المنوعات

عُـمـان بـين الـبـاغ و سـيدات القمـر

04 أغسطس 2019
04 أغسطس 2019

د. منى برنس -

كنت في الثانية عشر من عمري عندما وصلت عُمان على متن خطوط طيران الخليج في العام ١٩٨٢. كان أبي قد سافر مُعارا كخبير مناهج في وزارة التربية والتعليم قبلنا بثلاثة أشهر. قبل السفر، فتحت الأطلس الجغرافي الذي كنت قد تسلمته في مدرستي الإعدادية بالقاهرة وبحثت في خارطة الوطن العربي عن سلطنة عمان. تقع في الركن الجنوبي من شبه الجزيرة العربية في قارة آسيا، وتشتهر بالنفط. تقريبا هذا كل ما كنت أعرفه عن تلك الأرض المجهولة بالنسبة لي.

حطّت الطائرة في مطار السيب حيث كان والدي ينتظرنا ثم إلى منطقة روي حيث سكنّا لنحو ثلاث سنوات ونصف. أول ما لفت انتباهي هو الجبال التي تلف البلد والبحر، والحرارة المرتفعة والرطوبة التي تفسد شعري. كنا نقطن في شقة حديثة جدا في بناية انتهى تشييدها قبل أشهر، في شارع تفوح منه روائح المطبخ الهندي، متفرع من شارع روي ينتهي بناد رياضي يحمل الاسم نفسه. والتحقت بمدرسة نجية بنت عامر في منطقة الحمرية حيث معظم المدرسات من مصر والأردن وفلسطين. ورغم أنني درست تاريخ عُمان في المدرسة إلاّ أن ما تبقى في ذهني منه هو حكايات زميلاتي عن الجن والعفاريت على طريق قريّات. كانت الفتيات العمانيات يقسمن أن هناك من كان يسير ليلا ثم بدأت ساقاه تمتلئ بشعر كثيف وهو يتحول تدريجيا إلى حمار. كانت الحكايات تضحكني وإصرار الفتيات على كونها حقيقة يزيد ضحكي.

كانت عُمان في ذلك الحين في مرحلة تحول. كان السلطان قابوس قد تولى الحكم قبل اثني عشر عاما. وحيث أنني لم أكن أعرف كيف بدت عمان سابقا، بدا لي أن ما قام به في سنوات قليلة مدهش. لكنني لم أعرف عُمان حقا. كان أبي يأخذنا في رحلات إلى بعض المدن القريبة مثل نزوى والرستاق لمشاهدة القلاع والأفلاج، وبالطبع مطرح وقلعة الجلالي في مسقط، لكني لم أدخل بيتا عمانيا، لم أعرف كيف يعيش الناس. ونظرا لصغر سني وقتها لم أهتم في الحقيقة. كان الذهاب إلى شاطئ القرم ونزول البحر وجمع القواقع الملونة غاية أمنياتي.

بعد مرور ثلاثين عاما سأعرف ما فاتني. سأعرف عمان الداخل ما قبل جلالة السلطان قابوس. وعمان ما بعد عودتي إلى القاهرة في ١٩٨٦. بعد ثلاثين عاما سأكتشف أن في عُمان كاتبات روائيات، ربما نكون قد تزاملنا دون أن نعرف وربما لا. لم يكن معظم زميلاتي مهتمات بالتعليم في واقع الأمر، وكن يتزوجن في سن صغيرة ويتركن الدراسة. لذا فإن وجود كاتبات عمانيات تحديدا، وليس كتّاب، يعني الكثير. و لم أكن سأعرف أبدا لو لم تحصل الكاتبة العمانية جوخة الحارثية على جائزة مان بوكر هذا العام، ٢٠١٩ عن روايتها «سيدات القمر» في نسختها الانجليزية.

في رواية الباغ (٢٠١٦) تحكي الكاتبة العمانية بشرى خلفان أن زاهر توجه إلى الكويت لإتمام تعليمه المدرسي بعد أن أنهى دراسته الأولية في المدرسة السعيدية في مسقط في منتصف الستينيات. ولم يكن في ذلك الحين وجود لأي مدارس أخرى. فقط معرفة بسيطة باللغة وبعض علوم الدين يتلقاها من يرغب في العلم على أيدي الشيوخ والأئمة. ريّا، الشخصية الرئيسية في الرواية، وأم زاهر، كانت الوحيدة التي علّمها أبوها مبادئ القراءة والتلاوة والقرآن والحديث، ومن ثم علمّت هي أجيالا لاحقة من الأطفال الصغار، خاصة البنات. راشد، أخوها، تعلم فيما بعد على يد صديق له حين أصبح أحد حراس القلعة، بعد أن اضطر لمغادرة قريته مع أخته على ناقة بعد وفاة أبيهما ونهب حقه من قبل عمه.

كنت أقرأ الرواية وأتتبع مسيرة ريّا وأخيها عبر دروب عمان القديمة التي لم أعرفها. أتعرف على حياة الأسر العمانية وتاريخ عُمان نفسها وقت السلطان سعيد والصراعات الداخلية الدائرة في ذلك الوقت، ثم حرب ظفار. و كنت أتذكّر مع القراءة زميلاتي في المدرسة اللائي يحملن ألقابا كانت غريبة على أذني: البلوشي، الزدجالي، الخروصي، الوهيبي، المحروقي، اللواتي، وغيرها.

تتزوج ريّا من علي صديق راشد، و تصبح المعلمة الأشهر في نواحي مسقط ومطرح بعد أن أشادت بها «العودة»، المرأة التي استقبلتها في بيتها لدى وصولها مسقط القديمة، وعاشت في كنفها تقرأ لها القرآن بعضا من الزمن إلى حين زواجها. يتدرج راشد، الذي كان يُعنى بالنخيل والأفلاج في قريته، من حمّال في الميناء إلى حارس على بوابة القلعة إلى عسكري محترف تدرب على أيدي قادة بريطانيين، إلى أن وصل إلى رتبة متقدمة في الجيش. و مع هذا التقدم المهني، يخسر راشد حياته الخاصة، فيتحجر قلبه رغما عنه ولا يرتبط بامرأة ولا يصير له أطفال، و إن عامل ابن أخته في أثناء إجازاته القصيرة كما لو كان ولده.

يذهب زاهر، ابن ريّا، بحرا إلى الكويت لإتمام تعليمه، مع آخرين يبحثون عن عمل وفرص حياة أفضل لا توجد في عمان. و هناك تأخذنا الرواية إلى مجتمع سري يخطط للثورة ضد السلطان، اجتمعت فيه شخوص من دول مختلفة تبنت الفكر الشيوعي وتدربت على حمل السلاح في جنوب لبنان. يلتحق زاهر بهم ويتبنى فكرهم. ويدخل ظفار مع ثوار آخرين لمواجهة قوات السلطان سعيد. يتذكر زاهر أمه وحبيبته، ابنة «البيبي» التي تربى معها ودرس القرآن على يد أمه معها، التي وعدها بالعودة والزواج منها. لكنه كشاب ثائر ينحاز إلى الأفكار التي اعتنقها وما يعتقد أنه الوطن والعدل، لينتهي به الأمر إلى الوقوع في الأسر، ومواجهة خاله راشد الذي تتنازعه مشاعر الحب لزاهر ولأخته وبين مشاعر الواجب تجاه عمله وبلده. يحاول راشد استعادة زاهر إلى أخته التي ذهبت إليه تترجاه أن يعيد إليها ابنها في أحد أكثر مشاهد الرواية تأثيرا. ينهزم الثوار، يتولى قابوس بن سعيد مقاليد الحكم، ويعد بالتغيير. يشرح راشد كل ذلك لابن أخته. يرفض زاهر أن يشي برفاقه، ويصر على رفع الظلم عن البلاد ويذكّر خاله بما تعرض له هو وأمه في قريتهما. يُحال إلى السجن العسكري ويموت هناك. يحمل راشد جثة زاهر على ملامح وجهه ويعيدها إلى أخته. تبتعد ريّا عن المشهد الحالي وتعود بخيالها إلى لحظة تدافع الماء وهي وأخوها، مربوطان إلى الناقة، يخوضان الوادي في رحلة الخروج من قريتهما، ومبتدأ الرواية.

عندما وصلت عمان بعد اثني عشر عاما من تولي السلطان قابوس الحكم، كان لا يزال هناك حديث هامس عن حرب ظفار. لكن نظرا لبعدها الجغرافي عن مسقط، كان الحديث وكأنما عن بلد أخرى بالنسبة لي. لكن التغيير الذي وعد به السلطان قابوس في الرواية كان قد بدأ يحدث بالفعل في الواقع.

في رواية سيدات القمر (٢٠١٠) للكاتبة جوخة الحارثية، قرأت عن عمان التي لم أتابع تطوراتها بعد مغادرتي لها إلا من خلال الرسائل البريدية التي تبادلتها مع زميلاتي لعشر سنوات تقريبا. كنت أعرف من خلال بعض هذه الرسائل أن هناك جامعة أنشئت، جامعة السلطان قابوس، تخرجت منها إحدى زميلاتي. وقصص حب وأخبار زواج وإنجاب دون تفاصيل كثيرة.

تفاجئني رواية «سيدات القمر»، مثلما فاجأتني رواية «الباغ». ربما تكون ميا هي زاهر فالاثنان أجهضت أحلامهما. ميا التي تحب رجلا في صمت، تتزوج بآخر، يسألها فيما بعد سنوات كثيرة هل تحبينني؟ فتجفل ثم تضحك بصوت عال تهدمت لها جدران البيت كما شعر زوجها، ولا تجيبه. أفكر في زميلاتي، من منهن تزوجت كميا ومن منهن أسماء القارئة ومن منهن خولة التي انتظرت حبيبها وخاب رجاؤها فيه فيما بعد.

عكس السرد الروائي في رواية «الباغ» والذي يسير قدما، تتقاطع الحكايات في الزمان والمكان وتتقاطع الأصوات الروائية في رواية «سيدات القمر». تبدأ الرواية بميا على ماكينة الخياطة في بيت بسيط، به بعض الكتب معظمها ديني، في قرية صغيرة داخل عمان ربما في أواخر السبعينيات أو أوائل الثمانينات. ثم ينتقل السرد إلى زوجها عبد الله وهو في طائرة متوجه إلى مدينة فرانكفورت يتذكر نتفا من حياته وحياة ميا وحياة ابنتهما «لندن» التي درست الطب وتخرجت من جامعة السلطان قابوس، في نقلة زمنية إلى أواخر التسعينيات أو ربما أوائل الألفية الثالثة. يظل السرد يتقاطع بهذه الطريقة ويتنقل من خلال عمل الذاكرة الانتقائي إلى شخصيات وحكايات وذكريات مختلفة تشكل لوحة فسيفسائية تحكي في مجملها التاريخ الشخصي لعائلة ميا وعائلة زوجها وتاريخ عمان.

لم تكن القراءة سهلة. كانت أشبه بضربات سياط متتالية لا تؤلم قدر ما تفاجئ وتمتع. كنت ألهث وراء الذكريات المتقاطعة والشخوص المتنوعة. أتوه أحيانا فلا أعرف من يتكلم، لكن سرعان ما أستعيد الخيط الروائي مرة ثانية. وأعتقد أنه يحسب للكاتبة هذه الجرأة الروائية في كسر طريقة التلقي لدى القارئة التي عليها أن تلملم كل تلك الشذرات أو الدفقات الروائية المتنوعة والمتتالية والمتقاطعة في الوقت ذاته، وتعيد صياغتها مرة أخري في مخيلتها.

باستثناء رواية «صمت الفراشات» للكاتبة الكويتية، ليلى العثمان، والتي تناولت بعضا من سيرة المملوكين، الذكور منهم تحديدا، لا أعتقد أنني قرأت عملا أدبيا آخر اقترب من هذا العالم الفريد في عمان والخليج كما كتبت جوخة الحارثية. فقد أفردت الكاتبة أصواتا روائية خاصة جدا لنساء الإماء في عائلة عبدالله زوج ميا، واللائي تداخلت حيواتهم مع حيوات «أسيادهم». وتابعت تطورات حياتهم بعد أن تحرر منهم من تحرر وسافر من الذكور، ومن بقيت من النساء مثل ظريفة، ومن قبلها أمها مسعودة، التي رفضت أن تغادر البيت الذي تعتبره بيتها ووطنها. بيت سيدها، التاجر سليمان أبي عبد الله زوج ميا. وعلى الطرف الآخر من الحكايات، ينتقل السرد إلى نجية الملقبة بالقمر، سيدة الصحراء الحرة التي ربت أخاها المريض بمفردها على تخوم الصحراء ووهبت نفسها لعزان، زوج سالمة أم ميا التي تباعدت علاقتهما تدريجيا، والذي كان يقرأ لها أشعار المتنبي تحت ضوء النجوم في الصحراء.

مثل الباغ التي تنتهي، و لا تنتهي في الحقيقة، بالابتعاد عن الواقع و الدخول في متاهة الذكريات، تنتهي سيدات القمر تقريبا بنفس الطريقة. يتوه عبد الله زوج ميا في ذكرياته والأشخاص الذين شكلوا حياته، وتتداخل رؤاه وتهيؤاته لتظل الرواية مفتوحة رغم انتهاء كتابتها.

وهكذا تملأ حكايات الروايتين الفراغات الزمنية والمكانية في ذاكرتي أنا الشخصية سواء عندما كنت في عمان، وإن لم أعرفها حقا وقتها، أو بعدما غادرتها. الآن صرت أعرف عُمان وكأنني عشت داخل بيوتها العمانية. الآن و قد حُفر في ذاكرتي تاريخها، كما قرأته أدبيا، فلن أنساه كما نسيته سابقا وقت دراسته في المدرسة، لتصبح عُمان في مخيلتي مكانا وزمانا ممتدا في التاريخ والحاضر و المستقبل.