أفكار وآراء

عن وقف الاتفاقيات بين السلطة وإسرائيل

03 أغسطس 2019
03 أغسطس 2019

د. عبد العاطي محمد -

هناك مشكلة نشبت بين السلطة وإسرائيل مؤخرا حول عائدات الضرائب (أحوال المقاصة) إذ خفضت إسرائيل من هذه العوائد بحجة أن جزءا منها تنفقه السلطة على أسر الأسرى، وعندما تعلن القيادة الفلسطينية عن وقف اتفاقيات في هذا المجال فإنها تهدف إلى وقف التعسف الإسرائيلي في هذا الصدد.

وسط حالة الجمود في العلاقات بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، والغموض الذي يكتنف خطة السلام الأمريكية، قرر الرئيس الفلسطيني محمود عباس وقف جميع الاتفاقيات الموقعة منذ عام 2015 بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل. ولأن أي قرار من هذا المستوى لابد وأن يكون وراءه هدف، كما أن جدواه تفترض مسبقا وجود حسابات دقيقة لنتائجه وللقدرة على تنفيذه، فإن صدوره وسط هذه الظروف يعد خطوة سياسية في المواجهة بين الجانبين لها ما بعدها. الرغبة في القرار ليست جديدة لأن المجلسين المركزي والوطني الفلسطينيين كانا قد طالبا بذلك منذ 3 سنوات، بل إن المطالبة بسحب الاعتراف بإسرائيل مطروحة من كلاهما منذ سنوات أيضا. ولكن الجديد في هذه المرة أن القرار صدر من السلطة الفلسطينية أي من الجهة التنفيذية، وعلى لسان الرئيس الفلسطيني نفسه مما يعطى للقرار طابع التفعيل وهو أمر لم يحدث منذ فترة طويلة في العلاقة بين السلطة وإسرائيل. وزاد من أهميته أنه جاء ضمن كلمة للرئيس الفلسطيني حملت شجونا واستياء بالغين من القيادة الفلسطينية عما آل إليه الوضع من تردى في هذه العلاقة وتجاه التحرك الأمريكي الذي يقوده جاريد كوشنر صهر الرئيس ترامب وكبير المستشارين في البيت الأبيض تحت عنوان ما يسمى بصفقة القرن. وبدا الرئيس أبو مازن وكأنه لم يعد يجد فائدة من التفاوض كأداة والحلول الوسط كاستراتيجية لإقامة السلام مع الجانب الإسرائيلي، وأنه أصبح مقتنعا بأن الصراع مع إسرائيل ممتد بلا سقف وقد لا يشهد هو حسمه وإنما قيادة وأجيال أخرى، وكل ذلك يعد لغة غير معتادة من الرجل.

ومع ذلك فإن لا حدة القرار ولا لغة الأسى التي اتسم بها خطاب أبي مازن في اجتماع القيادة الفلسطينية، يشيران إلى أن أمرا جللا ينتظر العلاقات بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل فمع أن عبارة وقف جميع الاتفاقيات الموقعة مع إسرائيل تعنى إحداث تغيير جذري في هذه العلاقات، إلا أنها غير محددة ومن النوع الذي يطلق عليه أنها حمالة أوجه حيث من الممكن أن تتعدد الاجتهادات في تفسير معنى الوقف وأي اتفاقيات هي المقصودة بذلك خصوصا وأن بنود الاتفاقيات الموقعة منذ 2015 يصل عدده إلى المئات!

من واقع كلمة أبي مازن فإن القرار له إطار وليس تفعيله أمرا بسيطا، فقد ارتبط بوضع لجنة تقوم بمهمة كيفية تطبيقه، وفى العرف العربي أنه إذا أردت عدم تطبيق اتفاق عليك أن توكل أمره إلى لجنة، وعمليا لا تنقل اللجنة القرار إلى الواقع العملي، ومن هنا جاء أول التحفظات وهو التنفيذ لا الكلام. كما ارتبط القرار وفقا لكلمة أبي مازن بمسألة أخرى تم طرحها كسبب لصدوره وهي أنه طالما أن إسرائيل لم تلتزم بالاتفاقيات فبالمقابل لا تلتزم السلطة الفلسطينية بها وكأن الأخيرة أدركت فقط الآن عدم التزام إسرائيل بتنفيذ ما يتم الاتفاق عليه!

وبناء على هذه الملاحظة فإن القرار جاء بصيغة الوقف وليس بصيغة الإلغاء والفارق كبير بين التعبيرين حيث الوقف يعنى إمكانية العودة عن القرار لو وجدت السلطة أن إسرائيل غيرت سلوكها وبدأت تلتزم بالاتفاقيات، بينما الإلغاء يعنى القطيعة بكل ما ترتبه من تداعيات بما فيها المواجهة المسلحة وهو ما لم يرد بالطبع في طرح الرئيس الفلسطيني.

ومما هو جدير بالذكر في هذا المقام أن السلطة الفلسطينية كثيرا ما هددت في السنوات القليلة الأخيرة بأنها ستحل نفسها وتترك مهمة إدارة الأراضي المحتلة لإسرائيل دولة الاحتلال. وكان لهذا الطرح مبرراته التي نعتقد أنها لا تزال قائمة ومع ذلك لم تقرر السلطة حل نفسها. ومن المبررات أن الحكومات الإسرائيلية المختلفة تمادت في الاستيطان إلى حد ابتلاع الضفة الغربية تقريبا وقوضت كل الجهود التي تم بذلها في عملية السلام بما فيها الجهود الأمريكية قبل تولي إدارة ترامب السلطة. واستند هذا الطرح إلى أن القانون الدولي يفرض على سلطة الاحتلال الوفاء بحقوق ومتطلبات مشروعة للشعب الواقع تحت الاحتلال، وعليه فإنه من الأفضل أن تتنحى السلطة الفلسطينية جانبا وتترك المسؤولية كاملة لدولة الاحتلال. إلا أن هذه الفكرة لم تر النور بالطبع لأن السلطة الفلسطينية كسبت شرعية فلسطينية ودولية بوجودها منذ اتفاقيات أوسلو وباتت نواة دولة، ومن ثم انزوت الفكرة مع الوقت وباتت فقط مجرد إحدى أوراق الضغط الفلسطينية في فترة ما. وعودة إلى القرار الأخير بخصوص وقف الاتفاقيات، فإنه لم يشر لا من قريب ولا من بعيد ولو على سبيل التهديد إلى مسألة حل السلطة الفلسطينية التي من المعروف أنها قامت بناء على اتفاقيات أوسلو.

وعلى ذلك لا يمثل القرار الأخير نقطة تحول جذرية في العلاقة بين السلطة وإسرائيل، وإنما هو رسالة سياسية من جانب القيادة الفلسطينية للداخل الفلسطيني من ناحية وللإدارة الأمريكية الحالية من ناحية أخرى، وللحكومة الإسرائيلية من ناحية ثالثة، ولأوروبا من ناحية رابعة، مضمونها رفض التجاهل الأمريكي لدور السلطة الفلسطينية في أي تحرك يخص الفلسطينيين، وعدم الاعتراف بأية تحركات إسرائيلية لفرض الأمر الواقع، فضلا عن توحيد الصف الفلسطيني لوقف تصفية القضية الفلسطينية (كان تعليق حماس هو دعوة السلطة الفلسطينية إلى الإسراع بتشكيل حكومة وحدة وطنية في الوقت الذي جدد فيه أبو مازن الدعوة إلى تفعيل المصالحة وفقا لاتفاق القاهرة 2017)، ودعوة أوروبا إلى العمل كطرف مباشر لإحراز تسوية سياسية عادلة. فعلى الجانب الفلسطيني -سبقت الإشارة إلى مطلب- وقف الاتفاقيات (المعمول بها منذ 2015) كان مطلبا من الهيئات الفلسطينية العليا ممثلة في المجلسين المركزي والوطني، وكان تأخير التنفيذ بدعوى إتاحة الفرصة لجهود السلام الدولية بما فيها الأمريكية ولكن بما أن ما يسمى بصفقة القرن قد وجد رفضا قاطعا من الفلسطينيين وبدا وكأنه محاولة لتصفية القضية الفلسطينية، فإن صدور قرار كهذا يكمل لحمة الموقف الفلسطيني، ويرفع الحرج عن القيادة الفلسطينية أمام هيئاتها العليا وشعبها أيضا. ومن جهة أخرى يعد ردا إضافيا رافضا للتوجه الأمريكي الذي يتبناه كوشنر، وفى هذا الصدد كان صائب عريقات أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية قد كشف أن التوجه الأمريكي الحالي قائم على فكرة أن الولايات المتحدة تعرف مصلحة الشعب الفلسطيني أكثر مما يعرفها الفلسطينيون أنفسهم!!، وبناء عليه تتجاهل الإدارة الأمريكية دور السلطة الفلسطينية (لأنها لا تعرف مصلحة الشعب الفلسطيني على حد فهمها). وعندما يصدر قرار كهذا بوقف الاتفاقيات بغض النظر عن تنفيذه من عدمه فإنه رسالة للطرف الأمريكي بأن الطريق الصحيح للحل يبدأ بالجانب السياسي، فهناك اتفاقيات عديدة ويجري العمل بها ومثلما يلتزم الطرف الفلسطيني بها يتعين أن يلتزم بها الجانب الإسرائيلي وأية مشاكل في هذا النطاق تتم بالتفاوض بين الطرفين، وأما التجاهل لدور السلطة والقفز على المسار القديم كما يريد كوشنر فإنه يفضي إلى خلق تعقيدات جديدة تضاف إلى ما هو قائم بين السلطة وإسرائيل.

وأما الرسالة الموجهة إلى إسرائيل فلها أكثر من جانب واحد، فمن ناحية هناك تعاون اقتصادي وأمني وفقا للاتفاقيات الموقعة والتخلي عن هذه الاتفاقيات يضر إسرائيل، وإن أضر بالجانب الفلسطيني فإنه لن يمثل جديدا لأن الضرر واقع كل يوم!، ومن ناحية أخرى يؤثر على حظوظ الحكومة الحالية في الانتخابات القادمة التي باتت قريبة.

ومن المعروف - على سبيل المثال - أن هناك مشكلة نشبت بين السلطة وإسرائيل مؤخرا حول عائدات الضرائب (أحوال المقاصة) إذ خفضت إسرائيل من هذه العوائد بحجة أن جزءا منها تنفقه السلطة على أسر الأسرى، وعندما تعلن القيادة الفلسطينية عن وقف اتفاقيات في هذا المجال فإنها تهدف إلى وقف التعسف الإسرائيلي في هذا الصدد.

وأما بخصوص الرسالة الموجهة إلى أوروبا، فهي دعوتها بأن تكون بديلا عن الطرف الأمريكي بحكم درايتها بمسيرة السلام ورفضها الواضح لسياسة الأمر الواقع التي تفرضها إسرائيل، فكما سبق القول قرار الوقف مرتبط أساسا بمسألة الالتزامات، والطرف الأوروبي يعلم جيدا أن إسرائيل هي التي لا تلتزم، ومن ناحية أخرى ليس خافيا أن هذا الطرف لا يتفق مع الطرح الأمريكي الحالي، وبما له من علاقات مع إسرائيل فإنه يستطيع تصحيح الأوضاع ولو جزئيا.