الملف السياسي

قمة النيجر والتكتل التجاري الإفريقي

15 يوليو 2019
15 يوليو 2019

عوض بن سعيد باقوير - صحفي ومحلل سياسي -

القمة الإفريقية في النيجر مؤخرا خرجت بقرار تاريخي كانت تنتظره شعوب القارة منذ أربع سنوات حيث المحادثات الصعبة والمعقدة والتي انتهت بذلك القرار التاريخي والذي تعول عليه 55 دولة إفريقية يشكلون أعضاء الاتحاد الإفريقي والذي أصبح أحد المكونات السياسية الأكثر فاعلية من خلال الدور الدبلوماسي الذي يتدخل بشكل إيجابي في قضايا القارة وصراعاتها وآخرها الأزمة السودانية التي تقترب من الحل بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير وبقية القوى السياسية الأخرى.

منطقة التجارة الحرة يعني توحيد سكان إفريقيا البالغ عددهم مليارا و300 مليون نسمة وإيجاد منطقة اقتصادية حجمها 3 تريليونات ونصف دولار تفتح الباب أمام ازدهار اقتصادي ومنافسة عالمية مع التكتلات الكبرى في العالم أي مع الولايات المتحدة والصين ودول الاتحاد الأوروبي والآسيان وغيرها من التكتلات الاقتصادية المستقرة سياسيا، ومن هنا فإن قمة النيجر وقرارها التاريخي، وفي حال تنفيذ القرار بكل آلياته فان عهدا جديدا من الاستقرار السياسي والاندفاع الاقتصادي قد بدأت ملامحه في التشكل في قارة غنية بمواردها الطبيعية وأنهارها المتدفقة والموارد البشرية والتي تمكنها من إيجاد منطقة تجارة حرة كبرى في العالم وفي إفريقيا.

عهد جديد

عانت إفريقيا في حقب الاستعمار وما بعده مشكلات اقتصادية كبيرة وحروب أهلية طاحنة خاصة دول الصحراء وبقية الدول في غرب القارة وتم استغلال موارد القارة الهائلة خاصة النفط والغاز والذهب والماس والعاج وغيرها من الموارد الأخرى من قبل الشركات الغربية تحديدا من خلال استغلال المشكلات السياسية وتلك الحروب الأهلية والتي حولت عشرات من الدول الأفريقية إلى دول فقيرة وشعوب بائسة، ومن هنا فإن الإرادة السياسية في ذلك القرار الاقتصادي التاريخي في القمة الإفريقية بالنيجر يعطي أملا كبيرا لملايين الأفارقة في انتعاش تجاري واقتصادي بحيث تصبح القارة الإفريقية مكانا جاذبا للعيش والاستثمار والرخاء الاقتصادي وتصبح ظاهرة الهجرة وضحايا البحر المتوسط جزء من الماضي الأليم والذي سوف يتذكره الأفارقة.

المنطقة التجارية الحرة الكبرى بين الدول الإفريقية سوف تحدث واقعا اقتصاديا جديدا من خلال الاستثمار الأمثل للموارد وإيجاد آليات لتسهيل التبادل التجاري وفتح الأسواق نحو التكامل والاستثمار الأجنبي وتحريك الموانئ الإفريقية والتي تقع على بحار مفتوحة كالبحر المتوسط والمحيط الأطلسي وحتى البحر الأحمر من خلال دول كالسودان ومصر وجيبوتي والصومال وغيرها من الدول الإفريقية كما أن قناة السويس في مصر يمكن أن تلعب الدور التجاري بشكل أكبر حيوية من خلال تنشيط التبادل التجاري من خلال تجارة الحاويات وتنشيط بقية الموانئ الإفريقية.

ويعول على المنطقة في أن تساهم بحراك تجاري نشط وإطلاق إمكانيات إفريقيا بعد خيبة أمل امتدت لعقود من الحروب والفساد الإداري والمالي والانقلابات العسكرية ومن خلال الأرقام الحالية فقد شكلت التجارة البينية في إفريقيا 17 في المائة فقط من الصادرات عام 2017 مقابل 59% في آسيا و69% أوروبا وهذا يعطي مؤشرا من خلال تلك الأرقام على الموقف المتدني في مجال التجارة البينية بين دول القارة الإفريقية.

وعلى ضوء ذلك القرار التجاري التاريخي في قمة النيجر الإفريقية، فهناك فرصة حقيقية لبروز عهد جديد من التطور والانسجام في مجال تنشيط التجارة والاقتصاد بين الدول الإفريقية وهذا يحتاج أولا إلى إرادة سياسية وإلى إنهاء المشكلات السياسية بين دول القارة خاصة وان هناك ظاهرة الإرهاب في دول جنوب الصحراء، والأزمة في ليبيا والسودان ومن هنا فان حل قضايا الفقر والهجرة وتدني الخدمات لن تحل إلا من خلال التكامل الاقتصادي والانفتاح التجاري أولا بين دول القارة وبعد ذلك إقامة شراكات اقتصادية حقيقية على قدم المساواة مع التكتلات الإقليمية والعالمية الأخرى.

تحديات حقيقية

ورغم هذا القرار التاريخي الذي أفرح ملايين الأفارقة في إطلاق ذلك السوق التجارية الحرة بين الدول الإفريقية لابد من الاعتراف أن هناك تحديات حقيقية لتنفيذ ذلك الحلم الإفريقي ويأتي في مقدمة تلك التحديات إصلاح البنية الأساسية في دول القارة أو بعضها على الأقل في مجال الطرق والسكك الحديدية وتحديث شبكات المعلومات وتطوير الموانئ علاوة على إنهاء الاضطرابات في المساحات الصحراوية الشاسعة وتحسين الأداء الإداري والحد من ظاهرة الفساد وهذا الأخير يعد المسؤول الأول عن تطوير وتحديث الآليات التي من شأنها الدفع بالأوضاع الاقتصادية الى الأمام.

ومن التحديات الأخرى هي مسألة الرسوم العالية على الصادرات والواردات من قبل الدول الإفريقية ومع ذلك تعهد القادة الأفارقة في قمة النيجر بإلغاء الرسوم على معظم المنتجات مما يزيد من حجم التجارة في المنطقة ما بين 15 إلى 25% على الأمد المتوسط، ومع ذلك فإن هذا الرقم يمكن مضاعفته إذا تم معالجة تلك التحديات التي تمت الإشارة إليها حسب تحليلات صندوق النقد الدولي.

ويشير الصندوق في معرض تقريره الذي نشر في شهر مايو الماضي إلى أن منطقة التجارة الحرة في إفريقيا يحتمل أن تغير قواعد اللعبة على المستوى الاقتصادي على نحو مماثل للتغيير الذي عزز النمو في أوروبا وأمريكا الشمالية محذرا بان خفض الرسوم وحده ليس كافيا.

ومن التحديات الأخرى وجود مناطق تجارية متداخلة في القارة الإفريقية مثل المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا المعروفة باسم ايكواس ومجموعة شرق إفريقيا المعروفة باسم ايك ومجموعة تنمية الجنوب الإفريقي والمعروفة باسم سادك وأخيرا السوق المشتركة لشرق وجنوب إفريقيا المعروفة باسم الكوميسا، ومن هنا فان هذه التكتلات الاقتصادية المتنافسة الآن لابد أن تتحد في منطقة التجارة الحرة الإفريقية وأيضا تحرير التجارة بين دول القارة، ومن هنا فإن تلك التحديات تشمل كذلك التشريعات والقوانين واذا كانت بعض تلك المناطق التجارية على غرار مجموعة ايك الاقتصادية تحرز تقدما كبيرا في سوق السلع والخدمات فان ذلك النجاح يمكن أن يستخدم من خلال آليات منطقة التجارة الحرة الكبرى في إفريقيا للاستفادة منها في تنشيط التجارة البينية.

مستقبل إفريقيا

وفي ظل التحديات التي تواجه القارة الإفريقية فان الحل الأمثل هو التنمية الاقتصادية وفتح الأسواق وإيجاد السوق الحرة المشتركة في ظل وجود مقومات جغرافية وسكانية وموارد هائلة حتى يتحقق لإفريقيا الاستقلالية الاقتصادية والنهوض تنمويا بالشعوب الإفريقية والتي تعاني الكثير خلال العقود الأخيرة، كما أن ظاهرة الفساد لابد من إيجاد حل مرحلي لها، علاوة على السير على نموذج دولة ناجحة اقتصاديا في إفريقيا ولفتت الانتباه في السنوات الأخيرة وهي روندا.

إن مستقبل إفريقيا وأجيالها سوف يعتمد علي بناء اقتصاد قوي ومتجدد ولابد من إنهاء الصراعات العسكرية والتفرغ للتنمية الاقتصادية والاجتماعية كآلية وحيدة لانتشال إفريقيا وشعوبها من الفقر والتخلف، ومن هنا فان منطقة التجارة الحرة هي أمل واعد وفرصة كبيرة للانطلاق نحو قارة جديرة بان تكون ذات حراك اقتصادي ومساهمة في الإنتاج الإنساني ومسايرة الركب الحضاري وهي تملك المقومات والإمكانات لذلك وان تتخلص من استغلال الشركات الغربية لمواردها ومقدرات شعوبها حتى تصبح إفريقيا في المستقبل القريب مكانا جاذبا للاستثمار وقارة تعيش شعوبها الرفاهية والازدهار الاقتصادي.

إن التحديات موجودة ولكن من خلال رؤية مشتركة لدول القارة الإفريقية والانطلاق نحو إيجاد منطقة التجارة الحرة فإن مرحلة جديدة في القارة السمراء قد انطلقت وهذا يعني أن إفريقيا اليوم لن تكون إفريقيا المستقبل، وهذا سوف يعتمد علي التصميم والإرادة وإيجاد حلم للأفارقة ليس فقط من القادة ولكن من الشعوب نفسها من خلال العمل والإنتاج والتخلص من البيروقراطية والتسليم بالواقع الحالي وهو واقع لا يليق بإفريقيا وتاريخها العظيم ومواردها الكبيرة وأحلام أجيالها الجديدة المتطلعة إلى إفريقيا جديدة حالمة بأن يكون لها مكان تحت الشمس وهي قادرة علي ذلك.