزاب الشعبوية واليمينية المتطرفة في برلمانات فرنسا وألمانيا وإسبانيا فضلا عن تقدمها في انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة إلى جانب وصولها إلى سدة الحكم في كل من إيطاليا والمجر وبولندا والتشكيك واليونان ومؤخرا بريطانيا نفسها إذ يشبه الكثيرون «جونسون» بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب في مواقفه المضادة للعولمة والتعددية والجانحة للحمائية والتطرف القومي. والدليل على ذلك أنه في أول خطوة له منذ توليه مهام منصبه، أطاح جونسون بغالبية وزراء حكومة سلفه رئيسة الوزراء تيريزا ماي وعين في حكومته شخصيات معروفة برفضها الشديد للمشروع الأوروبي.

كما أن من أسباب تشدد بروكسل إزاء بند شبكة الأمان الخاص بالحدود الأيرلندية– التي تعد نقطة الخلاف الرئيسية مع حكومة جونسون الحالية – هو الحفاظ على اقتصاد إيرلندا العضوة بالاتحاد الأوروبي والمتوقع أن تتحمل وطأة الخروج البريطاني غير المنظم. فقد حذر تقرير للبنك المركزي الأيرلندي من أن البريكست من دون اتفاق سيضع أيرلندا على حافة الركود الاقتصادي ويهدد بفقدانها أكثر من 100 ألف وظيفة خلال العشر سنوات المقبلة، و34 ألف وظيفة بحلول نهاية العام المقبل. وتوقع التقرير أن تتضرر الشركات بالفوضى التي ستجتاح الموانئ والمطارات بسبب الإجراءات الجمركية الجديدة. كما ستتراجع بشدة الصادرات الإيرلندية متأثرة بالضعف الذي سيصيب اقتصاد المملكة المتحدة والتراجع الكبير المتوقع في قيمة الجنية الاسترليني.

كما أن أوروبا تعتبر الاتفاق الحالي للبريكست ضامنا أساسيا للحفاظ على صادراتها إلى بريطانيا والتي من الممكن أن تتأثر بقوة في حالة الخروج البريطاني من دون صفقة. ففي حالة ألمانيا على سبيل المثال، توقعت عدة تقارير أن يتسبب البريكست غير المنظم في فقدان 100 ألف وظيفة في سوق العمل الألماني فضلا عن ضربة قوية للصادرات الألمانية لبريطانيا.

ورغم تلك المخاوف إلا أنه من المؤكد أن الخسار الأكبر في هذه المعادلة ستكون بريطانيا وليس دول الاتحاد الأوروبي.

فالاقتصاد البريطاني يعتمد على الاتحاد الأوروبي بشكل أكثر وذلك لارتباط 12.6% من ناتجه المحلي الإجمالي بالصادرات إلى التكتل الأوروبي، في حين يرتبط 3.1% فقط من الناتج المحلي الإجمالي لدول الاتحاد الـ 27 بالصادرات إلى بريطانيا.

كما أن الاتحاد الأوروبي يستوعب 44% من صادرات بريطانيا و60% من إجمالي تجارة المملكة المتحدة مشمولة بعضويتها في الاتحاد، مما يمنحها الوصول إلى 53 سوقا خارج التكتل. كل ذلك يدفع زعماء الاتحاد الأوروبي إلى التمسك أكثر بمبدأهم المتمثل في أن الخروج من تكتلهم الأوروبي ليس سهلا وأن من يختار الخروج فعليه أن يدفع ثمنا باهظا لقراره.