أفكار وآراء

انهيار الأيديولوجيات في العالم العربي

06 يوليو 2019
06 يوليو 2019

ماجد كيالي -

لزمن طويل، استهلك معظم القرن العشرين، ظلت الأيديولوجيات الكبرى، اليسارية والقومية والدينية، بمثابة المتحكّم الأساسي بإدراكات القوى السياسية والتيارات الفكرية السائدة في العالم العربي، وبالمجادلات والمنافسات والصراعات الأيديولوجية فيه، وذلك على حساب الحركات السياسية المتعلقة بمصالح الناس وعلاقاتهم وتنمية مجتمعاتهم. ومعلوم أن الأيديولوجيات المذكورة تمحورت حول ما اعتبر بمثابة «القضايا الكبرى» (الوحدة والاشتراكية ومصارعة إسرائيل والإمبريالية)، على حساب حقوق المواطنة المتعلقة بالحرية والكرامة والديمقراطية، وعلى حساب إقامة الدولة بما هي دولة مؤسسات وقانون ومواطنين.

على ذلك فإن المشكلة في تلك الأيديولوجيات أنها قلّ ما قاربت الواقع السياسي، أو المعطيات المنبثقة عنه، بمعنى أنها بقيت مجرد مجادلات نظرية، يقف كل طرف فيها، إزاء الآخر، متمترسا وراء ما يعتقد أنها الحقيقة، وأنها عدته الأيديولوجية. هذا يشمل تيارات العلمانيين والمتدينين واليساريين والليبراليين والقوميين والوطنيين والديمقراطيين، على التمايزات داخل كل تيار منهم، كأن تلك التيارات أضحت بمثابة أديان أرضية أو اتخذت سمات هوياتية ثابتة ومطلقة.

المشكلة، أيضا، أن كل تيار من التيارات المذكورة، لم يقم بتفحّص بديهياته، بناء على التجربة التاريخية ومعطيات الواقع، ولم يلاحظ التناقضات التي تكتنف اليقينيات التي يعتقد بها، بل ويلجأ إلى التغطية عليها أو حتى تبريرها، ظنا منه أن أي تنازل من قبله، أو أي مراجعة نقدية لأفكاره قد تؤدي الى انهيار العمارة النظرية التي بنى عليها هويته أو كينونته.

مثلاً، فقد تأسست الفكرة اليسارية على تشكّل المجتمعات من طبقات، حيث الوضع الطبقي يحدد الوعي الاجتماعي، كما تأسست على تقدمية الطبقة العاملة، وأكثريتها، وضرورة توفير العدالة الاجتماعية للجميع، والمساواة في الملكية، وفي العوائد الإنتاجية. لكن مشكلة اليسار، في بلداننا، أنه لم يلاحظ أن هذه الفكرة هي ابنة المجتمعات الصناعية، في حين أن مجتمعاتنا ظلت تفتقر للصناعة، وللتقسيمات الطبقية التي تنشأ عنها. طبعا ليس الغرض هنا التقليل من قيمة أو نبل أو ضرورة العدالة الاجتماعية، وإنما التنويه إلى أن الأيديولوجيا التي تأسست عليها تلك الأحزاب لم تكن منبثقة من رحم الواقع الاقتصادي والاجتماعي في بلداننا ومجتمعاتنا.

ومثلا، فمن المعلوم أن مساهمة الناتج الإجمالي للصناعة التحويلية في العالم العربي تبلغ 8.8 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، في حين أن قيمة مساهمة الصناعة الاستخراجية تبلغ 40 بالمائة، أي أن الاقتصاد العربي يتأسس أصلا على صناعة النفط أو الريع النفطي. الأهم من ذلك، والأكثر دلالة، أن نسبة العاملين في الصناعة (الاستخراجية والتحويلية) في العالم العربي تبلغ حوالي 17 بالمائة من حجم القوة العاملة، بينما نسبة العاملين في قطاع الخدمات تبلغ 60 بالمائة. وطبعا فإن هذا الكلام لا ينفي التمايزات الطبقية في العالم العربي، ولكنها دعوة لتبيّن كنهها وحجمها ودلالاتها، ومن ضمن ذلك معنى الحديث عن الطبقة العاملة وحزبها وطليعتها، وتصور نمط الوعي الذي تنتجه اصطفافات طبقية من هذا النوع.

وعلى أية حال فقد شهدنا انهيار الأيديولوجيا الشيوعية، إن مع انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية، أو بسبب انكشاف الأحزاب اليسارية في خوائها وتماهيها مع السلطات السائدة.

ومن جهتها فإن الأيديولوجيا القومية انهارت، أو ذهبت للأفول، بسبب استنادها إلى المثال البسماركي، أو الدولة المركز، واعتمادها على عنصري اللغة والثقافة المشتركة، وعدم اتكائها، في المقابل، على المصالح والبني الاقتصادية، وعلى تطور الدولة والمجتمع في البلدان العربية. وقد شهدنا أن الدولة القومية العربية لم تنجح في التحول إلى دولة مؤسسات وقانون لاعتمادها على مؤسسة الجيش والتسلط، وأنها لم تستطع أن تلبي حقوق المواطنين، هذا فضلا عن أنها لم تنجح لا في الوعد بتحجيم أو تقويض إسرائيل، ولا في وعدها بإقامة دولة عربية. وفي الأخير فإن الفكرة القومية لم تراع واقع نشوء الدولة الوطنية، وتشكل المجتمعات الوطنية، والمصالح الناشئة عن ذلك، ولم تراع في اعتبارها امكانية التحول التدريجي نحو تكامل المصالح، على نحو ما يمهد لإقامة اتحاد كونفيدرالي، أو فيدرالي، عربي مثلا، كما أن الفكرة القومية بدت متعصبة، واستعلائية وإقصائية إزاء الإثنيات أو القوميات الأخرى في البلدان العربية، في المشرق أو في المغرب أو في السودان.

أما التيارات الإسلامية، فشهدت مع موجة الربيع العربي انحساراً في نفوذها وصدقيتها، على عكس التصورات التي سادت عن ربيع إسلامي، والحديث يدور هنا عن تيارات الإسلام السياسي، لا عن الإسلام كدين، وهذا ما يجب تمييزه رغم محاولة معظم تلك التيارات التماهي بينها وبين الدين، وإظهار أن أي نقاش في مواقفها كأنه نقاش في الإسلام ذاته. واللافت أن أفول تلك التيارات لم يحصل بسبب صعود التيارات العلمانية أو القومية أو اليسارية أو الليبرالية في العالم العربي، أو خارجه، وإنما حصل بسبب تخلف تيارات الإسلام السياسي عن إدراك الواقع، ومعاندتها التكيّف مع العصر والعالم، وانتهاج القوى المتصدرة منها للعنف، وسيادة روح التعصب والتطرف، كما حصل بسبب تنافساتها، واقتتالاتها بين بعضها، أي إنها أضعفت نفسها بنفسها، مع علمنا أن الحديث عن إسلام سياسي يلحظ وجود تيارات مختلفة فيه، فثمة تيارات معدلة ومتطرفة، جهادية ودعوية، سلفية وصوفية.

ذهاب أو أفول الزمن الأيديولوجي لا يعني بالضرورة أن الايديولوجيات انتهت، فهذه ستبقى تنافح عن مكانتها في عالم يموج بالاضطراب وانعدام اليقين، لكنه يعني بالضرورة حث الخطى للانتقال من عالم الأيديولوجيات، الهوياتية المغلقة، إلى عالم الأفكار، أي العالم الذي يتأسس على العقلانية والواقعية وعلى المصالح المحسوسة للناس لا المتخيلة أو المتوهمة.