أفكار وآراء

أمريكا والشرق الأوسط.. إشكالية الرمال المتحركة

28 يونيو 2019
28 يونيو 2019

إميل أمين - كاتب مصري -

[email protected] -

يثير المؤلف نقطة جوهرية عن تغير سياسات أمريكا تجاه المنطقة، وكيف كانت في بدايات القرن العشرين لا تهتم إلا بالنفط ومن دون التدخل في سياسة الدول الشرق أوسطية، إلى الوضع الحالي .

هل هي مصادفة قدرية أم موضوعية أن يخرج هذا السفر الكبير الذي يزيد على ألف صفحة في هذا التوقيت الذي يعود فيه النقاش عاليا حول أمريكا وعلاقتها بالشرق الأوسط؟

السفر الذي نحن بصدده عنوانه «الرمال المتحركة.. سعي أمريكا إلى السيطرة على الشرق الأوسط»، ومن تأليف «البروفيسور «جيفري وورو» أستاذ التاريخ العسكري بجامعة تكساس الشمالية، ومن ترجمة الكاتب والإعلامي المصري الأستاذ صلاح عويس.

أفضل مدخل لفهم الكتاب ودلالات صدوره في هذا التوقيت هو كلمة المترجم التي يثير فيها تساؤلين على قدر كبير من الأهمية: السؤال الأول: ما الشرق الأوسط الذي يعنيه المؤلف؟

ذلك لأن سماوات القرن الحادي والعشرين، كما يقول الكاتب السياسي الأستاذ محمد الخولي في كتابه «الشرق الأوسط الكبير»، تطايرت فيها مسميات مبتكرة وشعارات مستجدة لتوصيف منطقة الشرق الأوسط ما بين الشرق الأوسط الموسع والشرق الأوسط الجديد، والشرق الأوسط الكبير، وبقدر الاختلاف في طرح هذه التوصيفات أو الغايات التي تستهدفها، كان الاختلاف أيضا من حيث آليات التنفيذ.

يذهب الأستاذ عويس إلى أن الإجابة عن هذا السؤال من بين ثنايا الكتاب، إذ نجده يتحدث عن ذلك القوس الكبير الممتد من المغرب حتى باكستان، دون أن يشير بالاسم إلى الشرق الأوسط الكبير.

وعنده كذلك أنه إذا ما استقر الرأي على هذه الإجابة يبرز السؤال الثاني وهو: من أي زاوية يتعامل صاحب الكتاب مع القضايا التي يطرحها؟

و وأضح من الوهلة الأولى أنه بطبيعة الحال ينظر من زاوية أمريكية محضة، وإن كان في أحيان كثيرة يوجه نقدا شديدا إلى زمرة المحافظين الجدد، وعلى الأخص الطغمة الحاكمة التي تحلقت حول الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن التي تسمي نفسها «آلهة النار والحديد»، نسبة إلى تمثال روماني ضخم في مدينة برمنجهام، مسقط راس كوندوليزا رايس مستشارة بوش للأمن القومي، يرمز لحرفة الحدادين الذين يطوعون الحديد بالنار.

هل من منطلقات يمضي منها المؤلف لفهم جدلية العلاقة ما بين الولايات المتحدة الأمريكية والشرق الأوسط؟

يمكن القطع بأن هناك محكات للسياسة الأمريكية في المنطقة كما يسميها الكتاب وهي الأمن والطاقة ودعم إسرائيل، واتساقا مع النهج الذي اختطه الدكتور «وورو» يبدأ الفصل الأول من كتابه بالجهود التي نجحت في دعم قيام إسرائيل، في الشرق الأوسط، مما يشير إلى الالتزام بالتسلسل الزمني للأحداث في جولة واسعة النطاق شملت كل المناطق الملتهبة في الشرق الأوسط، مرورا بالنفط العربي ودول الخليج العربي، ومصر عبد الناصر ومعركة السويس 1956 وحرب الأيام الستة 1967، وحرب أكتوبر 1973، وفضيحة إيران كونترا ونفط إيران، وظهور تنظيم القاعدة وحركة طالبان، وتورط الولايات المتحدة في الحرب على أفغانستان وحربين متتاليتين على العراق.

يثير المؤلف نقطة جوهرية عن تغير سياسات أمريكا تجاه المنطقة، وكيف أنها كانت في بدايات القرن العشرين لا تهتم إلا بالنفط ومن دون التدخل في سياسة الدول الشرق أوسطية، إلى الوضع الحالي .

يعتبر المؤلف أن المسالة العربية رمالا متحركة باضطراد، وقد كان السير ادوارد جراي وزير الخارجية البريطاني يبدي تذمرا في الوقت الذي كان القرن التاسع عشر يتحول فيه نحو القرن العشرين.

ومع بدايات القرن الحادي والعشرين أصبح المسؤولون الأمريكيون يشعرون بالألم نفسه للسير جراي، وينظرون إلى هجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية بشعور الصدمة والذعر، وربما بحثوا عن كتاب قد يشرح لهم كيف اكتسبت الولايات المتحدة مثل هذه الكراهية اللاذعة في الشرق الأوسط، وكيف تحولت الولايات المتحدة من القوة العظمى الوحيدة المقبولة من العرب، إلى دولة غير مقبولة على الإطلاق، على حد تعبير أحد ضباط الاستخبارات البريطانية في القاهرة في عام 1919.

يستحضر المؤلف مشهدا من الماضي ليقارب به واقع الحال الآني، ويدور حول السؤال الذي وجه للملك عبد العزيز آل سعود عاهل المملكة العربية السعودية ومؤسسها، في عام 1933، وكيف اختار الأمريكيين لا البريطانيين أو الفرنسيين أو الألمان الأكثر قربا لاستغلال حقول النفط في المملكة، ويومها أجاب الملك أنه اتخذ قراره بعد دراسة دقيقة لتصريحات وودرو ويلسون وللتاريخ الأمريكي، ومن ثم قرر اختيار شركة أمريكية فحسب لاستخراج نفطه.... لماذا؟.. لأن الأمريكيين يعملون بجد، ويحصلون على النفط دون التدخل في السياسة؟ السؤال الذي يضعه المؤلف أمام القارئ: « كيف انتقلت الولايات المتحدة من تلك النقطة غير المغرضة إلى الموقف الذي نحن فيه الآن حيث يبادر كل نظام - على حد تعبيره - في الشرق الأوسط بالفعل باستهجان التدخل الأمريكي سياساته وثقافته؟

يعِن لنا أن نتساءل ما الهدف من هذا السفر الكبير في هذا التوقيت؟

يستهدف الكتاب ملء الفجوة في تلك الأدبيات مع التحليل الدقيق لأمور ثلاثة هي:

أولا: دخول أمريكا إلى الشرق الأوسط

ثانيا: التأثير الثقافي والسياسي والعسكري الأمريكي على المنطقة.

ثالثا: الهزات العالمية التي انشقت من تصدعات ذلك التأثير.

يبدأ كتاب «الرمال المتحركة»، من فترة السيطرة الأوربية على الشرق الأوسط، لأن تلك العقود ما بين عامي 1915 و1956 خلقت توجهات متشددة تجاه السلطة والثقافة الأوربية التي تعقبت كل جهد أمريكي للنفاذ إلى المنطقة.

ويتناول كذلك بالبحث مدى مسؤولية القوى الأوروبية الإمبريالية القديمة نفسها عن أسوا ملامح الشرق الأوسط القديم المشوهة إلى حد لا يمكن محوه، وهي تلك القوى التي تجنبت الخطط الأمريكية من أجل «شرق أوسط جديد» في فجر القرن الحادي والعشرين. فكيف بالفعل تم تقييد أو تخريب السياسات الأمريكية بواسطة التراث البريطاني والفرنسي والألماني والإيطالي في تدبير المكائد في الشرق الأوسط في الفترة الحديثة، وكيف تبددت العلاقة الأمريكية في الشرق الأوسط بتأثير الأذى الذي الحقه بها الروس أثناء الحرب الباردة، يتساءل صاحب هذا السفر الكبير؟

يبحث كتاب « الرمال المتحركة » عما ألحقه السعي الأمريكي إلى اكتساب حقوق ومميزات تكتيكية في الشرق الأوسط منذ عام 1945 من آثار على مصالح أمريكا الاستراتيجية الأكبر والأضخم.

حاول المؤلف في عمله الكبير هذا كمؤرخ وضع خيارات أمريكا الحالية فوق ذيول الآثار التي قطعها الأداء السابق، وفي هذه المبادرة الحاسمة استلهم منطق المفكر الكبير المحافظ «ادموند بيرك» الذي يقول: «عندما تسوء الأمور نميل دائما إلى البحث عن أسباب تورطنا في هذه المصاعب، بل إلى البحث عن كيفية الخروج منها.. والى الرجوع إلى قدرتنا على الاختراع ونبذ خبرتنا»،

ومع ذلك يختتم بيرك مقولته بأن مثل هذا التفكير على طرفي نقيض من كل قواعد المنطق وكل مبدأ جيد للإدراك السليم.

أن دراسة التاريخ هي المفتاح «لتصحيح أخطائنا إذا كانت قابلة للتصويب، أو على الأقل لتجنب استطراد نسق خاطئ سخيف ونكبة لا تغتفر بتكرار الوقوع في الفخ نفسه».

يلفت الكاتب نظرنا إلى المؤرخ الانجليزي الكبير«ارنولد توينبي» الذي كتب تقديرات استراتيجية عميقة ورصينة واستشرافية لونستون تشيرشل بعد عام 1940، الذي يشير إلى أن الاستراتيجيين الأمريكيين أدركوا عدم إمكانية الاستغناء عن منطقة الشرق الأوسط بالنسبة لكلا الجانبين في الحرب العالمية الثانية، فهي تقع في القلب من قارات ثلاث هي أوربا وإفريقيا وآسيا.

وبعد إنجاز مشروع قناة السويس في عام 1869وتوفير خطوط الطيران بعيدة المدى في أوائل القرن العشين، ازدادت أهمية الشرق الأوسط باعتباره « أقصر طريق بين التجمعين البشريين الرئيسين الذي تكمن فيه القوة في عالم القرن العشرين»، بين عالم الهند وشرق آسيا والمحيط الهادئ وعالم أوربا وأمريكا والمحيط الاطلنطي.

ذات مرة قال « توينبي» « قيادة الشرق الأوسط حملت معها قوة فتح الطرق المباشرة بين هذين القطبين الجغرافيين او إغلاقهما او فرض فتحها من جديد «، وقد أدرك أمريكي في طهران خلال الحرب أهمية ايران لإبقاء روسيا على قيد الحياة اذ يقول: « إن الحجم الأكبر من المساعدات اللازمة لمساعدة روسيا على القتال والبقاء، يصل إليها عبر الخليج إلى عبدان ومن ثم بالقطارات الى اذربيجان، فكيف يكون حالهم دون الإمدادات الجوهرية التي نحركها اليهم عبر إيران؟».

يتعجب كتاب « الرمال المتحركة » من قدرة الاستراتيجيين الأمريكيين على الوقوع في الخطأ تحت تأثير الحرب الباردة في العادة في كثير من الأمور مثل « الحرب الطويلة ضد الإرهاب» أو الضغوط السياسية المحلية التي مارستها إسرائيل ولوبيات النفط والفائدة من استخدام القوات المسلحة الغربية في المنقطة باعتباره أمرا بالغ الأهمية.

وقد تأكد كل رئيس بدءا من ترومان وحتى كلينتون من أن إقحام القوات الغربية في منطقة الشرق الأوسط هو مجلبة للمشاكل....كيف ذلك؟

يذهب الكاتب إلى أن حرب السويس وحرب الأيام الستة وحرب يوم الغفران وعملية عاصفة الصحراء، شنت جميعها بناء على ستار خلفي من الشكوك. وقد عارض ايزنهاور الهجوم الانجلوفرنسي على السويس لأنه لم يرغب تحديدا في أن تدمر قوات غربية النفوذ الغربي بين شعوب الشرق الأوسط. وقد أبقى تدخله في لبنان في حدود صغيرة الحجم والمجال حتى لا يشتعل فتيل ردود عنيفة في المنطقة. وتصارع جونسون ونيكسون حول حجم ونطاق وطبيعة الدعم الذي يقدم لإسرائيل في عامي 1967 و 1973 خوفا من إثارة كراهية الحكومات العربية.

كذلك حصل جورج دبليو بوش على موافقة ضئيلة في الكونجرس على تحرير الكويت عام 1991، عندما وافق أكثر الأعضاء على تقدير السيناتور «بات موينهان» القائل: « لم يحدث أمر كبير»، وأن ما حدث فقط هو أن « دولة صغيرة شرسة قامت بغزو دولة أصغر ولكنها شرسة مثلها»، - بحسب نص الكاتب -، فأي خير تستطيع القوات الأمريكية تحقيقه في مثل هذه البيئة ؟ وهل كانت مثل هذه الحرب تستحق حتى عظام جندي أمريكي واحد.

يمكننا التعليق في نهاية القراءة انطلاقا من السطور الأخيرة، بأن الكارثة الأمريكية الحقيقية في الشرق الأوسط ليست الرمال المتحركة، ولكن الفوقية الإمبريالية التي تتعاطى بها، تلك التي وجه لها سهام النقاد مفكرين واستراتيجيين أمريكيين كبار من عينة ستيفن والت، و اندرو باسيفيتش وجوزيف ناي وغيرهم.

كتاب مهم ومثير وربما يتوجب قراءته الآن لفهم أبعاد ما يجري في الشرق الأوسط والخليج العربي.