أفكار وآراء

السياسة العربية وضرورة المراجعة

16 يوليو 2019
16 يوليو 2019

عوض بن سعيد باقوير - صحفي ومحلل سياسي -

السياسة الخارجية لأي بلد تنطلق من ثوابت أساسية تظل ثابتة حتى مع وجود بعض المتغيرات التي قد تفرضها حالة سياسية محددة ومع ذلك تظل تلك القناعات السياسية وفق المنظور الجغرافي والسياق التاريخي متواصلة ومنسجمة مع واقع الحال ولعل النموذج الأبرز عربيا في هذا الإطار هو السياسة الخارجية للسلطنة ومنذ فجر النهضة المباركة التي قادها جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم - حفظه الله ورعاه - وهي تقترب من نصف قرن وتحقق صفرا من الخصومات رغم الموقع الاستراتيجي للسلطنة وفي ظل صراعات وحروب طاحنة شهدتها المنطقة خلال العقود الأربعة.

وأي مراقب منصف ومن خلال تلك الأحداث الكبرى يتوصل وبكل موضوعيه إلي أن السياسة الخارجية للسلطنة هي سياسة نموذجية في ظل استقلالية تلك السياسة ومبادئها الراسخة مما جعلها تحظى بالاحترام والتقدير من قيادات العالم وشعوبها ومن هنا فإن هذه المقدمة تقودنا الي مفهوم مهم في مجال العلوم السياسية وهو ضرورة المراجعة لأي سياسة خارجية ونحن نتحدث هنا عن السياسة العربية التي شهدت مشكلات كبيرة خلال النصف القرن الماضي.

والمتأمل لتلك السياسة العربية وفي ظل الضعف الحقيقي لجامعة الدول العربية يرى بأن مراجعة شاملة وحقيقية لتلك السياسة هو أمر تفرضه الأحداث ونتائجها وأيضا تفرضه قواعد السلوك السياسي والذي يحتم إيجاد تضامن عربي والحفاظ على الأمن القومي العربي في ظل المخاطر المحدقة ومن هنا فإن مسالة تلك المراجعات السياسية هو تحتمه الظروف الحالية والنتائج الكارثية لتلك السياسات خاصة على صعيد الحروب في أكثر من بلد عربي خاصة في اليمن وليبيا وسوريا ومن خلال إيجاد منظومة سياسية عربية متسقة والوضع الراهن فإن الوصول إلى قناعات مشتركة فيما يخص أولا مراجعة تلك السياسات وثانيا إنهاء الخلافات العربية-العربية وأخيرا ضرورة الحوار العربي-العربي أولا وبعد ذلك حوار إقليمي بين العرب وإيران وبدون هذه الآليات سيتواصل التخبط السياسي العربي واستنزاف الموارد العربية في الحروب الكارثية وتتعمق الكراهية بين الشعوب.

النموذج العماني

عن الحديث عن التكتلات الاقتصادية أو نجاح دولة أفريقية كرواندا بعد اجتيازها حربا عرقية طاحنة وعند الحديث عن دولة صاعدة اقتصاديا كفيتنام والتي خرجت من حرب مدمرة في منتصف عقد السبعينات من القرن الماضي وعند الحديث عن النموذج الهندي ذي اللغات المتعددة والديانات المتعددة والثقافات وهو من أكبر ديموقراطيات العالم فإن تلك النماذج تعني مزيدا من التأمل لأحوال العرب الحالية ومع ذلك فإن النموذج الأكثر نجاحا طوال نصف قرن في مجال السياسة الخارجية هي السلطنة دون تهويل أو مبالغة وإنما من خلال أحداث نصف قرن.

وعندما تأمل جلالة السلطان المعظم خريطة العالم تحدث بأنه يأمل أن يرى كل دول العالم صديقة لعمان وهذا فكر استراتيجي وسياسي متقدم وهذا ما حدث الآن بل إن تلك السياسة العمانية الموضوعية وذات الاستقلالية مكنتها في لعب أدوار دبلوماسية حاسمة منذ التنبؤ المبكر بأهمية الأمن الإقليمي في منطقة الخليج مرورا بدورها في نسج علاقات ودية تحظى بالاحترام وتبادل المصالح والمنافع علاوة على دورها المشهود في أبعاد المنطقة عن شبح الحروب والدفع بآليات الحوار والسلام بين المتخاصمين.

ولا تزال الدبلوماسية العمانية تبذل جهودا متواصلة وحثيثة خاصة في اليمن والحرب الكارثية المشتعلة والتي تدخل عامها الخامس مع استحالة الحسم العسكري علاوة على جهودها في الازمة السورية والأزمة الخليجية ومن هنا فإن النموذج العماني في السياسة الخارجية هو نموذج عقلاني ومتزن ومؤمن بأهمية الحوار والتسامح بين الشعوب ونبذ العنف والحروب والتي تؤدي إلى نتائج كارثية كما هي الآن في أكثر من دولة عربية

وعلى ضوء الوضع العربي الراهن وهو وضع مزرٍ ومفكك فإن أمام العرب مرحلة في غاية الخطورة وأن إيجاد مراجعات سياسية هو مهم لإيجاد آليات مختلفة وهناك في أوروبا وحتى الولايات المتحدة تتغير السياسات بتغير الظروف لأن الإصرار على سياسة جامدة هو أمر سلبي في أي سياسة خارجية فكما يقال إن السياسة هي فن الممكن وعلى العرب أن يراجعوا أوضاعهم المتدهورة في حين الدول والمجموعات الأخرى تتطور اقتصاديا وعلميا وتقنيا ونحن نتحدث دوما عن دول جنوب شرق آسيا كنموذج اقتصادي ناجح من خلال منظمة الآسيان.

الجامعة العربية

وأمام النموذج العماني المستقر داخليا وخارجيا وفي ظل تلك المبادئ الراسخة للقيادة السياسية في السلطنة فإن المنطق يقول بأن الدخول في الحروب والصراعات ليس خيارا صحيحا إلا إذا تعلق الأمر بتهديد الأوطان بشكل مباشر

الكتلة الآسيوية نجحت اقتصاديا بعد حروب مدمرة وكان لمنظمة الآسيان دور مهم في انطلاق تلك الكتلة وأن الخلافات بين الدول الأعضاء يتم حلها من خلال الحوار والشفافية كما أن أوروبا توحدت اقتصاديا من خلال التكتل الأوروبي ومنذ بداية السوق الاوروبية المشتركة حتى الوصول الى منطقة اليورو وحتي دول الاتحاد الأفريقي وعددها 55 دولة توصلت أخيرا إلى قرار بإنشاء السوق الحرة الأفريقية الكبرى ومن هنا فإن الجامعة العربية وهي أسيرة لمواقف الدول الأعضاء تعيش مرحلة صعبة وأصبحت غير قادرة على تفعيل دورها السياسي

فمعظم الأزمات العربية يتدخل فيها الآخرون فهناك في سوريا وليبيا وحتى الأزمة الخليجية والحرب الكارثية في اليمن لم يكن لها دور يذكر حتى الازمة في السودان والتي تقترب من توقيع اتفاق بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير وبقية القوى الأخرى لم يكن للجامعة العربية سوى دور شكلي من خلال زيارة رمزية للخرطوم ومع ذلك كان للاتحاد الأفريقي وأثيوبيا الدور الفاعل والأهم

وأمام هذا المشهد فإن الجامعة العربية لن يتغير حالها طالما الدول الأعضاء لا تراجع سياساتها وهذه مشكلة كبيرة تواجه النظام الرسمي العربي فالخلافات العربية-العربية متواصلة والمهاترات الإعلامية متواصلة والتنسيق السياسي في أدنى مراحله والحروب متواصلة ومقدرات الشعوب يتم استنزافها في شراء الأسلحة ومن هنا نؤكد مرة أخرى على ضرورة تلك المراجعات لصالح الأجيال القادمة وأيضا لصالح استقرار المنطقة والتي آن لها أن تنعم بالسلام بعيدا عن التوتر

فالجامعة العربية تحتاج إلى إصلاح هيكلي وإلى نقطة انطلاق مختلفه وإلي فكر متجدد مختلف يتماشى مع التطورات المتسارعة التي يشهدها العالم سياسيا واقتصاديا وتقنيا وفي ظل المنافسة المحتدمة بين الدول والتكتلات المختلفة

قمة عربية

القمم العربية الأخيرة لم تغير المشهد العربي المعقد وإنما تناقش قضايا آنية وتأكيد على قرارات سابقة ومن هنا فإن عقد قمة عربية للمراجعة والحوار الشفاف حول الأوضاع العربية وهل السياسات الحالية هي سياسات مجدية أم أن الوضع يتطلب تلك المراجعة المتعمقة وأن السياسة العربية الحالية هي سياسة غير موضوعية وأن المشهد العربي يكتنفه الغموض واتساع رقعة الخلاف وإهدار المقدرات

الحرب في اليمن لابد أن تتوقف في ظل الكارثية الإنسانية التي يمر بها الشعب اليمني الشقيق وهي الأكثر بشاعة كما تشير إلى ذلك تقارير الأمم المتحدة ومنظماتها ذات العلاقة أيضا الأزمة الخليجية بين الأشقاء لابد أن تنتهي لأن أمن المنطقة كل لا يتجزأ وهناك من الوشائج والتاريخ المشترك والمصير الواحد ما يحتم إنهاء الخلاف من خلال الحوار وفي ظل منظومة مجلس التعاون حيث يشهد هذا الأخير تآكلا في قدرته على العمل المشترك وعلى بقائه ككتلة حيوية للأمن والاستقرار وإيجاد كيان اقتصادي خليجي يخدم مصالح شعوب المنطقة

على صعيد الأزمة السورية والليبية فإن هناك جهود تبذل والسلطنة تواصل مساعيها الخيرة لإيجاد حلول توفيقية وإنهاء الصراعات التي أوجعت تلك الشعوب على مدى سنوات وفي ظل استقطاب إقليمي ودولي ومن هنا فإن العرب أمام مرحلة صعبة من خلال السياسات غير المنضبطة والتي أدت نتائجها إلى كوارث في أكثر من بلد عربي وعلى ضوء ذلك فإن المراجعات السياسية هي جزء أصيل من الفكر السياسي وهي تدخل في إطار تقييم النتائج وإيجاد آليات مختلفة قوامها الحوار والأمن والاستقرار للمنطقة والتي من المناطق التي تهم مصالح العالم شرقه وغربه فالتوتر الحالي لا يخدم تلك المصالح وقد يؤدي إلى حرب تدمر كل مقدرات المنطقة وهو الأمر الذي لا يريده أحد.