الملف السياسي

التحليق في آفاق الاقتصاد العالمي

08 يوليو 2019
08 يوليو 2019

إميل أمين -

تتسارع وتيرة التطوير وإعادة هيكلة الاقتصاد في السلطنة بصورة كبيرة في الآونة الأخيرة، وذلك من اجل تنفيذ اكبر برنامج للتحول الاقتصادي في تاريخها، ومن اجل الاستعداد لمرحلة ما بعد النفط وفق رؤية طويلة المدى تمتد حتى عام 2040، وتركز على تنويع مصادر الدخل وإيجاد مصادر بديلة لإيرادات الموازنة.

يعن لنا ونحن في صدد الحديث عن آفاق المستقبل بالنسبة للاقتصاد العماني أن نتساءل عبر أي أجنحة يمكن لاقتصاد السلطنة أن يحلق عاليا، بقوة وثبات، وبدون خوف من تيارات العالم الاقتصادية المتغيرة والمتعدلة بسرعة كبرى في حاضرات أيامنا؟

باختصار غير مخل، نحن أمام ركيزتين أساسيتين دائما بالنسبة للاقتصاد العماني، البشر حيث الإنسان والذي كان الهدف الرئيس لجلالة السلطان منذ زمن النهضة المباركة، وحتى الساعة، الإنسان الذي يبدع والذي يجبر الصخر على البوح بأسراره، ومن جهة أخرى الحجر حيث كنوز الطبيعة العمانية مستترة وفي حاجة لمن يمسح عنها الغبار، ويعود بها إلى خدمة الإنسان من جديد.

يمكن الجزم بان تجربة النهضة العمانية والتي فيها الإنسان في القلب لم تسلك طريقا أحاديا ضيق الأفق بمعنى انها لم تتعاطى مع الأبعاد الاقتصادية على سبيل المثال على حساب الأخلاقيات والقيم، ولم تتشابك مع السياسات الدولية على حساب امن وأمان الإنسان العماني، بل برع جلالته في تقديم تلك الوصفة الخلاقة والتي هي مزيج من عناصر متكاملة اقتصادية وسياسية، تعليمية وتثقيفية اجتماعية وصحية، وفي هذه وتلك كان الإنسان العماني يبلور رؤية وشخصية قادرة على التحدي والتصدي في آفاق العالم الجديد المتغير،عبر إنجازات سريعة وبصورة يصعب اللحاق بها صباح مساء كل يوم.

ويمكن القول دون تهوين أو تهويل أن ما تحقق من إنجازات عبر العقود الماضية، بدأت وكانها إنجازات تتحدث عن نفسها كمعارك للنهضة الشاملة التي لامست أرجاء الوطن من أدناه إلى أقصاه، وتركت بصمات شاهدة على تجربة حية متجددة تستمد واقعها وآفاقها من روح المكان العماني وعبر وثبات لا تقف عند حدود معينة.... لكن ماذا عن جوهرة التاج في تلك النهضة؟

ماذا عن المدخل الصحيح للتنمية؟

يجيب جلالته غير مرة: «إن الأمم لا تبنى إلا بسواعد أهليها وان رقيها في مدارج الحضارة والتقدم لا يتم إلا عن طريق العلم والخبرة والتدريب والتأهيل» ويضيف جلالته: «إن الثروة الحقيقية لأية أمة إنما تتمثل في مواردها البشرية القادرة على دفع عجلة التطور إلى الأمام في جميع مجالات الحياة».

غير أن تساؤلا جديدا يطل بوجهه... كيف استطاعت السلطنة تحقيق هذا المنجز البديع «الانسان العماني» الجامع بين الأصالة والحداثة» عبر إشكالية تطوير وتنمية الموارد البشرية؟

يدرك المدقق في سيرة جلالته انه من أصحاب العقول النيرة والإرادة الحازمة والعزيمة الصادقة، وعنده أن أي عمل لا يقصد به المصلحة العامة ولا يقوم أساسا على خطة مدروسة هو عمل معرض للفشل وضياع الوقت والجهود، ومن هنا كانت الأهداف تجد طريقها عبر خطط مدروسة متجنبا مصائر أصحاب الرايات الفاقعة والشعارات الزاعقة.

فعلى سبيل المثال لا الحصر وفي شان الاستراتيجية العمانية لتطوير وتنمية الموارد البشرية والني انطلقت من العام 1996 وتمتد حتى العام 2020 يجد المرء تناغما مرحليا بين خطوات تحقيق تلك الرؤية بشكل براجماتي محمود يعود بالنفع على المجتمع العماني ومن أهمها:

*تحقيق التطور النوعي للقوى العاملة ورفع كفاءتها.

*تأهيل القوى العاملة لاستخدام التقدم التقني والثورة العلمية في عملية التنمية الشاملة.

*تحقيق التوازن في سوق القوى العاملة.

*تحقيق التوازن بين عرض القوى العاملة والطلب عليها بهدف التوصل إلى الاستخدام الأمثل لقوة العمل.

*مكافحة الأمية ونشر الثقافة العمالية بهدف الارتقاء بمستوى الموارد البشرية وتنميتها.

هل توقفت الأحلام العمانية عن المضي قدما في طريق التطوير؟

بالقطع لا ومن هنا جاءت رؤية اقتصاد عمان 2040 لكي تكمل ما قد تم البناء عليه، وتراكم نجاحات خلاقة من جديد.

تستهدف سلطنة عمان من خلال هذه الرؤية تنويع مصادر الدخل، بعد أن شكلت صادراتها النفطية 37% من الناتج الإجمالي المحلي، حتى نهاية سبتمبر 2018، فضلا عن تمكين القطاع الخاص، بالإضافة إلى تحقيق تنمية متوازنة بين الولايات والمحافظات العمانية.

ما الذي ترتكز عليه رؤية عمان 2040؟

يمكن القطع بانها تأخذنا إلى عوالم مغايرة لما جرت به المقادير طوال عقود من اقتصاد قائم على ريع العوائد النفطية وليس اكثر، اقتصاد يغوص بنا في عمق ما يعرف باسم اقتصاد الابتكار، حيث الإبداع هو أساس النجاحات الكبرى، والانطلاقات العميقة.والشاهد أن دولا ومؤسسات كبرى حول العالم نشأت من حول أفكار ابداعية، وليس ادل على ذلك من فكرة أسواق الانترنت مثل أمازون حيث يعد صاحب تلك الشركة أغنى أغنياء العالم في الوقت الحاضر.

اما اختراع «مارك زوكربيرغ» والمعروف بالفيسبوك، فقد بات هو مدخل العالم الحديث إلى المعلوماتية، وأضحت القيمة السوقية لتلك الشركة تعادل اقتصادات دول بأكملها حول العلام.

تركز رؤية 2040 على التعاطي بذكاء اجتماعي واقتصادي وإنساني مع كافة الموارد الطبيعية للسلطنة، تلك التي حباها الله تعالى بموقع وموضع نادرين في سياقها الجغرافي حيث البر والبحر، وحيث الجغرافيا التي تمثل ظل الله على الأرض، والتاريخ الذي هو في اصله وفصله عمل الإنسان في الكون.

تقوم رؤية 2040 على أربعة قطاعات وهي التعدين، والقطاع اللوجستي، والسياحة، والثروة السمكية، كما تسعى للاستفادة بالتقدم العلمي والصناعي وتحقيق الاستدامة المالية، وإعداد الكوادر البشرية اللازمة لذلك، الأمر الذي سيتحقق على مرحلتين أولهما 2030 ثم 2040.

خلال لقائه مع مجموعة من الشباب العماني من مختلف القطاعات في يناير الماضي، تحدث صاحب السمو السيد هيثم بن طارق آل سعيد وزير التراث والثقافة، رئيس اللجنة الرئيسية للرؤية المستقبلية «عمان 2040» مؤكدا على أن تلك الرؤية هي رؤية الشباب صانع المستقبل، وهي رجع صدى لأفكارهم وما يتطلعون اليه، مشيرا إلى انها تمثل خطوط مجتمعية تعكس تطلعات جميع فئات وشرائح المجتمع، وما يطمحون إلى تحقيقه خلال العقدين القادمين، ومؤكدا حرص صاحب الجلالة السلطان قابوس - حفظه الله ورعاه - على المشاركة المجتمعية، خاصة فئة الشباب في كافة مراحل إعداد الرؤية وحتى الوثيقة النهائية.

تمضي النجاحات العمانية منذ زمن النهضة المباركة وانطلاق الدولة العمانية بصورتها العصرانية الحديثة في طريق مراكمة الخبرات والنجاحات، وليس راس المال النقدي فقط، بل راس المال البشري هو الأداة الناجعة والفاعلة.

رؤية 2040 في واقع الحال هي استفادة وتعظيم لنجاحات وخبرات رؤية 2020، لا سيما وانها أضافت إليها مشاركة مجتمعية شاملة حيث شارك فيها جميع فئات المجتمع من القطاع الحكومي والقطاع الخاص، المجتمع المدني، الشباب، وجميع المحافظات والمجالس البلدية والقطاع الحكومي.

تفكر السلطنة ابدا ودوما عبر الأفكار الإيجابية الخلاقة، وهي تؤمن بان مجالات الإبداع واسعة ورحبة، فبدلا من التضييق والتقشف ينبغي أن يتفتق الذهن العماني عن أفكار جديدة، على سبيل المثال وفي مواجهة أزمة تغير أسعار الطاقة والنفط تحديدا، لم تعمد السلطنة إلى تقليل الرواتب او تخفيض المستحقات لبنيها في قادم الأيام، فالأفكار الإنمائية يمكنها أن تكون بديلا جيدا أن أحسن تفعيلها، ومن هنا كان إطار تحديث الزراعة، واستحداث بيئات حاضنة للتكنولوجيا، والشركات الناشئة، وتعزيز السياحة، وإنشاء مناطق صناعية حرة على مقربة من المدينتين المرفئيتين، صلالة والدقم.

ما تقدم ليس أفكارا نظرية مجردة، بل واقع يتحول يوما تلو الآخر إلى خطة عمل، فقد فوض مجلس الوزراء في السلطنة وزارة الزراعة والشركة العمانية للاستثمار الغذائي القابضة، في وضع برامج هادفة لتعزيز الإنتاج الزراعي، واعتماد طرق جديدة للري والاستثمار فيها وتنفيذها، ويشتمل ذلك زيادة المنتجات المخصصة للتصدير، مثل البلح والعسل والفواكه لهذه الغاية.

يأتي الابتكار هنا ليجعل من الزراعة العمانية مدخلا جيدا لاقتصاد الابتكار، فعوضا عن الزراعات التي تحتاج الكثير من المياه، فانه يمكن استحداث محاصيل جديدة، تستخدم اقل كميات من المياه، وتعطي في ذات الوقت اكثر وفرة في الحصاد.

والشاهد أن الذين لديهم علم من كتاب السلطنة عبر عقود النهضة المباركة يدركون كيف أنها أضحت وبفضل سياسات صاحب الجلالة الحكيمة موطنا للسلام والاستقرار في منطقة ملتهبة ومشتعلة في الحال، هذا السلم الأهلي والمجتمعي الذي يخيم على السلطنة يجعل لديها ميزات غير معدودة نشير إلى اثنتين منها فقط:

أما الأولى فتتصل بالاستثمار الخارجي واستجلابه إلى داخل السلطنة، اذ انه من المعروف للجميع أن هناك حالة من الركود الاقتصادي في الدوائر العالمية، ولا سيما في دول الغرب سواء الأوروبي أو الأمريكي، والجميع يبحث عن مواقع ومواضع بها فرص مستقبلية واعدة.

واذا كان رجالا الاقتصاد يرون أن راس المال جبان، بمعنى أن أصحاب رؤوس الأموال يفرون من الدول التي أوضاعها السياسية والأمنية غير مستقرة، فان السلطنة هنا مهيأة شكلا وموضوعا في العقدين القادمين لان تكون المكان الأكثر أريحية لهؤلاء المستثمرين، لبناء منظومات اقتصادية حديثة، في ضوء أعلى نسبة أمن وأمان تعيشها في عصورها الزاهية الحالية.

فيما الميزة الثانية فتتصل بالهبة الربانية المتصلة بالموقع الجغرافي وحالة المناخ، فقد حبا الله تعالى السلطنة امتدادا جغرافيا ساحليا فريدا، ومناطق بعينها تمثل الترجمة الحقيقية لفكرة البرد والسلام، في وسط الأجواء الجارة في منطقة الخليج العربي.

من هنا تضحى صناعة السياحة، ولا نقول العملية السياحية، فالسياحة صناعة كاملة وليست مجرد زوار موسميين فقط، انه بناء وتشييد لبنى أساسية، ولطرق ومواصلات، ولمساكن ومصانع خدمية، ولأيادٍ عاملة، ولبشر يعدون بالملايين منهم من يهرب من قسوة البرد في أوروبا وآسيا ليجد الدفء الخلاق، ومنهم من يفر من الصيف القائظ ليجد الموسم السياحي لا سيما في صلالة.

يضيق المسطح المتاح للكتابة عن اقتصاد 2040 غير انه وباختصار غير مخل رؤية تنموية للتحليق في آفاق العالمية بأجنحة أجيال عمان القائمة والقادمة معا.