Ahmed-New
Ahmed-New
أعمدة

نوافذ :أنت = جواز + تذكرة السفر

26 يوليو 2019
26 يوليو 2019

بقلم: أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

يوجد مثل عماني؛ نصه: «في بلادك بأصلك، وفي بلاد غيرك بلبسك» اليوم لا يكفي أن تكون في بلاد «غيرك» بلبسك، فالألبسة متشابهة، والوجوه تكاد تكون متشابهة، وتكاد الاختلافات التي تفرق بين الجنسيات قليلة جدا، وإن وجدت فقد تكون خادعة، لأن هناك هجين متوغل في كل بلدان الكرة الأرضية، بفعل هذا التقارب البشري الواسع الانتشار، ومن يعوّل على الثراء، فهو أيضا غير واضح شديد الوضوح؛ أعني به كمظهر خارجي؛ وأنا أتكلم هنا عندما تكون خارج بلدك الأم، حيث تمتزج بالأجناس، والأعراق، والأشكال، والألوان، ولم يبق حينها ما يميزك إلا جواز سفرك فقط، فتحية إجلال وإكرام لمن اخترع فكرة أول جواز سفر في العالم، وتأتي تذكرة السفر لتبقى ملاذك الأخير للعودة إلى وطنك مع نهاية الرحلة التي تقوم بها، طالت هذه الرحلة، أو قصرت.

عندما تكون في إحدى قاعات الانتظار في أحد المطارات الدولية، وتنظر حولك (يمنة ويسرة) تدرك حينها أنك بلا هوية، ولا انتماء، حيث تتماهى هذه المعززات التي تعتز بها في بلدك، وتشعر بأنك مقطوع الوصال؛ وإن تحسست هاتفك في تلك اللحظة، كنوع من الاطمئنان؛ يحيط بك الفراغ من كل مكان، على الرغم من اكتظاظ عدد المسافرين، بأشكالهم، ولغاتهم، وألوانهم، وقيمهم، وعاداتهم، فمن أنت إذن في تلك اللحظة؟ أنت لا تساوي إلا رقما معتمدا في تلك اللحظة ضمن عدد المسافرين على متن الطائرة، التي هي الأخرى تحمل رقما موجودا على التذكرة التي تحملها بجانب جواز سفرك، قد تتاح لك فرصة توزيع الابتسامات مع من حولك؛ يمنة ويسرة؛ وقد يتكرم عليك أحدهم فيبادلك التحية، وقد يتطور الحوار إلى السؤال عن بلدك، وعن وجهتك، وعن غرض الزيارة للبلد التي ذاهب إليها أو قادم منها، مع إعلان قائد الطائرة عن البدء التدريجي للنزول على أرض المطار ينقطع الحوار، حيث تعانقك العزلة من جديد.

من أنت إذن في بلد الغربة؟ (أنت = جواز + تذكرة السفر) لا أكثر، على الرغم من أنك أكملت كل الالتزامات المالية المطلوبة منك في بلد الغربة، فقد حجزت غرفتك في الفندق الذي ستسكنه، ووضعت الضمانات المالية لهذا الحجز، وقد أودعت نقودا احتياطية لمتطلبات رحلتك في بطاقتك الائتمانية، وأخذت جزءا منها في جيبك، وخذت شوارع المدنية شرقا وغربا، ركبت القطارات وسيارات الأجرة، وتجولت في الأسواق والحدائق، جبت أماكن الترفيه على اتساعها، وعدت إلى غرفتك في الفندق مع حلول المساء، وراجعت مصروفاتك، وقمت بكل ما تمليه عليك مسؤوليات السفر، ومع كل ذلك فأنت لا تزال كما أنت لا تساوي أكثر من (أنت = جواز + تذكرة السفر) لأن مع نزولك من الفندق الذي تسكن فيه تفقد كل هوياتك، وكل مناصبك، وكل وجهاتك، وكل قبائلك، ومجموع أفراد أسرتك، حيث تلتحم بك الوحدة، وقد تقض مضجعك لولا تمكنك من لملمة استحكامات نفسك، ومشاعرك، وقد تستعيد شيئا من ثقتك عندما تدخل مطعما، أو محلا تجاريا، وتستجدي ذاكرتك لتعينك بشيء من مفردات اللغة الدارجة في التعاطي بينك وبين من تود أن تجري معهم حوارا للوصول إلى مطلبك.

في الراحلة العامة التي تشترك فيها مع آخرين، من أمثالك فاقدي الهوية؛ حينها؛ تتحسس في كل مرة جواز سفرك، ومحفظتك، وربما قد تعيش حالة من الارتباك خوف أن يسطو عليها أحدهم في حين غفلة، وهذه الحالة اللاشعورية تنتزع منك كل لحظات الاستمتاع، فتفوتك مناظر كثيرة، أنت ما جئت إلى هنا إلا لأجلها، لتكسب شيئا مما لم تألفه من قبل، ويظل الشعور ذاته يغالبك في كل مرة، حتى تقفل راجعا من رحلتك، وعندما يعلن قبطان الطائرة الاستعداد للهبوط في مطار بلدك، عندها فقط تعود إليك هويتك، وانتماءاتك، وقبائلك، ووجاهتك، فصحيح من وصف السفر بأنه «قطعة من العذاب» على الرغم من تحقيقه لفوائد السفر الـ «خمسة».