أفكار وآراء

عن التسامح في الحضارات القديمة

19 يوليو 2019
19 يوليو 2019

إميل أمين - كاتب مصري -

[email protected] -

ما هي القيمة الكبرى التي يحتاجها العالم في حاضرات أيامنا بأكثر من أي قيمة أو فضيلة أخرى؟

أغلب الظن أن هناك حاجة ماسة للتسامح وقبول الآخر، تلك الركيزة الجوهرية التي يمكنها أن تبعد عن العالم أشباحاً وأرواحاً لا تحمل إلا الخصام والكراهية، ولا توفر إلا النار والمرار، الحروب والدماء.

والمعروف أنه في عام 1996 دعت الجمعية العامة للأمم المتحدة الدول الأعضاء إلى الاحتفال باليوم العالمي للتسامح في 16 نوفمبر من كل عام، وذلك من خلال القيام بأنشطة ملائمة توجه نحو كل من المؤسسات التعليمية وعامة الجمهور.

كانت تلك الدعوة قبل نحو عقدين وأزيد قليلاً، ويومها لم يكن العالم قد بلغ ذروة مأساة الكراهية والإرهاب في الحادي عشر من سبتمبر 2001، وهما الضدان للتسامح والتصالح مع الذات ومع الآخرين، ولم تكن الراديكاليات قد علا صوتها من جهة، والقوميات والشوفينيات القاتلة قد انتصبت رايتها من جهة ثانية، ناهيك عن العصبيات المهلكة التي تعود بالعالم إلى عصور القبلية من ناحية أخرى.

يحق لنا وقبل الدخول في عمق البحث عن بعض معالم وملامح التسامح في العصور الغابرة، أن نتساءل بدون اختصار مخل أو تطويل ممل عن طرح التسامح فكرياً وعقلانياً، وماذا يعني مفهوم التسامح لا سيما بين الأنا والآخر بداية؟

الشاهد أن قضية التسامح هي قضية فلسفية بامتياز، إنها صراع يدور بين الأنا وتعظيمها، والآخر وحقه في الوجود والحياة، وعليه فإنه لا يمكن أن يكون هناك تسامح، مع الآخر المغاير بحكم العرق أو الجنس، اللون أو الدين، إن لم يكن هناك تسامح داخلي، بين الأنا والنفس، فالفرد المتسامح مع ذاته يعترف بأخطائه، ويبدي توبته وندمه، ويسعى في طريق نقد الذات لا جلدها.

يتضمن التسامح مع الآخر حدوث مجموعة من التغيرات الوجدانية والمعرفية والسلوكية للمساء إليه تجاه فعل الإساءة والفرد المسيء ويتفاعلان معاً من جديد، وذلك عندما يتسامح المساء إليه، ولا يظهر أية رغبات انتقامية، أو ردات أفعال سلبية تجاه المسيء، وعندما يحدث التسامح مع الآخر، تجري دماء التسامح في الذات كعملية داخلية.

والشاهد أن الأديان التوحيدية، وحتى العقائد الوضعية زاخرة بالآيات والدعوات التي تحث على التسامح دفعة واحدة، غير أن فكر التسامح وجدت ولا شك في الحضارات القديمة، وقبل ظهور التوحيد، وقد يقودنا البحث في تاريخ حضارة المصريين القدماء، لا سيما الفراعنة، إلى القول إنهم خبروا التسامح مظهراً ومخبراً، وبشكل أستبق بكل تأكيد وتحديد الدعوات المعاصرة والحداثية، بدءاً من أزمنة التنوير الأوروبية التي فتحت الأبواب واسعة لمنظومة العدالة الاجتماعية، وصولا إلى تشريعات وقرارات الأمم المتحدة الحديثة.

لا يمكن للعدالة أن تنفصم عن قضية ومفهوم التسامح، فالأخير ليس منة أو تكرماً من الحاكم أو من الذات العليا على الآخرين، وإنما حق أصيل فلا يمكن لمجتمع لا تسود فيه العدالة، أن يعرف طريق التسامح مع الذات أو مع الآخرين.

في مؤلفه العمدة والأشهر «فجر الضمير» يحدثنا عالم الآثار الأمريكي الكبير «جيمس هنري بريستد»، عن منظومة العدالة الاجتماعية التي جاهد المصريون القدماء في سبيلها، ويستحضر لنا بعض المشاهد التي تبين لنا الجهاد الكبير في سبيل الوصول إلى هذا الرقي الإنساني.

خذ إليك الإجراءات والطقوس الفرعونية المتبعة عند تعيين وزير بعينه، والتي تساوي في حاضرات أيامنا مسألة «حلف اليمين» أمام رئيس الدولة.

«في قاعة مجلس الفرعون يجتمع أعضاء المجلس، وقد أمر الواحد (يعني الملك) بإحضار الوزير الأعظم (رئيس الوزراء) الذي نصب حديثاً، ووجه له الفرعون خطاب التكليف التالي: «تبصر في وظيفة الوزير الأعظم، وكن يقظاً لمهامها كلها. أنظر إنها الركن الركين لكل البلاد، وأعلم أن الوزارة ليست حلوة المذاق، إنها مرة».

«وأعلم أنه عندما يأتي إليه شاك من الوجه القبلي أو من الوجه البحري، أو من أي بقعة في البلاد، فعليك أن تطمئن إلى أن كل شئ يجري وفقاً للقانون، وأن كل شئ قد تم حسب العرف الجاري، فتعطي كل ذي حق حقه، وأعلم أن الوزير يحتل مكانة بارزة وأن الماء والهواء يخبران بكل ما يفعله، وأعلم أن كل ما يفعله لا يبقى مجهولاً أبداً».

ويضيف:«لا تنسى أن تحكم بالعدل، لأن التحيز يعد طغياناً على الإله، وهذا هو التعليم الذي أعلمك إياه، فاعمل وفقاً له، عامل من تعرفه معاملة من لا تعرفه، والمقرب من الملك كالبعيد عنك، وأعلم أن الأمير الذي يعمل بذلك سيستمر هنا في هذا المكان، ولا تغضبن على رجل لم تتحر الصواب في أمره، بل أغضب على من يجب الغضب عليه».

كانت الألوهية هي الأساس الذي قامت عليه مصر المتسامحة، وما تعددية الآلهة عند الفراعنة، من دون تجاوز على الآخر، إلا خير مثال على تجذر التسامح في حياتهم.

عبد المصريون على مدار تاريخهم عدداً كبيراً من الآلهة، وتشير نصوص المقابر والنصوص الأدبية إلى أن الفرد لم يرتبط بإله واحد. فعلى سبيل المثال، تنص الصيغة الافتتاحية لخطابات عصر الرعامسة (1292 ق.م – 1077 ق.م) على ما يلي: «أدعو آمون، ورع، وكل الآلهة، وموت، وخونسو، وكل آلهة طيبة أن يعيدوك سالماً».

في هذا السياق ربما يتوجب علينا أن نشير إلى أن الحياة الدينية في مصر القديمة كانت تدور حول كافة مناحي الحياة، الولادة والموت، الفرح والحزن، الاحتفالات السارة والجنائزية، بعضها كان على المصري القديم أن يؤديها داخل المعبد، وأخرى خارجها. كانت مصر الفرعونية قبل توحيدها على يد الملك نعرمر (مينا) مقسمة إلى عدة أقاليم، فقد كان لكل إقليم إلهه الخاص به والذي تقدم له القرابين وتقام له المعابد، وتصنع له التماثيل ويلتف حوله الناس في الأعياد.

ومن أهم الآلهة التي انتشرت في مصر الفرعونية، الإله «رع» وقد انتشرت عبادته في عصر الدولة القديمة، والإله «أوزيريس» وقد انتشرت عبادته في عصر الدولة الوسطى، والإله آمون وقد انتشرت عبادته في عصر الدولة الحديثة.

ولعل السؤال المثير كيف استطاع الفراعنة أن يعيشوا في تسامح رغم تعدد الآلهة التي كانوا يعبدونها؟

فلسفياً يعد الإله هو قمة المطلق الذي لا يأتيه الشك من خلفه ولا من بين يديه، ولهذا فإن تعددية المطلق تعددية زائفة، فالمطلق بحكم تعريفه واحد لا يتعدد، وإذا تعدد فصراع المطلقات حتمي.

وتساير هذا القول نتائج الأبحاث التي أجريت على الصراع في مجتمعات متباينة وهي أن الصراعات الاقتصادية تدور على الخيرات القابلة للقسمة، وهي لهذا صراعات قابلة للتفاوض، ومن ثم من الميسور حلها، وعلى الضد من ذلك الخيرات التي لا تقبل القسمة فإنها لا تقبل التفاوض وصراع المطلقات من هذا القبيل.

التحليل السابق كان يعني أن الفراعنة ومن جراء الآلهة المتعددة المنتشرة في بلادهم، لا بد لهم من الصراع الأهلي، بل التطاحن والحروب فيما بينهم، حتى ينفرد أو يستقل أحد الآلهة بالبلاد والعباد؛ غير أن ما رأيناه كان مثيراً إلى حد الدهشة، بمعنى قبول الآلهة المختلفة، وقبول أولئك المؤمنين بها، وربما كان هذا، ما وفر للمصري القديم الوقت والفرصة لبناء حضارته القديمة.

إحدى أهم الأحاجي الإنسانية التي تبين لنا مقدار التسامح الذي عرفته مصر الفرعونية بين أتباع الأديان والموروثات الإيمانية هي قصة آتون وآمون. وصفت ديانة أخناتون أثناء عصر العمارنة (الأسرة 18) بـ«الوحدانية»، وأعلن أنها إشارة محتملة بأن المصريين كانوا مصدر الفكر اليهودي - المسيحي.

وفي عصر العمارنة رفع أخناتون إلهه «آتون» إلى المكان الأسمى في البانثيون (الهيكل المكرس لجميع الآلهة)، وطاف موظفوه فيما بعد أثناء عهده أنحاء مصر يقيمون تماثيل ومعابد للإلهه آتون.

كانت فترة «العمارنة» منطلقاً للديانة الآتونية، تلك التي أصطلح البعض على أنها إرهاصات الوحدانية القادمة، وإعلاءها فوق الآلهة الأخرى.

لكن ذلك لم يمنع أن يكون لآمون كهنته ومعابده في جنوب مصر، فقد أقام أخناتون مملكته في مصر الوسطى، في منطقة تل العمارنة، حيث محافظة المينا جنوب العاصمة المصرية القاهرة.

كان آتون هو الإله الجديد الصاعد، وآمون الإله القديم الباقي، وقد جرت جدالات فقهية أو لاهوتية بين كهنة الجماعتين، جدالات وحوارات عقلانية لم تخرج عن سياق عالم الفكر حيث الآخر مقبول ومرغوب ومتسامح معه، بدون عزل أو إقصاء، أو رغبة في الخلاص منه.

ولعل أعظم دليل على التسامح الذي ساد في مصر الفرعونية هو أنه بعد رحيل أخناتون، وفشل دعوته في إحداث مفارقة عن الدين التقليدي لآمون، أننا لم نر انتقاما من كهنة آمون تجاه كهنة آتون، بل تم العطف عليهم، ومن ثم احتواءهم من جديد، وتقديم فرص إعادة التأهيل الفكري لهم، كل هذا من أجل الحفاظ على روح التسامح الإنساني داخل القطر المصري، ولهذا تجاوز المصريون عقبة صراع الأديان، حتى وإن كانت أديان وضعية، من منظورنا المعاصر، أخترعها البشر، وعبدها البشر، لكنها في كل الأحوال كانت بالنسبة لهم آلهة مطلقة التقديس.

كانت الأضرحة الصغيرة والأماكن المقدسة المرتبطة باله خاص مثل حتحور Hathor، أو تحوت Thoth أو مرتيسيجر Meretseger، تنتشر في الفضاء الطبيعي المكشوف، وكان باستطاعة عامة الشعب أن يزوروا هذه الأماكن وأن يتركوا النذور لإثبات تقواهم، وعلى مستوى أكثر رسمية كانت النخبة تتبع نفس الممارسة، واضعين تماثيل لأنفسهم في مداخل المعبد، حيث لم يكن يعتقد أنها تبرهن فقط على تقواهم، بل أيضاً لتمرير قداسة أفعال وصلوات الكهنة إلى صاحب التمثال.

وفي كل الأحوال لم يتناحر المصريون القدماء بسبب تعددية المطلق لديهم، بل في رحابة وتسامح غير مسبوقين كانت فكرة قبول الآخرين هي السائدة والرائدة، وربما كان هناك قبول لإشكالية النوع الإنساني، ذكرا أم أنثى، بنوع سابق للكثير من الأمم والحضارات..

لم يكن للمصري القديم أن يعرف طريقه إلى التسامح، إلا إذا عرف الحب مساره إلى قلبه وعقله، ومن بينهما تسرب إلى الأجواء المحيطة به، فردية شخصية، جماعية مؤسساتية، إلى آخر أنواع وصنوف الجماعات البشرية.

إحدى الدراسات المصرية الأخيرة التي صدرت في فبراير الماضي، حيث درج العالم على جعل الرابع عشر منه عيداً للحب، وصاحبها المؤرخ والباحث المصري في علم الآثار «فرنسيس أمين» من الأقصر جنوب مصر، تفيد بأن المصريين القدماء عرفوا أشعار الحب وقصص العشاق، وعلموها لأبنائهم في المدارس تزامناً مع احتفالاتهم السنوية لا سيما في مواسم الحصاد والزرع.

نختتم هذه السطور مع خلاصة سر المصريين الذي يخبرنا عنه كبير المؤرخين المعاصرين في مصر الدكتور «عاصم الدسوقي»، وهو أن التسامح موروث ثقافي من الحضارة المصرية القديمة عبر أكثر من خمسة آلاف عام، ولهذا يصعب أن يفت أحد ما في عضد النسيج الاجتماعي المصري، الذي كان ولا يزال وسيظل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، متسامحاً مع الذات ومتصالحاً مع الآخر.