1263503
1263503
المنوعات

الـعـالم كمـا يراه وول ســوينكـا: هنـاك إنسـانـية واحـدة أو لا إنسـانية علـى الإطلاق

09 يوليو 2019
09 يوليو 2019

حوار: هنري لويس جيتس  -

ترجمة : أحمد شافعي -

ـ كيف ترى تأثير دونالد ترامب على إفريقيا، وكيف هي صورته في إفريقيا؟

ـ طيب، هذا سؤال جحيمي نبدأ به. ولأقلها لك بصراحة، إنه يعد مدفعًا جامحًا يطلق مواقف طال إخفاؤها، مواقف عنصرية، مواقف جوهرها رهاب الأجانب.

ـ هل رأيت علاقة سببية بين حقيقة أن رجلا أسود قد شغل البيت الأبيض لثماني سنوات ثم انتخب نقيضه؟

ـ ترامب جاء انطلاقا من كراهية سياسية وعرقية وأيديولوجية لأوباما. حتى أنه لم يراع الرقة في تنفيذه مهمته بتفكيك تركة الرجل الأسود.

ـ وغير مسبوق، من واقع تجربتي، أن يقول سياسي: «إن تركيزي الأساسي سوف ينصب على إلغاء سياسات الرجل السابق عليّ».

ـ هذا غير معهود. في نيجيريا وفي أماكن أخرى، حينما تسمع رئيسا أو محافظا يأتي ليبدأ بتشويه سياسات من سبقه أو إنجازاته أو أنشطته، فلا يكون ذلك في العادة إلا لغرض واحد. فهو يلغي هذا ويلغي ذاك ويلغي هذا، لكي يبدأ من جديد في تكوين ثروته. بعبارة أخرى، الفساد غالبًا هو ما يكون كامنا وراء ذلك. (ضحك) هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها نهج تحطيم الأوثان، أرى السلبية المحضة وقد صارت هدفا في ذاتها، بل أيديولوجية لرئيس جديد. الأمر كما لو أنه قد قيل للأمريكيين: «لقد بيعت لكم يا جماعة نسخة مقلدة، وأنا الأمريكي الأصلي ومن ثم فإن بوسعي أن أفعل ما أشاء».

ـ هل من الدقة القول إن دونالد ترامب عنصري؟

ـ أوه، نعم، أعتقد بهذا. أعرف أن السياسي قد يقول أي شيء أو يفعل أي شيء، لكنني في الوقت نفسه أرى أنه من الشيطانية الخالصة أن يُستعمَل سلاح في مثل خطورة العنصرية وصولًا إلى السلطة. العنصرية السياسية سبب للفُرقة. وهي تستعمل سلاحا عمديا لتقليب جانب من الناس على جانب. وأي رئيس دولة، بل أي مسؤول صغير منتخب، يمكنه أن يدلي بتصريحات من قبيل «الدول الأخرى» ـ بل ويعيِّنها بالأسماء ـ ويقول: «لكن في المقابل هاتوا لي النرويجيين ذوي العيون الزرق، فهؤلاء لا أبالي بدخولهم إلى البلد. (يضحك) فهل بوسع أحد أن يتجاوز هذا القدر من العنصرية؟ ومن بوسعه أن يقترب أكثر من العقيدة اللعينة، عقيدة مثال الإنسانية الآري ذي العيون الزرق؟

ـ مزقت بطاقتك الخضراء (الجرين كارد) حينما سمعت بانتخاب ترامب رئيسا. لماذا فعلت ذلك؟

ـ لأنني رأيت ما كان يجري. وكثير من الناس لايعلمون مدى عاطفية ارتباطي بشتاتنا، وليس ارتباطي تاريخيًا أو فكريًا وحسب.

ـ تعني الشتات الإفريقي؟

ـ نعم، بالقطع، الشتات الإفريقي، سواء في الولايات المتحدة أو في الكاريبي أو حتى في العراق التي اكتشفنا فيها الزنج . من المعلومات غير المعروفة كثيرًا عني أنني قدمت إسهامًا ضئيلًا في تحرير أمريكا من الفصل العنصري، حيث إنني قمت شخصيا بتحرير حمام سباحة من الفصل العنصري في أطلنطا في أوائل الستينات. والابتهاج برؤية رجل أسود يرتقي إلى أعلى المواقع في هذا البلد ذي الثقافة العبيدية كان في مثل جمال مشاهدة صاروخ ينطلق إلى الفضاء. فلما بدا لي أنني أرى نكوصا عن مكتسبات الشتات الأسود، تحفزت واكتأبت. توقعت كل شيء وقلت: «لو سمح الأمريكيون بحدوث هذا، بهذا الرجل الذي يتقيأ خطاب العنصرية، فسوف أقلِّص علاقتي بهذه الأمة». فلم يكن الأمر أنني أدير ظهري بالكامل للولايات المتحدة. بل كان تعبيرًا عن شعوري. وفضلا عن تمزيق بطاقتي الخضراء، ذهبت إلى السفارة.

ـ مزقتها؟

ـ كانت صلبة واستعصت على التمزيق. (يضحك) ولم أدر كيف أمزقها. فقطعتها. وحملتها معي أينما ذهبت طلسما، بحيث كلما منعت من دخول الولايات المتحدة أقول: «تمام، أعرف لماذا تفعلون هذا معي. هل تريدون تذكارا؟ وأعطيهم قطعة. وذهبت إلى السفارة لإتمام الجانب الرسمي».

ـ وقَّعت إذن التنازل، لم تستعد البطاقة؟

ـ سأنظر في أمر استعادتها حينما تتخلصون من ترامب.

ـ أنت حاصل على نوبل. أتذكر أن الكثيرين اندهشوا ـ فمنهم من اندهش وفرح ومنهم من اندهش وصدم ـ حينما منحت اللجنة لأوباما جائزة نوبل للسلام بعد فترة قصيرة من انتخابه. كيف رأيت ذلك؟

ـ أقول لك بصراحة إنني لم أجدها لفتة إيجابية. فرؤساء الدول عاجلا أم آجلا يجدون أنفسهم مرغمين على القيام بأفعال شنيعة، أفعال لا يمكن حسبانها متسقة مع طبيعة السلام، ولكن قد تبررها الظروف، من قبيل التعرض لهجوم على سبيل المثال. فلو حدث مثلا وهوجم بلدي نيجيريا بلا سبب على الإطلاق ولم يفعل رئيس الدولة شيئا ملائما، سوف أكون في صدارة الراغبين في الإطاحة به من السلطة. وأعتقد أن من يحتلون المواقع التي يرغمون فيها على مثل هذه الاختيارات الصعبة لا يجب أن نعرقلهم بجائزة اسمها له علاقة بالسلام. لكن بعد تركه السلطة يمكن النظر في سجله الكامل لنرى إن كان من سياساته أو أفعاله ما عزز السلام. فالسلام في رأيي ليس فضيلة تافهة. بل هو شيء يتوق إليه الكون عاجلا أم آجلا. شيء لا يمكن أن تضاهيه جائزة. يجب أن تكون الجائزة لاحقة. وذلك هو السبب الوحيد لمعارضتي منح الجائزة لأوباما.

ـ ما تقييمك لتركة أوباما كرئيس؟

ـ من واقع تأثيرها المباشر عليَّ حينما كنت حاملا للبطاقة الخضراء، ومقيما دائما في هذا المكان، يمكنني أن أحمد الله على وجود مشروع أوباما كير للرعاية الصحية في لحظات حاسمة من حياة أسرتي. أعرف قيمة ذلك. أعرف معناه للناس العاديين. وكل من يحاول تفكيك هذا المشروع يفعل -في تقديري- ما يرقي إلى الجريمة ضد الإنسانية. في السياسة الخارجية، من الواضح أن أوباما كان حازما عند الضرورة. أتذكر تصريحاته الأولى عندما أصبح رئيسا: «إننا نمد يد الصداقة، لكننا في الوقت نفسه مستعدون بقبضة المقاومة». أعتقد أن ذلك يبسط الفلسفة الواجب على أي حاكم في العالم أن يتبناها. لقد حسب بعض الناس في العالم أنه حذر إلى درجة الجبن. وأختلف مع هذا تماما. فانتشار أسلحة الدمار الشامل ييسر إمكانية نشوب حرب عالمية ثالثة بمنتهى البساطة. ونحن نعيش في عالم سهل الاهتياج للغاية بما يستوجب التوازن والحذر.

ولقد أبدى ذلك في الإنجاز العظيم باعتقال أسامة بن لادن. ما كان إلا لحاكم هادئ مبدئي ملتزم أن يفوِّض بعملية كتلك تكون إشارة للعالم كله على أن الوحشية لا يمكن أن تمر بلا عواقب. اقتضت شجاعة. ذهب بعض الناس إلى أنها عملية قتل بدون حكم قضائي. وذلك أجده طريفا جدا. فالجريمة كانت عالمية، وأوباما تعامل معها.

غير أن نزعة أوباما العالمية في الوقت نفسه، لو جاز أن نسميها العالمية، أو إحساسه بالالتزام بالتساوي بين الثقافات، قاده في بعض الأحيان إلى الطريق الخاطئ. فخطبته في القاهرة على سبيل المثال أنا رأيتها كارثة من ناحية تحرير الإنسانية ـ عندما تكلم لا عن موافقته التامة بل عن قبوله بحق أي ثقافة في إرغام نسائها على الحجاب. مثل هذا الخطاب يجعل الإنسانية مسألة نسبية. وبالنسبة لي هناك إنسانية واحدة، أو ما من إنسانية. وليس لأي ثقافة الحق في الحط من شأن المرأة. وحتى لو لم يكن بيدك أن تفعل شيئا حيال ذلك، فعلى الأقل لا يجب أن تقول ما يدعم أي فكرة للنسبية الثقافية، ليس حينما يتعلق الأمر بالكرامة والحقوق الأساسية للإنسانية.

وأوباما، في اعتقادي، مضى بعيدًا في نأيه عن المجتمع الأسود. وأجد ذلك مزعجا للغاية، فإلى أن تتحقق المساواة العرقية تمامًا ـ ولن يحدث ذلك في حياتي وقد لا يحدث في حياتك أيضا ـ وتصبح وجودًا اجتماعيًا عاديًا لا يستوقف التفكير، فلا بد من الانتباه إلى ذلك القسم المحروم في المجتمع، سواء أنتكلم عن حدود جندرية أم حدود عرقية. وأعتقد أن أوباما أدار ظهره لذلك.

أعتقد أن تلك هي مآخذي الأساسية على أوباما. في ما عدا ذلك أعتقد أن ولايته من أكثر الولايات تقدمية في البيت الأبيض، وأعتقد أن الأمريكيين يجب أن يأسوا على اختيارهم في الانتخابات الماضية (يضحك).

ـ في كل زيارة لي إلى جنوب إفريقيا يصدمني التقسيم الطبقي. فقد ظهرت منذ الأبارتيد طبقة صغيرة من البليونيرات السود. (ومن الغريب أن ثلاثة من أغنى أغنياء البلد تعرضوا للسجن في ظل الأبارتيد). مع ذلك فإن الانقسام الطبقي داخل المجتمع الأسود في جنوب إفريقيا هائل. هل ترى أن ذلك يتغير؟

ـ أثق أن التطور سوف يحدث. في الوقت الراهن ينظر المرء إلى الأمر في دهشة، لسبب واحد، هو أن الحزب الذي وصل إلى السلطة ـ أي حزب المؤتمر الوطني الإفريقي ANC، يمثل جزءًا من نسيج السياسة في جنوب إفريقيا ونشأتها عن بداية الكفاح الأسود ـ كقوة معنوية وسياسية وأيديولوجية. ومؤكد أنه كان اشتراكيًا. غير أن القوى الغربية أصرت بالطبع على أنه كان شيوعيًا، وأن الشيوعية تتجه إلى الاستيلاء على السلطة وما إلى ذلك. ولكن الاشتراكية كانت المبدأ الهادي لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي.

كنت بصراحة أتوقع تحولًا أكثر راديكالية في جنوب إفريقيا. ولم يحدث ذلك بالسرعة التي كنت أتوقعها، وهذا أمر مخيب للرجاء. ويمكن إرجاع بعض عوامل ذلك إلى الوحش نفسه، وحش الفساد الكامن في القمة. وهذا بصدق أمر ينفطر له القلب؛ لأننا كنا نتطلع إلى جنوب إفريقيا ونشير إليها بوصفها مثالا للإصلاح السريع، والوعي السياسي الكبير القائم على المساواة، بعد عقود بل قرون من قهر الأقلية للأغلبية. وإنها لكارثة أن نرى هذه «الثورة» تتفكك أمام أعيننا.

نحن نشاهد انتقال السلطة من جاكوب زوما إلى سيريل رامافوزا. وأنا أعرف رامافوزا شخصيًا. كان رجل أعمال قبل أن يصبح رئيسًا، واستفاد من جهود مقصودة لنقل السلطة التجارية إلى السود. هو استفاد من ذلك، مثلما استفاد كثيرون وكثيرون غيره. وسوف نرى إن كان سيحاول نشر الحظ -لو جاز القول- إلى البقية، لا سيما الأغلبية السوداء المفقَرة.

ـ أين الخطأ الذي وقعت فيه جنوب إفريقيا؟ أفي وقت حكم مانديلا أم بعد أن نقل مانديلا الرئاسة إلى ثابو مبيكي؟

ـ لا، لا أعتقد أن بوسعك للحظة أن تنسب الخطأ إلى مانديلا. انتقال السلطة ـ ونحن نتكلم عن سلطة اقتصادية وسياسية معا ـ يمثل دائما مشكلة شديدة الدقة، وفي تقديري أن الأمر كذلك في أي مجتمع خارج لتوه من وضع اجتماعي سياسي رديء. فليست جنوب إفريقيا فريدة في هذا الصدد. رأينا ذلك في الاتحاد السوفييتي. لكن الإيقاع بطيء. في جنوب إفريقيا، كانت الثروة كلها تقريبا في يد أقلية صغيرة للغاية. وعملية التحول حاليا هي المشكلة.

إنني أرى على سبيل المثال جهودا للتعامل مع مشكلة الإسكان، ونقل الناس من الأكواخ القديمة إلى مساكن لائقة كريمة رخيصة التكلفة، وهذه خطوات إيجابية. ملكية الأرض مسألة يجب التعامل معها بحساسية فائقة، ومع ذلك يجب حلها بسرعة. لا بد أن يأتي وقت على حكومة ـ لا سيما إذا قويت في السلطة وتألفت من مزيج عرقي، وهو ما يزداد في جنوب إفريقيا ـ فتقول لمحتكري الأراضي «اسمعوا، نحن في طريقنا إلى انفجار آخر. هيا نجلس ونتكلم ونتبنى فعلا سياسة تستوجب التضحية، تستوجب التخلي عن مزايا مادية معينة». حينما يحدث ذلك، أعتقد أننا سوف نرى تحسنا أسرع في أوضاع جنوب إفريقيا.

ـ كيف يقارن ذلك مع الانقسام الطبقي الكبير في نيجيريا؟

ـ هو تقريبا في المستوى نفسه. الفارق في نيجيريا بالطبع هو أن الفارق لا يسمه طابعا عرقيا، ومن ثم فهو ليس مؤلما بقدر إيلامه في جنوب إفريقيا. لقد أنشأنا ـ كما في جنوب إفريقيا ـ طبقة جديدة من المليونيرات من صفوف العسكر والمتعاونين معهم في المجتمع المدني. تم الاستيلاء على الثروة النفطية. ولذلك فإن كل رئيس للدولة يريد أن يكون وزيرا للنفط لأن الاقتصاد أحادي. المال كله يأتي من مصدر واحد. ولا تكاد تحصل على الآلات اللازمة لاستخراجه، وهو ما يضمن على الأقل مستوى معينا من التوظيف، حتى تبدأ في إهمال البديل، الذي كان في يوم من الأيام مصدر دخل لا بديل له. لذلك يكون أمرا حاسما للغاية لكل رئيس، أو لأي شخص من الطبقات المحظوظة يصل إلى السلطة، أن يجلس على ذلك، ثم يبدو وكأنه يتكرم من جيبه فينفق كيف يشاء بدلا من أن يستعمل العائد استعمالا بناء يصب في صالح تحول المجتمع كله. إنه الجشع وشهوة السلطة. لأنك ما دمت تمتلك الموارد، فهي تضمن الولاء. وهذا ما يعوق التقدم في نيجيريا.