azza-al-qasabi
azza-al-qasabi
أعمدة

«الكـومـيديا السـاخـرة» بـين الهـزل والجــد

17 يوليو 2019
17 يوليو 2019

د.عزة القصابية -

كثيرا ما نضحك على المواقف المؤلمة والسلبية التي تستوقفنا في مسارات الحياة اليومية. ويقوم المبدع بإعادة كتابة ما يصادفه من مواقف مؤثرة بأسلوب ساخر، يضحك المتلقي ويبكيه في الوقت نفسه. وقديما قالت العرب: « شر البرية ما يضحك». وفي الأدب عامة، والفنون خاصة ظهر مفهوم «الكوميديا الساخرة» كنوع من أنواع الدراما، يكون غايته إضحاك الناس بأسلوب ساخر تظهر صاحبها بصورة هزلية، تفضح سلوكياته الناقصة أمام المشاهد، وتجعل المشاهد لا يقلدها ويشعر بالحرج في حالة تكرارها.

ترصد «الكوميديا الساخرة» المواقف والسلوكيات والأخلاقيات والأفعال والأقوال في الحياة الاجتماعية، وتقدمها بأسلوب يتصف بالتهكم والهزل الذي يعتمد على المواقف الساخرة المستوحاة من الموضوعات الاجتماعية و السياسية. جاءت الكوميديا السوداء كردة فعل للأوضاع السوداوية التي تسود العالم كالإرهاب والمخدرات والحروب والعنف والثورات، سعى كتاب الدراما إلى التعبير عن الواقع المضحك المبكي، بأسلوب ساخر يكشف أهم القضايا التي يعاني منها المجتمع.

تتمثل المحاكاة الساخرة في الأعمال الفنية من خلال الكاريكاتير والمحاكاة التهكمية، كما أن هناك الكوميديا السوداء أو القاتمة وهي نوع درامي مركب، يجد فيه الجمهور المتعة والتنفيس عن الموضوعات المطروحة. ورغم أن الفصل بين الكوميديا والتراجيديا قد انتهى، عندما تخلصت الدراما المعاصرة منه، وتحولت إلى دراما اجتماعية تعتمد على المفارقات التي تثير الضحك والبكاء في آن واحد.

تسعى الدراما الهزلية (الكوميديا) إلى نقد السلوكيات الاجتماعية السلبية، بغية تطهير المجتمع منها وإعادة التوازن إليه، فبواسطة الدراما، وإثارة المشاعر، يحدث التطهر لدى المتفرج حسب المفهوم الأرسطي.

وهناك من يصف الكوميديا بأنها أكثر قربا من الحقيقة وواقع المجتمع أكثر من أي نوع آخر درامي، يقول الفيلسوف الفرنسي هنري لويس برجسون في كتابه (الضحك): «نجدها –يعني الكوميديا- تسمو كلما مالت إلى الامتزاج بالحياة. وهناك مشاهد كثيرة من الحياة الواقعية التي تقترب من الملهاة الراقية، بحيث يمكن للمؤلف أن يستعيرها دون أن يغير فيها كلمة واحدة».

لقد عانت الكوميديا في فترات زمنية من أنواع من الفنون الهزلية (الفارس أو الفودفيل)، التي لا تعتمد على الموضوع أو القيمة المعرفية للموضوع ولا النقد الموضوعي للسلوكيات الاجتماعية، بقدر ما تهتم بالنكتة الضاحكة على مظهر الشخوص أو لهجاتهم أو غيرها من الأساليب المعتمدة على التهريج.

وعبر عقود كثيرة ظهرت أنواع عديدة من الكوميديا، منها كوميديا الموقف وهو نوع من الكوميديا الجادة الأكثر انتقادا للقضايا السلبية في المجتمع، وهناك كوميديا الإسفاف الأكثر شيوعا بين الجماهير، إلا أنها تعاني من السطحية، تعتمد على الضحك بأسلوب سخيف، وهي لا تحمل أي رسالة سوى التسلية والمتعة البصرية الزائلة.

وتستهدف الفنون الدرامية الساخرة المواقف والشخصيات، وإعادة صياغتها في قالب درامي هزلي (الكوميديا السوداء)، وهي المعادل للأدب الساخر في الفنون الدرامية (المسرح، السينما).

يسعى كتاب الدراما للتنديد بالواقع الذي يصعب تغييره، ومحاولة وضعه تحت المجهر، مستغلين قرب الدراما من الناس، فمثلا المسرح يعتمد على العروض الحية، وهو يسعى للتواصل المباشر مع الجمهور. في حين أن السينما تقوم على صناعة الأفلام السينمائية، لكونها تتضمن أفلاما ذات طبيعة هزلية لها جمهورها الخاص. وهي تضحك وتبكي الجمهور في آن واحد.

تتقارب الدراما التلفزيونية مع المسرح في صياغة الأفلام الكوميدية الساخرة. وهناك أنواع الدراما الكوميدية، منها اجتماعية وأخرى سياسية. تشترك المسلسلات التلفزيونية مع المسرح في كوميديا الموقف، وذلك في تضمنها المواقف المضحكة بأسلوب شعبي ارتجالي يهم الشريحة العظمى من المجتمع. كما أن هناك الكوميديا الهجائية، التي تهاجم الأفكار والعادات والأخلاقيات والمؤسسات الاجتماعية بشكل يتسم بخفة الدم (الظرف) والسخرية أو التهكم. كما يوجد نوع من الهزل القائم على الاستهزاء بالحياة وابتكار المواقف العبثية وبناء الشخصيات المبالغ فيها. إضافة إلى الكوميديا السوداء أو القاتمة، التي يجد الجمهور فيها صعوبة لتحديد وجهة نظر معينة، فهل ينصرف عن الموضوع المطروح أو أنه يضحك عليه بشكل صاخب. ويدخل فن «الكاريكاتير الساخر» ضمن المحاكاة الساخرة والتهكمية على شخوص أو موضوعات بعينها.

تبقى «الفنون الساخرة» وسيلة للتعبير عن الواقع بأسلوب كوميدي هزلي، تركز على مواقف معينة ضمن معطيات الحياة اليومية، وتحاول تضخيم المثالب ورصدها للمتفرج. وتعتمد الفنون الهزلية على الأساليب غير المباشرة، في محاولة لإثارة التساؤل والضحك في آن واحد، بسبب انتقاص المواقف السلبية في القضايا المطروحة. وسوف تفتح ندوة «الأدب الساخر» التي سيقدمها النادي الثقافي في موسمه الخريفي هذا العام، آفاقا كثيرة للنقاش حول الموضوعات ذات الصلة بالأدب الساخر. وتعد الكوميديا السوداء النظير الدرامي لمفهوم الأدب الساخر، الذي يتمثل في الفنون الدرامية البصرية.