الملف السياسي

أوساكا.. الاقتصاد قبل السياسة أحيانًا

01 يوليو 2019
01 يوليو 2019

إميل أمين -

هو حدث استثنائي ولا شك؛ ذلك أن اجتماع أكبر عشرين قائد من أكبر البلدان، في الفترة من 28 إلى 29 من يونيو الماضي؛ بهدف اتخاذ إجراءات منسقة بشأن التجارة والبيئة وقضايا أخرى، أمر لا يحدث كل يوم.

لماذا الاجتماع هذا العام يكتسي أهمية خاصة وغير مسبوقة؟

ربما هناك مخاوف حقيقية من أن يكون الاقتصاد العالمي على مقربة من كارثة متجددة تذكر العالم بما جرت به الأقدار عام 2008م، من جراء أزمة البنوك الأمريكية، تلك التي أدت إلى موجة قاتلة للعديد من اقتصاديات العالم المتقدم.

يعن لنا أن نذكر القارئ غير المتخصص بأن تلك المجموعة القريبة من المنتدى تأسست عام 1999م من جراء الأزمات المالية التي ضربت العالم كذلك في التسعينات، ويمثل هذا المنتدى ثلثي التجارة في العالم، كما تمثل الدول المشاركة أكثر من 90% من الناتج العالمي الخام.

ما الهدف من مجموعة العشرين بشكل عام؟

يمكن القطع بأنها تهدف إلى الجمع الممنهج لدول صناعية ومتقدمة مهمة؛ بغية نقاش قضايا أساسية في الاقتصاد العالمي، والأعضاء الحاليين فيها يمثلون نحو 62% من سكان العالم.

جاء عنوان القمة هذه المرة: «أهداف التنمية المستدامة والغذاء»، وهي لافتة تعمل على تعزيز أهداف التنمية المستدامة الـ 17 التي تتطلع الأمم المتحدة إلى تحقيقها بحلول عام 2030م، ومن المنتظر أن يتم إجراء العديد من المناقشات البناءة المتعلقة بالغذاء على مدى سنين، وهي أهم حاجة للبشر، بالتركيز على جميع التحديات الغذائية مثل إدخال المواد المركبة وخفض أسعار الحبوب التي تسبب أضرارا كبيرة للمزارعين، وكذلك للناس العاديين.

يتساءل البعض: هل قمة من هذا النوع ذات طابع اقتصادي، يمكن أن تكون لها أهمية أكبر من القمم ذات الملمح والملمس السياسي؟

أغلب الظن أن الجواب يجعلنا نستدعي ما أشار إليه الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت ذات مرة من أن الجيوش تمشي على بطونها، والحقيقة أن الجيوش ليست هي وحدها التي تفعل ذلك بل الشعوب أيضا، كما أن حروب العالم الجديد لم تعدْ حروبا سياسية بأكثر درجة من كونها صراعات سياسية تبغي الامتلاك الاقتصادي والسيادة والهيمنة على مقدرات العالم والآخرين، ومن هنا تطفو على السطح معاني النفوذ الاقتصادي، وتقاطعاته مع الحضور السياسي العالمي.

قمة أوساكا في واقع الحال وهذه المرة لها كان لها معنى متميز لا سيما في ظل صراع حاد انفجر بين الولايات المتحدة الأمريكية، القطب الدولي القائم والذي يكاد أن ينفرد بمقدرات العالم اقتصاديا من جهة، وبين الصين القطب القادم والذي يسعى حثيثا لاختراقات بطول العالم وعرضه، ويحقق في ذلك نجاحات على كافة الأصعدة، لا سيما السياسية، حيث يسخر الصينيون فوائضهم المالية من أجل المزيد من الانتشار وتحقيق الامبراطورية الممتدة الأطراف، وإقامة توازن الردع النقدي لا النووي.

أما عن القضايا التي نوقشت من قبل قادة مجموعة العشرين فتبدأ من المشهد الإجمالي للاقتصاد العالمي بالطبع، إلى التجارة والاستثمار، والبيئة والطاقة، والأيدي العاملة، والتوظيف وتمكين المرأة، والتنمية المستدامة، وقطاع الصحة وعلاقته بالاقتصاد، وكلها مسائل محورية، بعضها يواجه كثيرا من المشكلات والعقبات، وبعضها الآخر حقق بعض التقدم هنا أو هناك، ومن القضايا التي تتساوى في الأهمية مع مشكلات الاقتصاد العالمي ككل، ما أصبح يعرف بـ«رقمنة الاقتصاد»، وهذه النقطة باتت مهمة منذ سنوات، مع ارتفاع عدد الدول التي لا تزال بعيدة عن هذا الميدان؛ فـ«الرقمنة» تدعم تلقائيا التنمية بصرف النظر عن وضعية البلد الاقتصادية، كما أنها تضمن عدالة توفرها الشفافية في أدوات هذه «الرقمنة»، ببساطة، إنها تحل مسائل عديدة دون الحاجة إلى فترات طويلة لحلها.

ولعل الذين قدر لهم إلقاء نظرة على موقع قمة العشرين يدركون أن المخاوف حول حال ومآل التجارة العالمية تكاد تضحى هاجسا مسيطرا على الجميع، وهناك مخاوف من أن ينحو التعاون الدولي إلى صراع أممي وجماهيري، صراع يقع ضحيته الجميع، وإن كان فقراء العالم تحديدا هم من سيدفع ثمنه في الحال والاستقبال.

في مقدمة الملفات تتصدر بقوة موضوعات الاقتصاد الجديد، مثل الابتكارات وعلاقاتها بالتقنية، وعلاقة القطاع الصحي بأحوال الاقتصاد العالمي، وإشكالية إرساء أسس اقتصادية لتحقيق نمو مستدام وشامل للاقتصاد العالمي ومن هنا تأتي أهمية الملف الخاص بالتجارة الدولية والاستثمار، كمحركات رئيسية للنمو والابتكار، إضافة إلى ملف سوق العمالة، وهو الملف الذي يهم الكثير من دول العالم.

ولعل أهم ما يواجه مجموعة العشرين هي أنها تكاد تكون على مقربة من زمن الاستقطابات الاقتصادية والتي لم تعد أقل ضراوة من نظيرتها السياسية، بل إنها تكاد تشعل حروبا بعينها لا يستطيع المرء أن يخفيها عن الأعين.

في تصريح مثير يقول مدير عام منظمة التجارة العالمية «روبرتو ازيفيدو» في 20 يونيو الماضي: «إن أعضاء المجموعة يأملون في أن تساعد قمة مجموعة العشرين في تخفيف حدة التوتر التجاري»، وفيما يبدو فقد استخدم «ازيفيدو» تعبيرا أقل حدة مما هو جارٍ اليوم بين الولايات المتحدة الأمريكية والقوى الاقتصادية الكبرى مثل الصين وأوروبا والهند؛ إذ إن الحاصل اليوم هو صراع تجاري دولي يدفع إلى نوع من أنواع المنافسات شديدة الوقع في الساحة الدولية، ويأتي في مقدمتها الاستقطاب الأوروبي الأمريكي.

هل هي قمة فض المنازعات التجارية أو أقرب ما تكون من هذا التوصيف؟

الشاهد أن العولمة الاقتصادية قد عانت في الوقت الحاضر من انتكاسات وتأثر نظام التعددية من قبل أطراف مختلفة، ولم تكن رغبة التنسيق لدى فرادى الاقتصادات الرئيسية كافية، وضعف زخم التعاون الدولي، لا سيما أن مجموعة العشرين تواجه تحديات جديدة وتتحمل المسؤولية التاريخية المتمثلة في الترويج المشترك للتنمية القوية والمستدامة والمتوازنة والشاملة للاقتصاد العالمي.

منذ وقت غير بعيد أشارت كريستين لاجارد، مدير عام صندوق النقد الدولي، إلى أن الأولوية القصوى لواضعي السياسات في مجموعة العشرين تتمثل في تخفيف حدة التوترات في الآراء بشأن كيفية تعزيز قواعد منظمة التجارة العالمية، وإنشاء نظام تداول حديث أكثر انفتاحا واستقرارا وشفافية.

يتوقع العالم من مجموعة العشرين أن تبدي شجاعتها وأن تظهر رؤيتها الاستراتيجية وتعزز التنمية الصحية للاقتصاد العالمي.

في أواخر شهر يونيو الماضي نشر موقع «بروجكت سنديكت» العالمي مقالا مهما لرئيس الوزراء الياباني «شينزو آبي» والذي عقدت القمة على أراضي بلاده يلفت النظر فيه إلى توجهات الاقتصاد العالمي، لا سيما أن الرجل يؤكد فكرة انتقال قلب العالم من أوروبا إلى آسيا ونحن على مشارف العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.

ولعل المثير في قراءة رئيس وزراء اليابان هو أنه يشير الى أهم تجارة أو سلعة في العقود القادمة، وكيفية التعاطي معها، والرجل هنا لا يتحدث عن أشياء مادية يمكن قياسها بالكم، لكنه يتناول في معرض رؤيته إشكالية البيانات والمعلومات، وهي السلعة الأكثر أهمية في عالمنا القادم دون أدنى شك.

تدعو اليابان بحسب «آبي» إلى التدفق الحر لبيانات مع الثقة، وهو نهج يحاول السماح بالتدفق الحر للبيانات بموجب قواعد يمكن للجميع الاعتماد عليها. ويدعو العالم لإعداد القواعد الكفيلة بتمكين الفوائد المترتبة على الاقتصاد الرقمي من الانتشار إلى الجميع في آسيا وفي مختلف أنحاء العالم، ويسمي العملية المفضية الى تحقيق هذه الغاية عملية «مسار أوساكا».

يواجه المضيف سؤالا جوهريا جهة مشكلة الحمائية، تلك التي تنزع إليها الدول والأوطان من أجل حماية صناعاتها المحلية، لكن الأمر في الوقت عينه يؤثر تأثيرا سيئا جدا على مقدرات التجارة العالمية، ولهذا بات السؤال ماذا ينبغي لنا أن نفعل؛ لكي نعيد إلى منظمة التجارة العالمية أهميتها وتأثيرها مرة أخرى كحارس للتجارة الدولية الحرة والعادلة؟

الواقع، إن سلاسل الإمداد الكبرى التي تقود الاقتصاد العالمي منذ سنوات باتت عديدة راسخة الآن في المنطقة التي تضم البلدان الأعضاء في رابطة دول جنوب شرق آسيا، وقد استفادت اقتصادات المنطقة من بيئة، حيث يتدفق الناس والسلع الى الداخل والخارج بحرية، وهذه الحرية على وجه التحديد هي التي تفسر دينامية دول جنوب شرق آسيا وازدهارها المتزايد.

ترتبط البيئة بأوضاع الاقتصاد العالمي ارتباطا جذريا؛ ولهذا فإن الجميع يستصرخ من أجل حماية أيكولوجية واضحة المعالم، للبر والبحر والجو.

في السادس من مارس الماضي تلقى رئيس وزراء اليابان ست توصيات من لجنة «علماء الـ 20»، التي أُنشئت بوساطة أكاديميات العلوم الوطنية في بلدان مجموعة العشرين، بهدف الحد من المخاطر التي تهدد النظم الأيكولوجية البحرية والحفاظ على البيئات البحرية.

هنا تحث التوصيتان الأخيرتان على «إنشاء نظام محسن لتخزين البيانات وإدارتها على النحو الذي يضمن تمكين العلماء على مستوى العالم من الوصول إليها بسهولة، فضلا عن تبادل المعلومات المكتسبة من خلال الأنشطة البحثية التي يجري تنفيذها في ظل تعاون مكثف ومتعدد الجنسيات، للتعجيل بالتوصل الى فهم شامل للمحيطات العالمية وديناميكيتها»، ولهذا السبب وعلى وجه الحديد يتعين على الجميع السماح بتدفق البيانات بطريقة حرة مع الثقة، ويعني مفهوم الثقة هنا ألا تتحول القضية إلى براجماتية غير مستنيرة، من خلال استغلال المعلومات لصالح جانب دون الآخرين، بل العمل على تحويل البيانات إلى منافع عامة يستفيد منها العلماء في مختلف أنحاء العالم.

هل كانت أوساكا هي قمة استعادة روح مجموعة العشرين المفقودة؟

هذا ما يراه البعض، وهناك تخوفات بشكل خاص من أن الولايات المتحدة تحاول على الأرجح الانجراف إلى تدابير الحمائية، لكن دول مجموعة العشرين الأخرى لا بد لها من أن تستغل نتائج المناسبة لتمضي في مصلحة التجارة الحرة، والسعي إلى نشر مفاهيم العدالة الاجتماعية، والعمل بعزم وحسم على تقليل حالة الفقر حول العالم، وأن تمد الاقتصاديات الكبرى يد العون لتلك النامية، هذا إن أرادت المجموعة السعي في طريق عولمة مؤنسنة إن جاز التعبير.