أفكار وآراء

العرب والمسلمون.. حوار وتعددية حضارية

26 يوليو 2019
26 يوليو 2019

إميل أمين - كاتب مصري -

[email protected] -

هل تعرض الإسلام والمسلمون لكثير من العسف والخسف في العقدين اللذين تليا انهيار الاتحاد السوفييتي، وهل هذا الظلم الأدبي يجد له اليوم موطئا جديدا في الولايات المتحدة الأمريكية وعموم أوروبا تحديدا لا سيما في ظل حالة الردة الحضارية الفكرية التي تجلت مؤخرا في صحوة بعض من القوميات السياسية القديمة من جهة، وارتفاع أصوات الشوفينيات التقليدية التي عرفتها أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين فأفرزت لنا الفاشية والنازية، عطفا على اشتداد عودة تيارات اليمين المتطرف سواء كان يمينا دينيا أصوليا آو يمينا شعبويا ؟

الشاهد أن هناك بالفعل ظلم بين وقع على الإسلام من جراء اعتباره العدو الأخضر، البديل الذي لا بد له، في نبوءة تحقق ذاتها بذاتها Self prophecy، أن يحل محل العدو الأحمر الذي هو الشيوعية، وهي نبوءة مكذوبة ولا شك، تقع في دائرة قراءات برنارد لويس أول الأمر وصولا إلى طرح صدام الحضارات لتلميذه صموئيل هنتنجتون.

غير أن نظرة تاريخية قريبة على فلسفة الإسلام وقاعدته الذهبية في التعامل مع أصحاب الأديان السابقة، يوضح بجلاء أن المخاوف لا أساس لها من الصحة، وأن هناك رؤية قرآنية ثابتة، أنهت هذه المخاوف مرة وإلى الأبد منذ بدايات الإسلام وحتى الساعة.

ركز الإسلام على حرية التدين لأهل الكتاب، وأول هذه الحريات «حرية الاعتقاد والتعبد، فلكل ذي دين دينه ومذهبه، لا يجبر على تركه إلى غيره، ولا يضغط عليه أي ضغط ليتحول منه إلى الإسلام.

إن أساس حق الحرية في الاعتقاد والتعبد راسخ في عمق الآية القرآنية: «لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي»، وفي الأية «أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين».

وقد قال ابن كثير في تفسير آية «لا إكراه في الدين» أي «لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام، فانه بين واضح، جلي دلائله وبراهينه لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه... فانه لا يفيد الدخول في الدين مكرهاً مقسوراً».

والمعنى الهام الذي تقودنا إليه قاعدة (لا إكراه في الدين، وأن نتركهم وما يدينون)، في التفكير الإسلامي والاعتراف بشرعية الآخرين، وقبولهم على ما هم عليه، إنها مبنية على ثوابت، وعلى رأسها قيمة الإنسان، وأخوة بني الإنسان، والجميع مقبولون، ما لم يمارسوا تجاه المسلمين الظلم والعدوان.

فهم المسلمون الأوائل العمق الروحي لجذور التعددية، والاختلاف الخلاق في المعنى والمبنى القرآني، ولذلك التزم الحكام المسلمون الأوائل بهذا، فأبقوا على الديانات والملل في جميع البلاد التي فتحوها، وأتاحوا لغير المسلمين الحرية، انطلاقاً من تلك المكانة التي أعطاها الإسلام لأهل الكتاب ومنهم المسيحيون، إضافة إلى عنصري الأصل الواحد وحصانة الآدمية، فالإسلام اعترف بالديانة المسيحية وبالسيد المسيح عليه السلام ، واشترط الإسلام ليكتمل إيمان المسلم أن يؤمن بجميع الرسل والأنبياء وبذلك أضاف الإسلام الوشيجة الإنسانية، ومحورها الأساسي أن الأديان الثلاثة تؤمن بإله واحد لا شريك له.

لعل الكارثة الحقيقية التي حلت بالعالمين العربي والإسلامي، هي العقول التي تضيق واسعاً، تلك التي فضلت طويلاً ضيق الايديولوجيا على رحابة الابستمولوجيا، والتي نحت بالدوجمائيات لتضحي أداة للصراعات، عوضاً عن كونها مصدراً رحباً فسيحاً لكل ما يتصل بعالم الروحانيات.

مهما يكن من أمر فإنه وسط أنواء الحاضر واشتداد الخطوب ربما يعمد المرء لأن يفر إلى الماضي، عسى أن يجد فيه ما يروي ظمأه بعمق المعرفة، وطيب التلاقي الذي كان، عوضاً عن جفاف الحاضر، وظلامية بعض مشاهده.

كانت التعددية في صدر الإسلام حقيقة لا خيالا، والتعددية واقعاً معاشاً لا تنظيراً فكرياً أو تأطيراً مرجعياً. خذ إليك على سبيل المثال الخليفة العباس المهدي (127هـ/‏‏ 745م) ثالث خلفاء الدولة العباسية، والذي كان ديوانه يمتلئ صباح مساء كل يوم باليهود والمسيحيين، من العرب والعجم، في تمازج حضاري وإنساني تعددي فريد، قل أن نجد له مثالا أو نظيرا في حاضرات أيامنا.

أروع وأبدع، بل أنفع وأرفع ما يمكن للأجيال المعاصرة في عالمنا العربي أن تطلع عليه هو حالة التعددية والحوار التي قادت الدولة الإسلامية لمراتب عالية في الماضي، عسى أن يكون بين جنبات الرؤية ما يزخم الحاضر الآني بموجات من الأمل والتفاؤل الخلاق.

لعبت الحضارة العربية دوراً رائداً وخلاقاً في استنارة أوروبا، هذه حقيقة لا مراء فيها، غير أن هناك حلقة لا بد من الوقوف أمامها، وتأمل المشهد جلياً، فقد كان لابد بداية من ترجمة العلوم والآداب والمعارف اليونانية إلى العربية، ومن بعد الترجمة إلى اللاتينية لتصل إلى الأوروبيين، غير أن الترجمة هذه لم يكن لها أن تقوم دون مترجمين، وإن اختلفوا عقائدياً، لكن مظلة التعددية والحوار بينهم وبين المسلمين حكاماً ومحكومين كانت تتجاوز الخلافات اللاهوتية أو الفقهية.

ففي تاريخ الدولة الإسلامية ظهر عدد من المترجمين النصارى الذين كانوا يجيدون اللغة الآرامية أو السريانية، واليونانية والعربية، فكان لهم دور كبير في مجال الترجمة، ففي خلافة المأمون، عرفت حركة الترجمة إلى العربية ذروتها، وكانت للخليفة عدة اتصالات بقياصرة الروم ليطلب فهم مما يطلب، أن يأذنوا لبعثه عربية بالسفر إلى بلاد الروم لجميع المخطوطات في علوم الطبيعة والهندسة والطب، وأن يبعثون إلى بغداد عالماً بالرياضيات يونانياً مشهوراً اسمه «لادون».

في هذا السياق المعرفي التاريخي يمكن للمرء القطع بان الخليفة المأمون هو مؤسس معهد الترجمة العظيم الذي يعرف ببيت الحكمة، والذي أنيطت إدارته لسهل بن هارون كان معظم المترجمين في البداية من النصارى الملكانيين، واليعاقبة والنساطرة خصوصاً، بفضل هؤلاء انتقلت علوم اليونان إلى العرب ثم عادت بواسطتهم إلى أوروبا وقد بقيت بعض أسماء الذين ترجموا للمأمون، فمن النصارى الحجاج بن مطر، وعبد المسيح بن ناعمه الحمصي في ترجمه كتب الطب، ويحيى بن البطريق الذي كان في جملة الحسن بن سهل.

وكان حنين بن إسحاق النصراني العبادي (ت 264هـ/‏‏ 873م) من المقربين إلى الخليفة المتوكل العباسي، ويترجم له الكتاب فيعطيه بوزنها ذهباً، وكان أهل طائفته يحسدونه لحظوته عند الخليفة، وخصوصاً (الطيفورى النصراني) فحكم عليه مجلس الأساقفة بحرمانه من الكنيسة، فمات غماً من اضطهاد طائفته.

وفي كل الأحوال يمكن الجزم بانه لا حوار إلا بين المغايرين، ومفهوم الحوار قائم على مفهوم عام للغيرية، وهي أساس الحوار وقاعدته الملزمة، إن هي غابت تعثر، بل استحال إلى غير الممكن، وان وجدت أوجدته بالقوة لا بالفعل، ورب قائل هنا وبالرجوع إلى الجدلية الهيغلية أن مبدأ الصدام هو في الواقع محرك التاريخ، لكن ما من دليل حاسم على أن الصراع مع الآخر حتى انكسار واحد من اثنين هو مقصد هيغل، فنظرية العبد والسيد لا تقول بإلغاء أي طرف من الطرفين للآخر، وإن تفاوتت موازين القوى، لأن في الحفاظ على الآخر حاجة حيوية للإبقاء على الذات في ما هي عليه وليس بقاء الأنا إلا من بقاء الآخر. والأخر يعني بالضرورة التاريخية الحوار، فلا أخر إن كان معزولا أو مستبعدا، وفي حالة العالم العربي المعاصر يبقى الحوار فرض عين حال أردنا السعي في إطار الكوكبية (العولمة) التي باتت شرطاً للدخول في سياقات عالم القرن الحادي والعشرين. لم يعد العالم جزراً منفصلة بعضها عن البعض، ولا هو كما كان الحال في زمن الامبراطوريات القديمة، القائمة كل منها بعيداً جداً عن الأخر، وتستطيع أن تقيم حاجاتها بمعزل عن الغير، والذي دائماً ما كان الخصم والعدو.

في عالمنا المعاصر نشأت مجتمعات متعددة الثقافات، تكافلية تعددية في نواح شتى متعددة، وبالتالي فان مثل هذه المجتمعات يحتاج بشدة إلى الحوار من أجل التعايش والبناء والازدهار، ومن دون التفاهم المتبادل فلن تتمكن شعوب العالم من القضاء على ما يواجهها من المشاكل التي لا حصر لها من فقر وجهل وفرقة وخراب وغيرها، مما يهدد بالانهيار، فمن دون الحوار المتبادل والتفاهم بين شعوب العالم، باختصار شديد سيكون من الصعب، بل ومن المستحيل تأسيس قواعد للسلام العالمي.

ولعل السؤال الذي يمكننا من ضبط المسافات في المواءمة بين الانتقال إلى حالة التعددية والانسداد الحضاري الذي جرى لعقود طويلة، هو كيف يمكن للعالم الإسلامي أن يعتبر قضية التعددية والحوار مع الآخر قضية قرآنية في العمق، وأنها ليست مسألة مستحدثة يراد بها زعزعة الإيمان والدين واليقين، كما يرى بعض أصحاب نظرية التلاقي والانثقاف، وما يتتبعها من حوار بين اتباع الأديان التوحيدية بنوع خاص؟

اغلب الظن أننا - والحديث للمفكر العروبي الليبرالي هاشم صالح - لسنا في حاجة إلى معارك طواحين الهواء، فللانتقال من مرحلة اللاهوت أو الفقه السياسي الطائفي القديم الذي سيطر علينا طيلة قرون وقرون إلى مرحلة الفلسفة السياسية الحديثة القائمة على فكرة المواطنة وحقوق الإنسان، واحترام كرامته أيا كان، لسنا بحاجة إلى إجراء قطيعة راديكالية مباغتة قد تزعزع العقلية الجماعية في الصميم، يمكننا أن ننتقل بهدوء تدريجي، فنستعيد ثقتنا بأنفسنا بداية، وتالياً ثقة العالم بنا واحترامه لنا، ونستطيع من ثم التعاطي وحل المشاكل القائمة بيننا وبين الآخرين، شرقاً وغرباً وعجماً. هنا يبقى التعليم الجيد والمنفتح، المفتاح الرئيسي لإطلالة واقعية محمودة على العالم، فلو تم على سبيل المثال تخصيص وتكريس جهود بعينها لعلم الأديان المقارنة في المؤسسات التعليمية العربية، لاسيما الجامعات، لعرفنا أن التعددية وقبول الآخر، والحوار هو حالة قرآنية، سيما وأن القرآن الكريم يقر بالتعددية في آياته البينات، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

- «يا أيها الناس إن خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير» (الحجرات: 13)

- أو: «لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون» (المائدة: 48)

- أو: «إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصائبين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليم ولا هم يحزنون». من هنا يمكن القطع بان القرآن الكريم يعترف بالتعددية العقائدية بشرط التقى والعمل الصالح، ثم إن الله هو وحده الذي يحكم على البشر يوم القيامة بالكفر أو الإيمان، ولا يحق لمخلوق على وجه الأرض أن يفعل ذلك مكانه.

لن تتمكن الشعوب العربية من دخول عالم الحداثة والعصرانية بعقل منفتح وروح وثابة، للعيش المشترك مع العالم الخارجي، إلا من خلال تعددية حقيقية إنسانية، تعددية صادقة غير زائفة، وحوار متكافئ فعال، فالحوار بنوع خاص يؤكد دوماً على نقاط التلاقي بين أصحاب الأديان والثقافات المختلفة حول العالم.