أفكار وآراء

​القواسِم المُشترَكة لأسباب التخلّف العربيّ

26 يوليو 2019
26 يوليو 2019

د.عبد العزيز محمّد الدخيل -

تخلَّف العالَم العربيّ عن حركة التغيير والتطوّر السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ التي انبثقت أنوارها من أوروبا الغربيّة بعدما أشعلت نيرانها شعلة عصر الأنوار خلال القرن الثامن عشر الميلاديّ، هذه الشعلة التي اقتلعت الاستبداد الكهنوتيّ المسيحيّ والتسلّط الامبراطوريّ السياسيّ والاستغلال الاقتصاديّ لجهد العامّة، من ناسٍ وعُمّال ومُزارعين، وأطلقت العنان لحريّة الإنسان وعقله لبناء عصر حضاريّ جديد.

لم يقُم عصر الأنوار من فراغ، فقد تشبَّعت جذوره من حضاراتٍ سادت من قبل في الصين واليونان والشرق الأوسط، ومنها الحضارة العربيّة الإسلاميّة؛ وانطلقت شراراته الأولى في بريطانيا، ثمّ اشتعلت نيرانه في فرنسا، فتبدَّد الظلام في أوروبا الغربيّة وما حولها وما اتّصل بها. وقد تمثَّلت القيَم العليا لذلك العصر في اعتماد العقل والمنطق والعِلم كأساس للفْهم والإيمان: فصل الدّين عن الدولة كأساس لبناء المجتمع، وحريّة الفرد كأساس لبناء العلاقة بين الحاكِم والمحكوم.

الأفكار والقيَم العليا لعصر الأنوار لم تكُن لها الحاكميّة الدوليّة والإنسانيّة، كما تعبِّر عنه الأطروحات الفلسفيّة لقادة الفكر آنذاك أمثال كانط وفولتير وروسّو ومونتسكيو وسبينوزا وغيرهم. الحريّة والديموقراطيّة وحقوق الإنسان التي وُلدت من رحم ثورة الأنوار كانت مُعنونة باسم الإنسان في أيّ زمان ومكان لكنّها لم تكُن في الواقع لكلّ إنسان.

حقَّقت دول الإشعاع التنويري الغربيّة نهضة عِلميّة وصناعيّة وعسكريّة بفعل الاستقرار السياسي والاجتماعي الذي تمخّضت عنه حركات التحرير التي أشعلها عهد الأنوار، والتي رسَّخت قيَم الحريّة وحقوق الإنسان والعدالة. لكنّ الأدهى والأمرّ هو أنّ هذه الدول أعملت قوّتها العسكريّة والصناعيّة والتقنيّة والسياسيّة في تثبيت أقدامها الاستعماريّة والتوسُّع فيها واستغلال ثروات الشعوب المُستعمَرة في أفريقيا وأميركا الشماليّة والجنوبيّة وآسيا والشرق الأوسط والعالَم العربيّ. ولا تزال النزعة التسلطيّة الاستعماريّة لدى هذه الدول قائمة وإنْ بثَوبٍ مُغاير تنسج خيوطه ممّا يسمّونه المصلحة القوميّة الأمنيّة العليا. ويتساءل المرء كيف لتلك الشعوب الأوروبيّة التي شعَّ فيها عصر الأنوار وترسَّخت في دساتيرها وحياتها قيَم الحريّة والعدل وحقوق الإنسان أن تسكُت عن الظلم، بل أن تُسهم من خلال حكوماتها وبرلماناتها الديمقراطيّة في استعباد الشعوب الأخرى واستنزاف خيراتها.

يقودنا ما تقدَّم إلى السؤال التالي: هل إنّ مبادئ عصر الأنوار وقيَمه التي أصبحت واقعاً ملموساً في حياة الشعوب الغربيّة ودساتيرها، والتي شعَّ في سمائها نور العصر، هي ذات وجهَين وطني وأجنبي؟ حيث إنّ للإنسان المُواطن، في أيٍّ من هذه الدول الغربيّة الديموقراطيّة، حقوقه السياسيّة والإنسانيّة والاجتماعيّة، والتي هي محميَّة بقوّة القانون والدستور؛ في حين أنّ الإنسان، وهو الإنسان ذاته في العالَم الآخر ومنه عالَمنا العربي، يقبع خارج تلك الحماية. قد نفهم الجغرافيّة الوطنيّة لقيَم عصر الأنوار في ما يتعلّق بوجودها على أرض الواقع، لكنْ كيف لنا أن نفهم أنّ الشعوب التي تحتمي بقيَم عصر الأنوار تستعمر البلدان وتنهب خيراتها وتستبيح سيادتها وتغتال حقوق الإنسان فيها، على الرّغم من أنّ الإنسان هو الإنسان؟

حدث هذا في مصر من قِبَل إنكلترا في العام 1882، وفي الجزائر من قِبَل فرنسا في العام 1830، وفي نيجيريا من قِبَل إنكلترا في العام1861، وفي فيتنام من قِبَل فرنسا 1858 وكان للبرتغال وإسبانيا وهولندا وغيرها من الدول نصيبٌ من مَوجة الاستعمار ونهب خيرات الدول الأخرى وشعوبها والسيطرة عليها. أمّا الولايات المتّحدة، فقد تركَّزت عمليّاتها الاستعماريّة في هذه الفترة في أميركا اللّاتينيّة: 1833 نيكاراغوا، 1835 البيرو، 1846 المكسيك التي اقتطعت منها ثلاث ولايات هي تكساس وكاليفورنيا ونيو مكسيكو، قبل أن يجري احتلال شيلي في العام1891. أمّا في نِطاق الاستعمار الجديد، بعد الحرب الكونيّة الثانية، فقد تقاسمت فرنسا وبريطانيا تركة الدولة العثمانيّة من الدول العربيّة. وفي العهد الحديث، احتلَّت الولايات المتّحدة الأمريكيّة فيتنام، وتحديداً في العام 1969، وأفغانستان في العام2001، والعراق في العام 2003.

بالعودة إلى موضوعنا المتعلّق بالبحث عن أسباب التخلّف العربي أقول: إنّ المُستعمِر الأجنبي استغلَّ ثروات البلاد، وحَكَمَ العِباد، وقرَّب أهل المال والفساد، وقتلَ الأحرار والثوّار وأَبعدهم، بحيث ظهرت حركات التحرير والدعوة إلى الاستقلال؛ ثمّ جاء «المُستعمِر الوطني» الذي كان أحياناً أسوأ حالاً من الأجنبي. فعانى المُواطن من الظلم والبطش على يد ابن الوطن الذي يُفترَض أنّه جاء لتحرير بلده من المُستعمِر، ولإقامة الشرعيّة الديمقراطيّة ومؤسّساتها بهدف إرساء دعائم الحريّة الفرديّة وحقوق الإنسان وحُكم القانون وتعظيم ثروة الأمّة ونمائها الاقتصادي.

لقد سهَّل المُستعمِر طريقَ الحُكم أمام مَن هُم أقرب لخدمة أهدافه، وللطامعين في السلطة على حساب مصلحة الأمّة.

وفي هذا الصدد يقول محسن خضر (الحياة -10 أيلول/‏‏ سبتمبر 2011): «لا فارق بين مُمارسات الاستعمار الأجنبي والأنظمة الوطنيّة ..إذ انتهجَ الجميعُ المُمارساتِ الوحشيّة نفسها ضدّ مُعارضيهم».

الأمثلة على ذلك قائمة اليوم في عالَمنا العربي والعالَم الثالث، حيث تُعاني الشعوب من قبضة المُستعمِر الوطني الحديديّة، وهي لا تزال تحاول الانعتاق من سجن الديكتاتوريّة إلى فضاء الحريّة والديمقراطيّة، وما الربيع العربيّ إلّا أحد تجلّيات هذا الصراع.

الاستقلال لم يعنِ اليوم الشيء الكثير للإنسان العربي، لأنّ الوكيل الوطني، الذي أوصى به المُستعمِر المُغادِر أو سهَّل وصوله إلى الحُكم حفاظاً على مصالحه المستقبليّة السياسيّة والاقتصاديّة، لم يكُن مَعنيّاً بحريّة الإنسان المواطن ورفاهيّته وتقدّمه بقدر اهتمامه بالحفاظ على كرسيّه في الحُكم. لذا نسمع أحياناً مَن يقول: كان حالنا في عهد الاستعمار أفضل. وهذا دليل على أنّ العلّة الأساس ليست في الغلاف السياسي الاستعماري فحسب، وإنّما هي أيضاً، وهذا هو المهمّ، في استلاب حريّة الإنسان وحقوقه بصرف النَّظر عن هويّة سارقها، وسواء أكان مُستعمِراً أجنبيّاً أم حاكِماً محليّاً. لكنّ الظلم من ذوي القربى أشدّ بطشاً وألماً.

في مُشتركات التخلّف العربيّ لا يُمكن ربط أسباب التخلّف العربيّ اليوم بالمُستعمِر الأجنبي فقط، وذلك على الرّغم من أنّ هذا المُستعمِر نفسه هو الذي بذرَ بذورها. فالمُستعمِر الوطني، الذي انقلب على حركات الاستقلال والتحرير، بنى على الأرض التي هيّأها له المُستعمِر واستنبتَ البذور التي في داخلها. بنى المُستعمِر الوطني قلاعاً وحصوناً سَجنَ فيها الأحرار واعتقلَ إرادة التغيير من أجل نِظامٍ سياسي اجتماعي اقتصادي دستوري قوامه احترام حريّة الإنسان وحقوقه الأساسيّة.

وعليه، يُمكن النّظر في أسباب التخلّف العربي والبحث فيها انطلاقاً من ثلاثة محاور رئيسة، تشكِّل القواسم المُشترَكة لحالة التخلّف السياسي والاجتماعي والاقتصادي في الدول العربيّة، لكنْ مع اختلافٍ بسيط في الشكل وليس في الجوهر. القاسِم المُشترَك الأوّل هو «التخلّف في مجال الحريّة السياسيّة»، والثاني هو «التخلّف في مجال الحريّة الفكريّة وحريّة الرأي»، والثالث هو «التخلّف في مجال التعليم كمّاً ونوعاً».

لا أعتقد أنّ الباحث سيجد عناءً في إثبات مَعالِم هذه الأسباب الثلاثة وظواهرها في البلدان العربيّة قبل مرحلة الاستعمار وخلالها ومن بعدها. فتضاريسها عالية البنيان، لكنّها تحتاج إلى أبحاث ذات منهج عِلمي قياسي مُقارن؛ بحيث تحتاج هذه البحوث إلى العمل الأكاديمي الاستراتيجي الذي يجب أن تتولّاه معاهد ومؤسّسات عربيّة بحثيّة ذات استقلالٍ مالي وسياسي عن الحكومات.

إنّ تعاقُب البحوث الرصينة في هذا المجال وتلاقحها يقدِّم لصانعي السياسات مادّةً تساعد على توجيه الاستراتيجيّات والخطط والسياسات المستقبليّة، فضلاً عن الوسائل الناجعة لعلاجها، في كلّ إقليم عربي بحسب ظروفه وإمكاناته. وهنا تبرز نقطة مهمّة تتعلّق بالتعاوُن والتنسيق والتكامل بين معاهد الأبحاث المستقلّة في العالَم العربي.

إنّ الإطار الجمعي العربي التعاوني، بمفهومه البراغماتي وليس الأيديولوجي، من شأنه، في إطار التنسيق وتبادُل المعلومات والخبرات والتجارب، أن يسمح بإعداد الخطط والسياسات التنمويّة والتقدميّة في جميع المجالات المُشار إليها أعلاه، ثمّ التنفيذ واستخلاص الدروس المُستفادة، بما يقدِّم قيمة مُضافة كبيرة للعمل الفردي على صعيد كلّ دولة.

عند إعداد الخطط والاستراتيجيّات التنمويّة، غالباً ما تلجأ وزارات التخطيط أو المؤسّسات المَعنيّة في كلّ دولة عربيّة إلى الاستشارات الدوليّة، من مؤسّسات وشركات استشاريّة، وخصوصاً الغربيّة منها. وهذا أمر مقبول ما دام مضبوطاً. غير أنّ الأمر لا يعني إهمال ضرورة الاستفادة من الخبرات الوطنيّة المتخصّصة وتجارب الدول العربيّة الأخرى وخططها في هذا المجال أو ذاك، ولاسيّما أنّ البيئات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة للبلدان العربيّة مُتشابهة في مَعالمها ومَلامحها وخصوصيّاتها أكثر من تشابُهها مع الدول الأخرى. لذا فإنّ التنسيق وتبادُل المعلومات والتجارب والخبراء بينها يضيف بُعداً إيجابيّاً إلى خطط كلّ دولة على حدة وبَرامجها.

كاتِب من السعوديّة، المقال ينشر بالاتفاق مع مؤسسة الفكر العربي