أفكار وآراء

نحـو إنسـان عـربي جـديـد

12 يوليو 2019
12 يوليو 2019

إميل أمين - كاتب مصري -

[email protected] -

لطالما رافق الانتقال من القرون الوسطى إلى الأزمنة الحديثة الكلام على إنسان جديد. وليس أدل على ذلك من سعي المذاهب الفلسفية المختلفة إلى رسم ملامح هذا الإنسان الذي كان عصر الأنوار قد نادى به، ومن تبنى عدد من التيارات الفكرية التي سادت في القرن العشرين شعار «بناء الإنسان الجديد».

إذا كان هذا التطلع إلى التجديد قد شمل عملياً، منذ مطلع القرن الماضي حتى اليوم، جميع الحقول والقطاعات، فإنه غالباً ما ينشأ عن اختلالات عميقة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وعن التحديات الطارئة التي تواجه الإنسان والمجتمع في مرحلة تاريخية معينة.

يمكن لنا أن نتساءل، لماذا الحديث عن إنسان عربي جديد في هذا التوقيت، ومن كان وراء إطلاق هذه الدعوة مؤخراً؟

يمكن القطع بداية أن السنوات الثماني الماضية، قد طرحت علامات استفهام جذرية حول توجهات الإنسان العربي، وما الذي يريده، وفى أي مسار يمضي، وهل هو قادر على الالتحام مع عالم الحداثة والعولمة الآنية، أم قاصر والعديد من التساؤلات اليومية الملحة.

في هذا السياق كانت مؤسسة الفكر العربي تولى اهتماماً خاصاً بهذه القضية المصيرية، وتصدر مؤلفاً ثميناً يحمل نفس العنوان يشارك فيه نحو أربعين من كبار الكتاب والأكاديميين والمثقفين العرب، في سبيل البحث عن الجواب، كما شهدت القاهرة الأسبوع الماضي لقاء للمؤسسة في تلاحمها مع كبار العقول العربية، ترأسه المدير العام للمؤسسة الدكتور هنري العويط.

يندرج الكلام على «الإنسان العربي الجديد»، في هذا الإطار بالذات، فهو ينطلق من الإقرار بعجزنا عن التغلب على الأزمات العصيبة التي يشهدها عالمنا العربي حالياً في شتى الميادين، وعلى مختلف الأصعدة، وهو مبنى على وعينا بخطورة التحديات التي يواجهها بسبب أوضاعه الداخلية، ونتيجة للتحولات الجوهرية والمتسارعة التي يعيشها العالم بأسره وتنعكس تداعياتها عليه انعكاساً مباشراً وعميقاً. ولكنه نابع أيضاً من رهاننا على أنه سيكون في مقدور الإنسان العربي، وكما أثبت ذلك مراراً في الماضي أن يحقق النهضة المرجوة، شرط أن تتهيأ له الظروف المساعدة لإنجاز هذه المهمة التاريخية.

في التوطئة التي يقوم بها المدير العام لمؤسسة الفكر العربي الكتاب العمدة الذي بين أيادينا، يشير إلى أن اختيار المؤسسة لموضوع الإنسان العربي الجديد، ليس مرده إلى ضرورة التأمل في ما آلت إليه أوضاعنا، ونقد المحاولات الفاشلة لإصلاحها،

والتبصر في السبل المفضية إلى إحداث التطوير الحقيقي المأمول فحسب، بل هو نابع أيضاً من رهاننا، وهو رهان تبناه عدد ملحوظ من أصحاب المقالات، على أنه سيكون بمقدور الإنسان العربي، وكما أثبت ذلك مراراً، أن يحرك المياه الراكدة في عوالمنا وعواصمنا العربية.

هل يعني ذلك أن الزمن هو موضوع الكتاب الذي بين أيادينا؟

بالقطع لا، لكنه حاضر فيه بقوة على امتداد صفحاته، لأنه من الطبيعي أن ينطلق الحديث عن إنسان جديد من معاينة هذا الإنسان في وضعه الراهن، أي من الحاضر لينادي بتحوله إلى ما هو أفضل في المقبل من الأيام، ولقد دلت الخبرة على أنه غالباً ما يتم في هذين الإطارين استحضار الأمة التي ينتمى إليها ومخزونه من التجارب التاريخية.

ماذا عن أهم المنطلقات التي تناول منها الكتاب رؤيتهم الإنسان العربي الجديد؟

خذ إليك بداية ما يشير إليه البروفيسور لبناني الأصل «جوزيف مايلا» أستاذ العلوم الجيوسياسية والوساطة والعلاقات الدولية في فرنسا، عن حال ذلك الإنسان، بين التمثل الليبرالي، ومفهوم التراث المتجدد.

البروفيسور «مايلا» يرى أنه لابد من أن يبدأ العصر العربي الجديد بإقامة القطيعة مع سلوكيات الماضي... لكن على ماذا تقوم هذه القطعة؟ إنها ليست ثورة مسلحة ولا مسيرة عنفية، وهي لا تقوم على الانخراط في عملية تغيير تسري للمجتمعات والدول. المطلوب من وجهة نظره إجراء القطيعة مع التمثيلات والأساطير الراسخة.

ويرى أنه ليس هناك من نموذج يتوجب إنتاجه أو الدفاع عنه بأي ثمن، بل يجب أن نغير نظرتنا للعالم، ونتخلى عن مواهب الماضي، وهي ليست سوى مخلفات بائدة.

يدعونا الرجل لاستبدال النظرة التقليدية بنظرة نقدية، لأن ما من شيء يحدث في العالم ويكون استنساخاً لما جرى في الماضي. يجب أن ينخرط العالم العربي في زمنه وفي العالم المعاصر ويتخلى عن هذا الإطار المعزول الذي يسجن نفسه فيه، فالانزلاق نحو التشبث بما كان وما حدث، والتباكي أمام معاينة التقهقر المريع هو أمر لا يجدى نفعاً، إن الدخول في العالم بالحال التي هو عليها يتطلب الإلهام بالجهد الجماعي للتفكير المعمق بشؤونه بالتشارك مع الآخرين، لا يمكن لأي مجتمع لوحده ابتكار حلول للمشكلات القائمة على الأصعدة الاقتصادية والمالية والسياسية أو البيئية المختلفة.

لابد إذن من قبول العالم كما هو دونما رغبة في محاربته أو سوء الظن به، أو القول إنه يعمل على تهميشنا، ومن ثم المشاركة في الجهد العام، والانخراط مجدداً في البحث والابتكار، ومساعدة المواطنين على استعادة زمام المبادرة، وإطلاق العنان للطاقات الإبداعية والمهارات والمواهب الكامنة...

هذا ما يجعل الإنسان العربي فاعلاً كما يجب أن تتكون القناعة بأن الإنسان العربي لن يجدد روابطه مع التاريخ إلا بقدر ما يجدد صلاته بالحرية، أي بقدرته على تغيير التاريخ. عندها فقط سيتحول الإنسان العربي من متفرج على العالم إلى صانع لمستقبله.

من بين الآراء الواردة في الكتاب قراءة للدكتور وحيد عبد المجيد مدير مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في الأهرام، وقد جاءت تحت عنوان «ثمة منهجان مختلفان لبناء ظاهرته: الإنسان العربي الجديد بين الأحادية والتعددية».

ضمن منطلقات متعددة في ورقته نتوقف أمام جزئية «نظام تعليم حديث»، كشرط لبناء إنسان عربي جديد فاعل وناجز حول الكرة الأرضية، وعنده أن نظام التعليم يلعب دوراً محورياً في تحديد حال العقل في أي مجتمع، وكلما أقيم هذا النظام على تعظيم قمة العقل، ازدادت إمكانات إسهامه في بناء إنسان عربي جديد، والعكس. ويرى أن التعليم هو الأساس وهو المحدد الرئيسي في هذا السياق، فإما أن يتعلم التلميذ منذ البداية كيف يستخدم عقله، ويسأل من دون قلق أو خوف حتى إذا أخطأ، وأيا كان الخطأ الذي يقع فيه. ومن ثم ينشأ وقد تعود على أن يفكر ويتأمل، ويزن الأمور، وينقد، ويقيم.

وإما أن ينشأ وقد تعود على أن هناك من يفكر نيابة عنه، ويلقنه ويحدد له الاتجاه الذي يمضى فيه، فيبقى عقله مقيداً أو محبوساً، وعاجزاً عن التفكير بطريقة خلاقة أو معدمة، ويصبح هدفاً لمن يريد حشو هذا العقل بالتعصب والتطرف والنزوع إلى العنف.

مراجعة نظم التعليم في بلداننا العربية، هي إذن الخطوة الأولى في اتجاه بناء إنسان جديد. يحتاج هذا البناء نظاماً تعليمياً قائما على تنمية العقل ليكون قادراً على أداء وظيفته المحتجزة في التفكير الذي يأتي بقيمة مضافة. وليس نظاماً يقوم على تنمية الذاكرة وحشوها، ويتطلب هذا التحول تغييراً في أسلوب التعليم، وإعادة تأهيل المعلمين وفق هذا الأسلوب الذي ينمي العقل لا الذاكرة وهذا التغيير ضروري في منهج التعليم.

ومن بين القضايا المصيرية المرتبطة بالإنسان العربي الجديد قضية تجديد الفكر الديني، تلك التي يعتبرها المفكر السوري الأصل د. هاشم صالح «تحد لا رجعة عنه للأمة بعد الآن»، ويصف المطلوب بأنه تجديد للفكر الديني وليس الدين، وغني عن القول عنده أن تجديد الفكر الديني في العالم العربي أصبح يشكل أولوية الأولويات، فبعد كل ما حصل من تفجيرات وفظائع باسم الدين، ما عاد ممكناً السكوت، وعلى أي حال فالصدام مع العالم كله من خلال حركات التطرف التكفيرية يدفعنا إلى ذلك دفعاً. هذا ناهيك بالصدام مع بعضنا البعض وهو صدام أشعل حروباً أهلية حقيقية في العالم العربي، من سوريا إلى لبنان إلى العراق إلى اليمن وليبيا.

يخلص المفكر السوري الكبير إلى أنه لن يدخل العرب التاريخ قبل تطبيق المناهج التاريخية الحديثة على كل تراث الإسلام ونصوصه الكبرى، وتلك في رأيه أكبر مهمة مطروحة على المثقفين العرب طيلة العشرين أو الثلاثين سنة القادمة، لئلا نبقى أسرى ما يدعوه محمد أركون بالسياج الدغمائي المغلق على ذاته، فما هو مطلق بالفعل، ليس القيم الأخلاقية والمثل العليا السامية التي تجمع بين أديان التوحيد الثلاثة، الشيء المطلق هو الوصايا العشر الواردة في التوراة والإنجيل والقرآن، لا تقتل، لا تسرق، لا تكذب... إلخ، فضلاً عن المعاملة الحسنة والطيبة الداخلية ومكارم الأخلاق «الدين هو المعاملة»، كما كان يقول «سبينوزا» والفرقة الناجية، تضم كل الناس الطيبين المخلصين أياً تكن أديانهم ومذاهبهم وطوائفهم.

يخبرنا الدكتور أنطوان سيف الباحث والأكاديمي اللبناني أن التجدد المستدام هو مفتاح للإنسان العربي الجديد، وأن ذلك لا يمكن أن يحدث خارج إطار المؤسسات، فالإنسان في الأزمنة الحديثة ينتمي إلى مؤسسات عدة فرعية، فضلاً عن انتمائه إلى الكل المجتمعي، وعندما يخرج من مجتمع لأسباب مختلفة تتلقفه مؤسسات تختلف مدة انتمائه إلى كل واحدة منها، وإلى الدور الذي يلعبه في كل واحدة فيها بدءاً من مؤسسة العائلة الأولى إلى بقية مؤسسات المجتمع.

لا ينطلق الإنسان العربي الجديد في مهمته الحضارية المنشودة من الصفر، أي من التخلف المبالغ به، بل من أرصدة معبرة، وإن مبتورة محبطة مهمشة، مع ذلك وعلى الرغم من ذلك تظل هناك رؤية صافية وإرادة طيبة لا تلين، وثقة بالمستقبل الزاهي القريب الآتي بفرح التفاؤل والتحرر من ثقل الكثير من الموروث، الأمر الذي يستحق جهوداً مضنية مضاعفة للعمل، باستكمال معارف وابتداع حقائق جديدة، تعزيز الفكر النقدي، وبث ثقافة الاختلاف والمنافحة عنها، ودعم فكرة المساواة بين البشر والمواطنة والتكامل بالآخر، ونسبية القيم، وفي أن ثمة حقائق عامة خارج السلطة، وثمة دائماً حقائق جديدة لم يعرفها تاريخنا، وأن التنمية واحترام البيئة هما من المهمات التي لا تقبل التنازل، وإن الفنون الجميلة هي من أرقى إضافات الإنسان إلى الوجود.

إن القيمة الكبرى من تلبيتنا دعوة مقاربة مغامرة التفكر بقيمة «نحو إنسان عربي جديد»، تجسدت فينا بخروجه من رهبة الوجود الافتراضي، وشكوكه إلى رحاب الوجود بالفعل، مجدداً بوجوده الفعلي الأمل بتجاوز أوضاعنا البائسة وجعل فرح التجاوز مسلكاً إنسانياً مستداماً.

الطريق إلى إنسان عربي جديد دعوة تستحق التوقف وقراءة مستقبلها لخير الأجيال القادمة.