أفكار وآراء

الحداثة المتخيلة!

31 يوليو 2019
31 يوليو 2019

محمد جميل أحمد -

ظلت علاقتنا بالحداثة، على مدى قرنين، في هذا الجزء من العالم المسمى عربيا، علاقة معطوبة، وأقرب إلى أن تكون مثالية ومغرقة في مبادئ تفسيرية أشبه بالقوالب دون أن يكون لها أدنى تمثّل يعكس السيولة التي يقتضيها مفهوم الحداثة.

فما لا يلاحظه كثيرون؛ أن صيرورة الحداثة في أوروبا ذاتها، كانت لها سياقات مختلفة وتعبيرات عديدة في كل دولة على حدة؛ بحيث دلت على أن هوية الاختلاف في المسار الحداثي هي شرط لتوطينها وفق الهوية العامة لكل بلد.

هذا ما لا نكاد نعرفه في منطقتنا العربية، حيث كانت لحظة الحداثة التي استفاق العرب على وقعها هي لحظة صدامية عنيفة «اللحظة الاستعمارية» منذ بداية حملة نابليون إلى مصر قبل قرنين.

اليوم، تجاوزت لحظات الحداثة التي تنتظم العالم، عالمنا العربي إلى بلاد احتكت بالحداثة الأوروبية بعده بسنوات طويلة، ولكن تلك البلاد، بالرغم من أنها خضعت للحظة العنف التي زامنت الحداثة خارج أوروبا إلا أنها تجاوزت العلاقة الصراعية واستطاعت أن تحدق في الوجه الآخر للحداثة الأوروبية وأن تلتقط روح الحداثة وهويتها التي تجعل من التطور إمكانية متجددة في نهضتها.

بطبيعة الحال، في تقديرنا، أن أول شرط لتمَثُّل الحداثة في تلك البلاد؛ مثل اليابان وكوريا وماليزيا، كان هو القدرة على رؤية سائلة وغير جامدة أو متخيلة للحداثة؛ رؤية تعكس باستمرار هوية الحداثة من داخل أفكارها الأساسية؛ الحرية - الحوار - الاختلاف، وتمارس في الوقت ذاته فرزا نقديا مهما بين الوجه الإمبريالي للحداثة الأداتية، وبين القيم الفكرية والعقلانية.

وبالرغم من أن رواد النهضة العربية الأوائل، من أمثال الإمام محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، كانوا واعين للفروق الجوهرية بين أوروبا الاستعمارية من ناحية، وأوروبا الأنوار والحقوق والقيم من ناحية ثانية، إلا أنه للأسف حدثت قطيعة مع هذه الرؤية فانقطع تيار النهضة، واشتد زخم حركات المقاومة للاستعمار التي استندت في مقاومتها له إلى الهوية الإسلامية، لكن عداءها المطلق للمستعمر عمم لديها هوية كلية مصمتة في نظرتها للغرب. وهذه النظرة هي التي أحدثت القطيعة مع رؤية رواد النهضة السابقين.

صحيح أن زخم الهوية الإسلامية أعطى دفعة معنوية حماسية كبيرة للشعوب المستعمرة، ولعب دورا مقدرا في مقاومة الاستعمار، لكن في الوقت ذاته، بدا لكثيرين ممن تبنوا الرؤى الإسلاموية، أن الغرب كتلة واحدة، وأن الحداثة هي بالضرورة، مشروع مضاد للهوية العربية والإسلامية، وكان لهذه الرؤية مفاعيل خطيرة تمثلت في العجز عن إيجاد بدائل حديثة ومعاصرة من خارج الحداثة، ما عكس بوضوح، أن ما كان حماسا عظيما ودافعا لروح المقاومة إبان محاربة الاستعمار بدا، بذاته، ليس كافيا لتأسيس هوية معاصرة وقادرة على الاندماج في أزمنة العالم الحديث.

بمعنى آخر، كان إهدار الرؤية الرشيدة لرواد النهضة من أمثال الإمام محمد عبده هو الثمن الذي دُفعَ جراء الإعراض عن تلك الرؤية.

وللمقارنة البسيطة، يمكننا التأمل في تجربة الهند التي طورها غاندي باتجاه دولة وطنية وفق رؤية تحارب المستعمر بوعي، فترفض من الاستعمار جانبه القبيح كالاستغلال والعنف والتفرقة، وتبقي، في الوقت ذاته، على الجوانب الإيجابية للقيم المدنية والسياسية والفكرية التي كانت هي في الأساس سبب نهضة الأمم الأوروبية، كالحرية، والمساواة، ودولة القانون والمواطنة.

وهكذا اضطردت الهند في نهضة صاعدة ومستمرة وفق صيرورة علمية بأمثولة النهضة، بينما تعثرت مشاريع الدولة الوطنية في السودان مثلا، الذي كان يتوفر إبان الاستعمار على نظام تعليمي ممتاز ارتبط بالتعليم البريطاني في الهند، وكان أول كيان سياسي للسودانيين يهتم بالشأن العام (مؤتمر الخريجين) مستلهما اسمه الأول من حزب المؤتمر الهندي الذي أسسه غاندي.

لقد كانت الرؤية المتخلية للحداثة تعكس تشويشا مريضا في وعي النخب العربية التي كانت تشتغل باستمرار على تمثيلها (لا تمَثُّلها) وفق مبدأ تفسيري جامد.

وكنتيجة لهذه النظرة المتخيلة للحداثة، بدا للبعض أن الحداثة قالب واحد ينتظم الجميع في أوروبا وأمريكا بسوية واحدة من الأفكار والتعبيرات في حين أن الأمر لم يكن كذلك.

ويتضح لنا الأمر أكثر في المجال السياسي، حين نتأمل في مفهوم الحداثة السياسية التي كان تعبيرها الأكبر في الغرب، ينوس بين مفهومي اليمين واليسار كرؤيتين للسياسة من داخل الحداثة، لكنهما ارتكزتا، مع ذلك، على مشترك الوطن والمواطنة (رغم اختلاف الرؤيتين) في حين أصبح مفهوما اليمين واليسار لدينا في المنطقة العربية مفهومين متناقضتين؛ أحدهما يحيل إلى الحداثة «اليسار» والثاني يحيل إلى الدين «اليمين» وهو ما انعكس، مع الوقت، في مأزق التناقض الذي حكم اختلافات الأحزاب السياسية في المنطقة العربية وجعل معناها المتصل بمفهوم الحزب في المعجم السياسي الحديث لكلمة «حزب» أبعد ما تكون عن التعبير الحقيقي عن روح المواطنة، فكانت علاقة الإلغاء المتبادل بين أحزاب اليمين واليسار فرعا من صراع الرؤى الذي حكم منطقهما الخاطئ بحكم فهم متخيل للحداثة!