أفكار وآراء

فوائد «الرأسماليّة التقدّميّة»

05 يوليو 2019
05 يوليو 2019

ترجمة: رفيف رضا صيداوي -

يَعتبر الخبير الاقتصاديّ الأمريكي جوزيف ستيجليتز Joseph E. Stiglitz، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد 2001، أنّ الاشتراكيّة الديمقراطيّة مُغرية من نواحٍ عدّة؛ وأنّه ليس من المُستغرب أن يمضي الرئيس ترامب الكثير من الوقت في توجيه النقد إليها.

في ما يلي نصّ مقالة ستيجليتز المنشورة في 8 (مايو) 2019 في صحيفة «واشنطن بوسط» الأمريكيّة، التي اقتَطفت دوريّة «كورييه إنترناشيونال» الفرنسيّة هذا النصّ منها، وذلك في عددها الصادر في 16-22 (مايو) 2019.

منذ بداية الربيع، يُهاجم الرئيس ترامب النائبة في البرلمان الأمريكي ألكسندريا أوكازيو-كورتيز، والسيناتور بيرني ساندرز، اللّذَين يُطالبان بتسميتهما اشتراكيَّين ديمقراطيَّين. وهو - أي ترامب- لا يتردّد في تشبيههما بالرئيس الفنزويلّي نيكولاس مادورو. والحال أنّ لا أحد في الولايات المتّحدة يمدح تأميم مَناجم الفحم أو حقول البترول أو يعمل على التعظيم من شأنه. فترامب هو بصدد إدارة حملة تشهير على الطراز القديم فحسب، مُمارسا بذلك، وعن طيب خاطر، البلبلة من أجل إثارة النّاخبين بشكل أفضل ضدّ هذه الاشتراكيّة الجديدة.

أفضِّل استخدام عبارة أخرى، وهي «الرأسماليّة التقدّميّة»، وذلك من أجل توصيف إرادة مُواجَهة تجاوزات المَراكز الماليّة، وإحياء التوازن بين الأسواق والحكومة والمجتمع المدني، بحيث يغدو بمقدور الأمريكيّين جميعهم أن يشكّلوا جزءا من الطبقة الوسطى. هذا المصطلح يطرح حقيقة أنّ الأسواق والمؤسّسة الحرّة لا تنفصلان عن اقتصاد مزدهر، لكنّه يُدرك كذلك أنّه، من دون ضوابط، لا تكون الأسواق فعّالة أو قويّة، ولا تشكّل ضمانات للاستقرار أو العدالة.

ليس من المُستغرب أن تُفضي الرأسماليّة في تطرّفاتها واختلالاتها إلى سؤال مفاده: هل يُمكن للرأسماليّة أن تُنقِذ نفسَها بنفسِها؟

هل من المحتّم أن يقود إغراء الربح، الذي تؤدّي إليه الرأسماليّة، إلى زيادة غير محدودة في أجور كِبار المديرين أو أصحاب المؤسّسات؟

وهل يُمكن لذلك أن يؤدّي إلى أن تَستخدِم الثروات الكبرى تأثيرها السياسي بغية تشكيل ضرائبنا بشكلٍ يسمح للأكثر ثراء بدفع ضرائب أقلّ نسبيّا من تلك التي يدفعها الآخرون كلّهم؟

الرأسماليّة التقدّميّة قادرة، بحسب ظنّي، على إنقاذ الرأسماليّة من نفسها، شرط أن تتوافر لدينا الإرادة السياسيّة.

في السنوات الأربعين الأخيرة، بيَّن البحث لماذا لم تستطع الأسواق وحدها تقديم فوائد اقتصاديّة للجميع؛ حتّى أنّ آدم سميث، أبو الاقتصاد الحديث، كان قد أقرّ بأنّه في غياب التنظيم، تتعارض المؤسّسات مع المصلحة العامّة، وذلك من خلال زيادة الأسعار وتخفيض الأجور.

وهذا على الرّغم من أنّه - أي سميث- كان قد أكَّد أنّ الأسواق يُمكنها أحيانا الإسهام، كيدٍ خفيّة، في رفاه المجتمع.

اليوم، بتنا نعلم لماذا لا تفي الأسواق، في الغالب، بوعودها، ولماذا تكون يد سميث الخفيّة، في الغالب، غير مرئيّة: الجواب هو لأنّها غير موجودة.

بفضل النظريّات الحديثة في التنظيم الصناعي، بتنا نعرف من الآن فصاعدا، أنّ المؤسّسات مُستعدّة لأيّ شيء من أجل إحكام هَيمنتها على الأسواق. بعد عشرين سنة من الدخول في هذه الألفيّة الجديدة، الأدلّة التجريبيّة دامغة بهذا الخصوص: ثمّة تمركزٌ مُتزايد في القطاعات كافّة، وازدياد في الأرباح وفي هوامش الربح، وأسعار أكثر فأكثر ارتفاعا.

الاشتراكيّون الديمقراطيّون الأمريكيّون يتموقعون قليلا، وعلى الأرجح، على يمين الاشتراكيّين- الديمقراطيّين الأوروبيّين؛ فهؤلاء، وببساطة، ينصحون بنموذجٍ يولي اهتماما كبيرا لدَور الحكومة في الحماية الاجتماعيّة والأيكولوجيّة، وللاستثمار العامّ في البنى التحتيّة، والتكنولوجيا، والتربية. وهُم على دراية بحقّ المواطنين في الحؤول دون استغلال المؤسّسات الكبرى للزبائن أو العاملين بشتّى الطُّرق، سواء تمّ هذا الاستغلال عبر جمْع البيانات الشخصيّة من قِبل عمالقة الإنترنت، أم عبر القيام بمُخاطرة ذات شأن، على غرار ما حصل مع البنوك قبل الأزمة الماليّة للعام 2008.

بالتأكيد، فإنّ هذه الإصلاحات المخصَّصة لمنْع هذا النَّوع من التجاوزات ومن أجل زيادة الاستثمارات العامّة، في مجال العلوم والتكنولوجيا مثلا، سوف تغذّي النموّ بشكل مُستدام، لكنّ ذلك لن يكون كافيا للسماح لجميع الأمريكيّين بالوصول إلى الطبقة الوسطى.

لذا، يقترح الاشتراكيّون الديمقراطيّون أيضا إصلاح التعليم (وتحديدا حلّ مسألة الدَّين الطلّابي الذي يرتفع إلى 1500 مليار دولار أمريكي)، وسياسة السكن، ونظام التقاعد، وتحقيق فرصة الحصول على وظيفة لكلّ القادرين على العمل. لدى جيلي مَيلٌ إلى نسيان أنّ الحرب الباردة انتهت منذ ثلاثين عاما مع سقوط حائط برلين. عصر الصراعات الأيديولوجيّة المريرة انتهى منذ زمن طويل.

الشباب يتفاعلون بطريقة براغماتيّة مع تسمية «الاشتراكيّين الديمقراطيّين». فإذا كان ذلك يعني تأمين حياة لائقة لجميع الأمريكيّين، فهُم إذن معها. وإذا كان ذلك يعني التفكير بالمستقبل- عبر النضال ضدّ التغيّر المناخي-، فهُم يتبنّون هذا التوجّه أيضا.

يقول البعض، ممَّن هُم من اليمين، إنّ الأمر يتعلّق بنسخة حديثة معدَّلة من الشعبويّة الاقتصاديّة.

هذه الاشتراكيّة الجديدة هي في الواقع شعبيّة للغاية: عدد مهم من أفكارها يَلقى دعما وتأييدا من أغلبيّة الأمريكيّين، وبخاصّة الشباب منهم. لكنّ الأفكار هذه قابلة أيضا، على الصعيد الاقتصادي، للتطبيق. فالاستثمارات والتنظيمات المُقترَحة، على اختلافها، تغدو ضروريّة في حال نريد ازدهارا مُستداما للجميع.

تبقى الديمقراطيّة نقطة أساسيّة في برنامج الاشتراكيّين الديمقراطيّين. فالديمقراطية لا تقتصر حصرا على تنظيم الانتخابات كلّ أربع سنوات. إنّها تستلزم نظامَ قوّة مُضادّة- للتأكّد من أنّ لا أحد، حتّى رئيس الدولة، يركّز السلطات كلّها بين يديه - فضلا عن القناعة العميقة بأن لا أحد يعلو على القوانين.

لكنّ الديمقراطيّة هذه تعني أيضا السماح بتمثيل عادل؛ ذلك أنّ نظاما يُثني النّاخبين، عن قصد، عن التصويت، ويُمارس الغشّ الانتخابي لغايات سياسيّة، وحيث الحياة السياسيّة فيه محكومة بالمال، وحيث يُمكن لأقلّيّةٍ أن تصعد متجاوزةً الأكثريّة، إنّ نظاما كهذا هو مناقضٌ للديمقراطيّة.

أيّاً كان اسمها، فإنّ هذه الاشتراكيّة الجديدة جذّابة من نواح عدّة. وليس من المُستغرَب أن يمضي الرئيس الكثير من الوقت لنقدها.

المقال ينشر بالاتفاق مع مؤسسة الفكر العربي