1261719
1261719
المنوعات

رسائل إلى كارلا.. أسئلة الكتابة الجارحة

08 يوليو 2019
08 يوليو 2019

عمّان - «العمانية»: «رسائل إلى كارلا»، عنوان الكتاب الصادر حديثًا عن «الآن ناشرون وموزعون» بعمّان، للشاعر والفنان التشكيلي التونسي الأمجد بن أحمد إيلاهي.

وكارلا هي المرآة أو الظل الذي يناجيه الكاتب، وربما هي الوطن أو صورة الآخر، وفي كل الأحوال هي الاسم السرّي للوجع الذي يبثه إيلاهي في موجات الفضاء حينما تجرحه الوحدة ويحزّ قلبه الحنين والألم الذي يفرد جناحيه على مساحة البلاد العربية، والوحش الإمبريالي الذي يمضغ بمسنناته عظام الناس. ورسائل إيلاهي لا تشبه رسائل عبد الحميد الكاتب في إنشائها الثقيل لإيقاع الدواوين وبروتوكولاتها الرسمية، وصناعة بلاغة الإطناب، ولا تشبه رسائل غادة السمان لغسان كنفاني أو رسائل مي زيادة أو حتى رسائل سارتر لسيمون دي بوفوار، فهي ليست مراسلات متبادلة، بل تمثل صوتًا من جهة واحدة، يتلاشى في الكون ويذوب فيه، دون أن يلقى ردًا أو جوابًا.

وهي رسائل كُتبت للمرأة المتخيَّلة «كارلا»، وربما أن الكاتب رآها للحظة أو تهيأ له ذلك، ولكنها في كل الأحوال كُتبت للجمع وليس المفرد، وأُرسلت إلى لا أحد، لأنها رسائل لا ترتجي إجابات، بل هي إجابات ناجزة لأسئلة جارحة ومستفزة، ولا تقل عن الرسائل استفزازًا تلك المقدمة التي كتبها الشاعر والروائي التونسي سامي نصر بنصل سكّين على راحة يده.

وربما تنتمي هذه الرسائل إلى الوجدانية التي يبثها الشاعر للغائب الموجع والوجع الحاضر فيه، يهدهد أحزانه، ويهدهد أحزاننا حينما يتشابه طعم الوجع في حلق القارئ والكاتب على حد سواء.

وفي تلك الرسائل، يدوّن إيلاهي أسطورته باسم «كارلا» التي تتماهى مع الوطن والأم، وهو يكتب تلك الصور بحسّ الرسام الذي يحفر بالسكّين بروح الشاعر وقلب المقاتل، وبين تلك الصفات والأسماء تتبدّى التناقضات، ليكون الواحد في صورة المتعدد بتناقضاته وتضاداته، كما يقول: «أنا كل هؤلاء واحدًا واحدًا، بمفردي، فتعَدّدي ليستقيم الحوار». فالتناقض هو الذي يمثل الوعي كما يقول: «لست شخصًا واحدًا لأكون على الوتيرة نفسها والمزاج، أنا أكثر من شخص». وهو بحسب ما يصف نفسه: «راعٍ ومتمدن وآخرون كثر»؛ الراعي الصارم الغاضب من الطريق التي أدمت أقدامه الحافية، غليظ الصوت، الحزين، وهو الحضاري في الصورة الأخرى، ذلك الذي ربّته المدن الكثيرة بما رأى وجرّب وعرف من طباعها المخاتلة.

ويكتب إيلاهي عن الصحراء التي تحضنه ولكنها تمتد من داخله، ويكتب من مكان، ولكنه يعيش بظلال سيكولوجيةِ المكان الأول الذي أصابه بجرحٍ ومقتل. كما يكتب عن الحب والشعر بتعريفات طازجة كفاكهة قُطفت للتو عن صدر أمها الشجرة، وأحيانًا تكون تلك الفاكهة واخزةً كالصبر أو ساق الوردة، تدمي اليدين وتترك أثرها في الروح.

ويشتق إيلاهي من خلال تلك النصوص جُمَلَه ومفرداته وتشبيهاته الخاصة التي تحمل ملامحه وجوانياته، وتنطوي على مفارقة للسائد ووخزٍ له، ومنها: «عرس الذئب»، و«كتبة قصف عشوائي»، و«وجوه الخشب لا تصدأ»، و«الناس يكذبون بقوة مائة حصان»، و«أرجم الوقت بالحجارة»، و«السراب لا يصبح ماء ولو نفق البعير»، و«اليد الواحدة لا تصفّق ولكنها تصفع وتصافح». ويذهب الكاتب إلى تعريفات خاصة به، ومنها: «الحب لعنة الطيبين وأصفاد الشعراء»، و«الشعر تابع لهذا الوحش الموغل فينا، نصلًا بعد نصل، ورصاصة بعد أخرى». أما الثورة كما يراها، فهي: «حلم رومانسي يقطفه الكائن من صفحة السماء نجمةً نجمةً»، فالثورة والشعر والحب أبناء حكاية واحدة، وأمُّهم الحب. ويضيف: «الحبُّ ليس خُرافةً أو أحجية، وليسَ مملوكًا بسوقِ نخاسةٍ، نبتاعهُ لنُذِلّهُ. هو ما لا يمكنُ حصرهُ في الوقتِ مثل حياتِنا». أما الثورة فهي «شأن لا علاقة له بالتوحش والقتل والخراب الذي نراه اليوم»، ويتابع الكاتب مخاطبًا كارلا: «عليكِ أن تعلمي أن الحب هو الشيء الوحيد يا كارلا الذي لا تمنحه الصحراء، ولن تفعل».

في رسائل الأمجد بن أحمد إيلاهي الكثير من الشعر والسرد والألم والوجع، والمعنى والوصف والتصوير الحسي والنفسي، وهو ما يجعلها صفحات تتراءى عليها صورنا، لا مجرد مرايا للكاتب وعوالمه الضاجّة بالحياة والتأمل.

ويستعير إيلاهي من الفيلسوف الألماني فريدرك نيتشه قوله: «إن الفنُّ يقول لنا لكي لا تقتلنا الحقيقة»، ويضيف: «وأنا أعمل للشّعر وبه وله، وما دون ذلك فهو ترفيه، والشّعر بالنّسبة لي أسلوبُ حياة وأكثر، وأداة مقاومة لمن لا مسدّس له سوى العقل والذّائقة.. الشعر هو ملاذنا الوحيد بعد أن احتلّتنا الإمبرياليّة، والشّعر هو البوصلة للخروج من دائرة الموتى الأحياء -وهم أغلبية- في عالمنا العربي المرير، وهو محرار الحياة للقلّة من قرّاء الشعر ومريديه في كل زمان ومكان».

يشار إلى أن إيلاهي يعمل في سلطنة عُمان أستاذًا في الفنون التشكيلية، وهو خريج المعهد العالي للفنون الجميلة بسوسة (تونس)، صدر له في الشعر: «مسافات ديمقراطية»، و«يساري الهوى قلبي»، و«لا وقت لي».