إشراقات

قانون الاصطفاء والتيسير

11 يوليو 2019
11 يوليو 2019

عبدالحميد الرواحي -

إن أيات الكتاب والسنة المطهرة تشيران إلى أن أغلى ما يمكن أن يحصل عليه الإنسان هو مرضاة الله والجنة (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) وإذا كانت الرتب الغالية في الدنيا تحتاج إلى بذل الجهد لنيلها فكيف بمن يطلب القرب من الله في جنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر؟ أتترك لكل من هب ودب!! كلا، فهنالك قانون يتم على أساسه الاصطفاء والاجتباء بعد اجتياز اختبارات الإيمان (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) ، (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) فانظر إلى مريم عليها السلام يجعلها الله مثلا لكل تقي وتقية إذ يمتحنها (يمَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) فتستجيب وتلزم نفسها طاعة الله دون انقطاع (وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ)، فبشرتها الملائكة بالاصطفاء (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يمَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَآءِ الْعَالَمِينَ) فتنهمر الرحمات الإلهية (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يمَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنًّ اللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) وتأمل أن لفظة (كلما) تفيد الكثرة والاستمرارية والنتيجة بعد المداومة على الجهد (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يمَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنًّ اللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) فبعد القبول يفتح الله لها أبواب الرزق المادي والمعنوي بحيث إن هذا الرزق حير الكفيل من حيث النوع والكم.

وكذلك الحال مع إبراهيم (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) أختبر فاستجاب وداوم على الطاعة وكان شاكرا للنعم فيأتي الاصطفاء والاجتباء (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ولعل المتأمل في الآية يدرك أن الرحمات توافدت في الدنيا قبل الآخرة ويأمر الله نبيه وأمته أن يسيروا على نهج إبراهيم القانت (ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ويوضح لهم أن صفة القنوت لا تغادر صفات الفائزين (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ والْقَانِتِينَ والْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ) ، (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ والصَّائِمِينَ والصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِـظَاتِ وَالذَّاكِـرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) وقد وعد الله هؤلاء المتقين بالمعية الخاصة (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) ووعدهم بإخراجهم من كل مأزق (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً) وبتيسير الأمور في الدنيا قبل الآخرة (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً). ولكن بشرط أن يبتدأوا هم أولا بنصره (يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) ووعدهم بوعود كثيرة منها التمكين في الأرض والأمن (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) والسؤال، هل أمة الإسلام ممكنة اليوم ومستخلفة وآمنه وإذا كان الجواب لا فأين وعد الله؟ بكل شفافية لقد هانت أوامر الله على معظم المنتسبين للإسلام فهان أمرهم عليه. ومن وعوده لعباده (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) فهل هذه الأمة منصورة! ومنها (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) فهل دافع الله عنا أم أننا مخذولون! ومنها (وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَـذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً) فهل كفت أيدي الناس عن هذه الأمة الآن! إذن إن كنا مؤمنين بمجرد التصديق بالله واليوم الآخر فلماذا لم تتحقق وعود الله؟ أليس وعد الله حق (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ) أم أنه علينا أن نراجع أنفسنا في معنى الإيمان الذي ندعيه ومعنى الإيمان الذي أتى به المرسلون ليصطفينا الله ويحقق لنا وعوده؟ وإلا فإن سنة الله ماضية (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) وإذا كنا في شك فما علينا إلا نرى الواقع الذي تعيشه بعين البصيرة لتزال الغشاوة ونرى الحق. وإذا كنا مؤمنين حقا فلم يعذبنا بذنوبنا (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)، ألا ترى بلاد الإسلام ينزل بها ما ينزل ببلاد الكافرين من الويلات والعذاب (زلازل- براكين- خسف- أعاصير- سيول مدمره)، أولا يعيش الكثير الكثير من المسلمين اليوم- حالهم حال الغرب- مشاكل القلق والاضطراب النفسي والخوف من المستقبل والكآبة (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أم أن هذه كلها رحمة على ما عليه أمتنا- إلا من رحم الله- من أكل الربا وشرب الخمر وانتشار الزنا واللواط والرشا وأكل أموال الناس بالباطل!، أم ترى هي الطبيعة تعبث في كون الله- تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا- أم أنه لا يوجد لدينا هدى لنستقرئ سنن الله فى الأمم المنحرفة (فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَالَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ هَـؤُلاَءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ).