1274770
1274770
إشراقات

فريضة الحج.. إنـسـانيــة بامتـيـاز

25 يوليو 2019
25 يوليو 2019

الحج في قلوب المسلمين -

ناصر بن عبدالله الصوافي - واعظ بوزارة الأوقاف والشؤون الدينية -

«تتجلى في الحج معاني الإسلام وشرائعه وحكمة الله تعالى في خلقه وعباده فهم على اختلاف قبائلهم وألوانهم وأفكارهم أتى بهم من كل بقاع العالم ليتعارفوا ويتآلفوا ويتعاونوا فيما بينهم وكأن الحج مؤتمر عالمي يوحد فيه المسلمون جهودهم ويجددون فيه عهودهم والتزاماتهم مع الله وعباده»، كثيرة هي أغراض السفر وأسبابها وتنوعت الرحلات وأهدافها، كم سافرنا لغرض السياحة والاستجمام وكم رحلنا من مكان لمكان نبتغي به السكون والألفة والاجتماع مع الأهل والإخوان تعددت أسفارنا في هذه الحياة، ولكن هناك سفرة لا تشبهها أية سفرة أو أية رحلة؛ لأنها تأتي في سياق العبادة والطاعة والانقياد، إنها رحلة مشوقة يقوم بها العبد تلبية لطلب مولاه وسيده وربه وخالقه رحلة يستاح فيها المؤمن في طاعة الله ويعيش في بعض الأماكن التي عاشها أنبياء الله ويدرج ويهرول في مواقف وأماكن مشى عليها وفيها أصفياء الله وأنبياؤه ورسله وهم قدوة البشر وسادة العالم وخيرة الخلق من العباد، إنها رحلة تذكر الإنسان بخالقه وتربطه بعقيدته ويتصالح فيها مع ربه ومولاه فتنصلح سريرته وعلانيته إن صدق مع الله وأخلص النية لله؛ فقد فاز بالقبول والرضا والحبور ورجع من هذه الرحلة كيوم ولدته أمه بلا ذنوب ولا عيوب.

إذا كانت هذه الرحلة رحلة ربانية لنيل مرضاة الله وعفوه ومغفرته وإحسانه فلا ينبغي لأحد أن يستغل تلك الأوقات الفاضلة في لهو الحديث وفي قيل وقال أو في جلب متع وملذات أو نوم وكسل أو فيما لذ من أكلات وملذات أوفى تناحر أو تشاجر على أداء المناسك، لا ينبغي لأحد أن يكون همه في تلك البقاع المكرمة والأزمنة المباركة: ماذا يأكل وكيف ينام ومتى يعود؛ لأنها فرصة لا تتكرر وزمن لا يعوض وأماكن مباركة لا تفوت، فعلى الإنسان أن يبرمج حياته كلها وزمنه كله ليكون في طاعة وذكر في عبادة وشكر لا لهو فيها ولا لغو ولا رفث ولا فسوق ولا جدال ولا مراء ولا بغضاء ولا عداوة ولا شحناء كن عبدا خالصا لله، اترك كل متعك وملذاتك ورغائبك كما تركت وطنك وأحبابك وانقطع فقط لله ولطاعته وشكره وعبادته قم بها كما أمرك ربك ومولاك وأخلص النية قبل العمل وتلذذ بالعبادة والقرب من الله، وعش مع الله وأنبيائه ورسله وأوليائه وأصفيائه.

إن الحج ركن عظيم من أركان الإسلام تتجلى فيه معاني العبودية الخالصة لله سبحانه لأن الإنسان يتوجه إليها بقلب خالص ونفس رضية بعدما يؤدي كل ما عليه من حقوق والتزامات تجاه العباد ورب العباد، وفي الحج تتحقق بعض المصالح الدنيوية والمنافع الاقتصادية، مصداقا لقوله تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ* لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}، فالحج عبادة تشتمل على منافع دنيوية عاجلة ومنافع أخروية آجلة وهذه حكمة أخرى من حكم الحج تحتاج منا إلى شكر وجهد وعمل.

الحج يعتبر من أفضل العبادات وأعظمها أجرا؛ لأنه يشتمل على كل أركان الإسلام كما يقول العلماء الأجلاء، فيه تتجلى معاني الصلة والرحمة فيه الصلاة والاعتكاف والانقطاع لله فيه الإنفاق والزكاة والصدقة فيه الجهاد والغزو وفيه تلبية الدعوة والمسارعة في الخيرات وطلب العفو المغفرة والجنات؛ فهو عبادة بدنية ومالية وشعائرية يطهر بها المسلم نفسه من أدران الحياة ومتعلقاتها وينقيها من شوائبها ويمسح عنها غبار الآثام وعوالق الإجرام، الحج أن تقيم الحجة على نفسك وتتقرب إلى مولاك بجميع ما تملك جسدا وروحا، وتسخر كل نعم الله عليك في شكره والتقرب إليه؛ فهو عبادة شكر وطاعة تعترف فيها بكل ما جنيت وما عملت وتقف بين يدي ربك وسيدك ومولاك في موقف مهيب وجمع عظيم تطلب عفوه ومغفرته تطلب السماح ومحو ما فات وتفتح فيه صفحة جديدة مع ربك ومولاك وتبدأ بداية جديدة في مستقبل عمرك وبقية حياتك وتتعهد فيه بالالتزام والوقوف على حدود الله والابتعاد عن كل ما يغضبه أو انتهاك محارمه فترجع وأنت صافي النفس نقي السريرة صافي الذهن بهمة عالية وعقل وقاد، تطرق أبواب الخيرات كلها وتسابق إلى الطاعات بكل أشكالها وصنوفها وكأنك في الحج تقترب من سيدك ومولاك وخالقك فتأنس به ويملأ قلبك سعادة وطمأنينة ويملأ نفسك غنى وراحة وسكينة، الحج يذكر المسلم بأحداث جليلة ومواقف نبيلة للأنبياء عامة ولنبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاصة ويعيد لذاكرته بعض صور الحياة السابقة التي عاشها أولئك الأنبياء القدوة ويرى بأم عينيه بعضا مما يقرأه في القرآن من مواقف وأماكن؛ فتأخذه العبرة والعظة وتتوثق صلته بكتاب الله في الحج يرى مشاهد حية ومواقف مباشرة فيعيش الحدث والأحداث الإسلامية ويرتبط بها ارتباطا وثيقا ويعلم حق العلم أن هذا الدين لم يصل إلينا جزافا، وإنما كان بجهد واجتهاد ومشقة وعناء وتضحيات من أولئك النفر القليل الذين لولاهم لما عرفنا الإسلام ولا اهتدينا بالقرآن ولما كانت خير أمة أخرجت للناس؛ فيشكر الله تعالى على ما هو فيه من النعم ويبذل قصارى جهده ليكمل المشوار ويكمل المسيرة ويواصل السير على نهج أولئك الأبرار.

إذا ذهبت إلى الحج فقد شكرت نعمة المال ونعمة الصحة ونعمة العافية ونعمة القوة التي منحك الله تعالى إياها، واعترفت للمنعم بجميع النعم وتأكدت أن كل ما بك من نعم فهي من الله، واعترفت للمنعم سبحانه وتعالى بهذه النعم وشكرته عليها بأن أنفقتها في سبيله ومرضاته وطاعته وفي الحج شكرت الله تعالى على نعمة الوقت والفراغ فقد سخرت وقتك وبذلت وسعك وجهدك مستغلا بعضا من عمرك ووقتك في طاعة الله وتلبية ندائه وأداء ما فرضه عليك من واجبات وتركت كل مشاغلك والتزاماتك الدنيوية، وأتيت لربك وسيدك ومولاك تسعى إليه وتجتهد في الحصول على مزيد من النعم ومزيد من البركات ومزيد من الرحمات والله تعالى يقول: {لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ولَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}.

في الحج تتجلى معاني الأخوة والألفة والمودة والرحمة بين أبناء المسلمين وبين أبناء الأمة فيجتمعون من كل بقاع الأرض في مكان واحد وفي وقت واحد وهم يلتزمون بشعائر موحدة وأداء مناسك محددة يهتفون بنداء واحد: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك).

فتتجلى فيهم معاني الوحدة بأبهى صورها وأجمل معانيها ويتجلى معنى السواسية والمساواة بينهم جميعا، فتكاد لا تعرف غنيهم من فقيرهم ولا حاكمهم من محكومهم ولا خادمهم من مخدومهم كلهم سواسية، كلهم ملتزمون بزي واحد ولباس واحد ووقت واحد وزمن واحد، ليس لهم اختيار في تنفيذ المناسك وقتما شاءوا وأينما شاءوا إنما هناك التزام وتحديد وتوقيت لكل شيء وهذا يؤكد أن الأمة قادرة أن توحد منهجها وكلمتها وتعلي من مكانتها بين الأمم إذا التزمت بمنهج الله وشرعه القويم.

تتجلى في الحج معاني الإسلام وشرائعه وحكمة الله تعالى في خلقه وعباده؛ فهم على اختلاف قبائلهم وألوانهم وأفكارهم أتى بهم من كل بقاع العالم ليتعارفوا ويتآلفوا ويتعاونوا فيما بينهم وكأن الحج مؤتمر عالمي يوحد فيه المسلمون جهودهم ويجددون فيه عهودهم والتزاماتهم مع الله وعباده.

في الحج يتذكر المسلم موقف الحساب وأرض المحشر ويوم القيامة كيف يجمع الله تعالى الخلائق من شتى بقاع الأرض على اختلاف أشكالهم وألوانهم ومراتبهم في صعيد واحد ووقت واحد وكأنه سبحانه وتعالى يدرب هؤلاء العباد ويعرفهم كيف سيكون الموقف يوم القيامة ليزدادوا يقينا وإيمانا بقدرة الله وحكمته، وهو القائل سبحانه: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ}.

إن من أهم الحكم المفيدة والدروس العظيمة لعبادة الحج هي توحيد كلمة المسلمين ونبذ اختلافاتهم وتحقيق وحدتهم؛ فهو مؤتمر إسلامي عظيم وتجمع كبير يرعب أعداء الإسلام ويبث في نفوس المسلمين الثقة والعزة والكرامة والقوة، فهو تطبيق عملي لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».

فهم في الحج كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا ولو فطنوا ووعوا هذه الحكم العظيمة وطبقوها في واقعهم لكانوا اليوم سادة الأمم وقادته الذين يقودون العالم إلى بر السلم والسلام والأمن والأمان، نسأل الله تعالى أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل وأن يوحد كلمة المسلمين ويهديهم سبل الرشاد ويجمع شملهم ويؤلف بين قلوبهم، إنه سميع مجيب.

 

عدم الرفث والفسوق والجدال.. من صحة حج المسلم - 

د. سعيد بن سليمان الوائلي - عضو الهيئة التدريسية بكلية العلوم الشرعية -

«عبادة الحج لا بدّ فيها من فهم المقاصد وإدراك المعاني والسعي إلى تحقيق الغايات؛ لتنعكس في الناس أنوار الروحانية منها، وقد أنعم الله عزّ وجلّ على هذه الأمّة بأن جعل الحجّ من شعائر دينهم، فتشرق أنوارها من شرف البيت العتيق وتدرك بعض المعاني من إضافة بيت الله تعالى إلى الذات القدسية، وما نصب فيه من مقصد العبادة الخالصة بالجهد والحال والمال، وما جعل حول الحرم للبيت الحرام من حرمة وأمان تفخيمًا لأمره».

فريضة الحج شرعت بما فيها من أحكام وحكم، ولها أثرها في حياة من يؤديها ويقوم بها، وإذا كانت الدلالة اللغوية للحكم والإحكام من أحكمت الشيء فصار محكما واستحكم الأمر واحتكم بمعنى وثق، ومنه الحكم الذي يعدّ مانعًا من الظلم والتظالم، وكذلك الحكمة حيث تكون مانعة من الانحراف والتهور، وإحكام الكلام من إتقانه وضبطه؛ فإننا نستفيد هذا المعنى في أن شعيرة الحج يكون لها أثرها في منع صاحبها من جملة أشياء، وتحجزه عن ارتكاب مجموعة من الأعمال، وتصونه من التلوث في شرور تصرفات، وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة التي يقول الله تعالى فيها: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}.

إن فريضة الحج الأكبر من بين أركان الإسلام ومبانيه، يعتبر عبادة العمر وختام الأمر، وتمام الإسلام وكمال الدين والبر... يقول تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} من أجل ذلك كان له أثره في حياة الفرد والمجتمع، بما يضبط به السلوك والتصرفات في التعامل مع الآخرين، لاسيما وأن كل حاجّ يلتزم بخلق معيّن أثناء تأدية المناسك في أرض المشاعر، ويتلبس بظروفها وأوضاعها، فيفرض عليه الحال أن يكون بعيدا عن كل ما يعكر علاقة المسلم بأخيه المسلم، من فسوق وجدال... وذلك علامة تشير إلى صحة حجه وبر منسكه.

ثمّ إنّ عبادة الحج لا بدّ فيها من فهم المقاصد وإدراك المعاني والسعي إلى تحقيق الغايات؛ لتنعكس في الناس أنوار الروحانية منها، وقد أنعم الله عزّ وجلّ على هذه الأمّة بأن جعل الحجّ من شعائر دينهم، فتشرق أنوارها من شرف البيت العتيق وتدرك بعض المعاني من إضافة بيت الله تعالى إلى الذات القدسية، وما نصب فيه من مقصد العبادة الخالصة بالجهد والحال والمال، وما جعل حول الحرم للبيت الحرام من حرمة وأمان تفخيمًا لأمره، وما يتبعه من جعل عرفات ومنى ومزدلفة من مواضع المناسك والمشاعر، تترادف معان، مشعرة بذكريات وحوادث ومناسبات، تنهل النور كالميزاب على فناء حوض الكعبة المشرفة.

وتأكيد حرمة الموضع بتحريم الصيد والشجر، كتحريم الشر والضرر، وجعل المكان مقصدًا للزوار من كلّ فجّ عميق ومن كلّ أوب سحيق، في تواضع وخشوع وخضوع لرب البيت العتيق، مع الاعتراف بتنزيهه عن أن يحويه بيت أو يكتنفه بلد؛ ليكون ذلك أبلغ في رقهم وعبوديتهم، وأتمّ في إذعانهم وانقيادهم، فيرتبط الحاج بما يصدق صحة حجه بما يظهر في تعاملاته مع أفراد جنسه.

من أجل ذلك شرع لمريد الحجّ: التنزه عن الشهوات والكف عن اللذات والاقتصار على الضرورات في تلك الرحلة الربانية، بالإضافة للتجرد لله سبحانه وتعالى في جميع الحركات والسكنات أثناء أدائها.

وإن إشعاعات نور الروحانية في هذه العبادة لتنطلق في المقام الأول من إدراك مكانتها وتعظيم شعائرها، وانظروا -إن شئتم على ذلك دليلًا- إلى قول الحقّ تبارك وتعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]؛ حيث تبدأ روحانية المؤمن في تعلقه بربه من إيمان قلبه والتزام تقواه، فتسبح روحه في معاني العبودية لله وهو يتقرب إليه بأداء المناسك، تلك المناسك التي لا حظّ للنفس الإنسانية فيها ولا مطمع للشهوة الدنية فيها، بل ولا اهتداء للعقل إلى معانيها، إلا تحقيق معاني العبودية في أعلى معانيها وأبلغ مقصـدٍ لها.

إنّ في هذه الرحلة الروحية لا بـدّ من عزم صادق ابتغاء مرضاة الله تعالى وحده، فلا يعلق المسلم همّـه في تلك الرحلة الربانية بالأغراض الزائلة والمنافع الدنيوية، فثمـة أناس يخرجون إلى الديار المقدسة بنوايا قاصرة وأهداف هزيلة: منهم من يريد النزهة والتمتع، ومنهم من كان قصده التجارة والتبضع، ومنهم من جعله رياء وسمعة ليفتخر، ومنهم دون ذلك... فكيف يفارق الإنسان الأهل والأوطان، ويهجر الشهوات واللذات، متوجهًا إلى زيارة بيت الله الحرام بهذه النية التي لا تبلغه أي منال، مع أنه عزم على أمرٍ رفيعٍ شأنه، خطيرٍ أمره، عظيمٍ أجره، فليكن قاصد الحجّ مخلصًا فيه العمل، صادقًا فيه العزم بعيدًا عن الخلل، مفتاح ذلك إلى روح العمل حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»، وحديث: «نية المؤمن خير من عمله».

ومما يزيد الأمر روحانية إيمانية ما يستشعره المؤمن من نفحات ربانية، تجعل حياته متفاعلة مع مشاعر وذكريات، مستوحية للعبر والعظات، حيث يرتبط القلب بالذكريات الإسلامية والمواقف العظيمة لأنبياء الله ورسله في عمارة البيت الحرام، من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، قال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} إلى الذكريات التي تربطنا بسيرة خاتم الأنبياء والمرسلين وصحابته الكرام ومواقفهم من أجل تبليغ الدعوة الإسلامية، وتضحياتهم بكل ما يملكون في سبيل إعلاء كلمة التوحيد، مواجهين تحديات الدنيا ومصاعبها ابتغاء رضوان الله تعالى.

وموسم الحجّ مع ذلك كله، مشهد روحي، يجسد للمتأمل صور الحياة الإيمانية في معاني الإخاء وحسن التعامل، وتذكير المسلم بالدار الآخرة وقيمتها، ومعاني الزهد في الحياة الدنيا، والتزود بزاد التقوى على اعتباره خير زاد للمتزودين، كلّ ذلك فيما يفعله الإنسان في تلك الرحلة: من انقطاعه عن بلده، إلى لباسه للباس الإحرام، إلى تأدية المناسك العظام منسكًا تلو آخر، كلّ هذا مصحوبًا بمعاني التذكر، بالإضافة إلى توجه القلب إلى آي الذكر الحكيم النازلة في موضوع الحجّ بالتدبر.

إنّ ما في موسم الحج من المعاني العظيمة لا تقتصر على الحاجّ دون غيره، بل هو موسم للخير والنفحات لجميع المسمين، حيث يؤمروا جميعًا بأن يتعرضوا لنفحات الله وهباته الجسيمة؛ فكانت الدعوة من نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم للإكثار في زمن الحج من الأعمال الصالحة تقربًا لله تعالى، واقتداء بحجاج بيت الله، ففي الحديث عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام العشر»، يعني عشر ذي الحجة. قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله. قال: «ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء».

فحري بمن رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا ورسولا، أن يتزود في هذا الموسم بما يقوي إيمانه ويثبت يقينه، بحيث يجد حلاوة الإيمان في قلبه، وروح الطمأنينة في نفسه، مستشعرًا لمعاني هذه الرحلة الروحية لأداء العبادة المتممة لأركان الإسلام، وهو يؤدي أفضل الجهاد، فقد روي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال: «لا، لكن أفضل الجهاد حج مبرور».

لكن الحج المبرور له مصداقية في أن ينطبع عليه المسلم في أوضاع حياته، وبما ينعكس في تصرفاته مع غيره، كما ذكرنا ذلك أولا؛ إذ يكون حجه المبرور رهينًا بعدم رفثه وبعده عن الجدال المذموم وعن أعمال الفسق المشؤوم، فيكون ذلك دليلًا على أن حجه صحيح وعبادة في صورة الكمال بإذن المولى عز وجل.

من أجل ذلك أتى في الأثر المروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما يصدق هذا الأمر ويبرهنه، حيث يعود صاحب الحج ومؤدي الفريضة يوم يعود من تلك الرحلة وأدائها لابسا ثوب النقاء والصفاء بما يؤهله لقبه وتسميته التي تعطيه صفة الحاج لبيت الله، يعود من رحلة الحج متطهرا من الذنوب كيوم ولدته أمه، نقيًا من دنس الذنوب طاهرًا من خبث العيوب؛ مصداقًا لما ورد في الحديث من طريق أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من حج لله فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه».

فأين حجاج بيت الله الحرام من مصداقية حجهم؟ وأين تحقيقهم لوصفهم؟ وأين حالهم مما يربطهم بربهم من بعدهم عن كل فسوق ومراء وجدال بالباطل، وما يجعلهم بعد ذلك مرتبطين بروح التقوى التي أمروا بها؟ {فلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}، فنسأل الله تعالى أن يحقق لنا روح العبادة ومعناها في حياتنا كلها، ظاهرها وباطنها، في كل ركن من أركان الإسلام الحنيف، إنه ولي ذلك والقادر عليه.