إشراقات

ثقـافة

20 يونيو 2019
20 يونيو 2019

علي بن سعيد العلياني -

أن تكون النظافة مقياسا للدلالة على الشخصية وتحضرها، فهذا يعني أنها أحد أركان الشخصية المؤثرة الفذة التي تعي معنى أن يكون نظيفاً في ملبسه والبيئة المحيطة به. فالنظافة قبل أن تكون ضرورة يحتمها الواقع ويفرضها حب العيش الكريم البعيد عن كل الأمراض والآفات هي طريق للرقي الحضاري المتمثل في مواكبتها لذوق الفطرة السليمة والعقل الذي يلتقي في كل النقاط الموصلة إلى الأناقة التي تبهج القلب وتريح العين.

إن الشخص المثقف يجب أن يتمتع بالدرجة الأولى بحس مرهف متفاعل مع كل أنماط حياته بحيث يكون دائرة متكاملة من التوازن في كل النواحي للوصول إلى درجة مرضية من الحد الأدنى على الأقل للنظافة العامة والشخصية بحيث تشمل كل الجوانب في الملبس والمأكل والمشرب والبيئة التي يعيش فيها على تعدد ألوانها، فهو يحب النظافة في البيت كما يحبها في السوق ومقر العمل والطريق والنادي والأماكن السياحية والمتنزهات. فالنظافة كل لا يتجزأ، لأن الإنسان الذي يعيش في بيت نظيف يحتاج إلى شارع نظيف وساحة نظيفة وسوق نظيف وهلم جرا، لنصل إلى تكامل من ناحية النظافة بين جميع المرافق والأماكن التي يرتادها الشخص.

والنظافة ثقافة قبل أن تكون ممارسة، فوجود الدافع نحو إماطة الأذى عن الطريق بتنظيفه من المخلفات المعيقة أو المشوهة أو المنفرة هذا يعني أنك مثقف؛ لأن الثقافة ليست معرفية بحتة، بل الثقافة تعني حب تعاملك مع الواقع كما ينبغي، بغض النظر عن المجال الذي أحسنت أو تحسن تعاملك معه. والثقافة تعني أنك تعرف كيف تحسن التعامل مع ما يواجهك من مفردات الحياة بعين ثاقبة وبصيرة نافذة. فثقافة النظافة هي الإحساس بالمسؤولية تجاه وطنك وبيئتك من خلال الوصول إلى حلول واقعية مرضية لمشكلة وجود مخلفات تسبب أذى أو تشوه المنظر العام أو تجلب مضار صحية. معنى ذلك وجود هذه الثقافة هو ضرورة يحتمها الواقع دون أي تأخير أو إهمال.

وثقافة النظافة ليس معناها أنك تجيد سرد المضار البيئية أو الصحية، ولا إلقاء المحاضرات التي تعنى بجانب النظافة، بل هي المبادرة والعطاء والمشاركة وتحمل الهم والعبء ومواجهة الواقع المعاش، وأيضاً أن تكون قدوة في هذا الجانب. إذاً ثقافة النظافة تعني الجانب العلمي والتطبيق في الواقع الشخصي قبل أن تكون نظيرة بحتة أو مشاركة ثقافية آنية، أو للتصوير وتدوير عجلة الإعلام المرئي والمسموع. وأن يكون لديك الدافع الذاتي لتجس أن كل ربوع الوطن هي بيتك الذي تحرص على نظافته وجماله ونقاء هواءه وجمال أرجائه ولمعان حائطه وخلو فنائه من كل ما تضيق به العين ذرعاً أو تنفر منه النفس.

وأن تنظر إلى كل ما حولك بإيجابية من ناحية أن تكون كل المفردات مهيأة لتوائم الفطرة السليمة منظراً وبيئة صحية محفزة على العطاء والإنتاج بالبعد عن الآفات والأمراض والأوبئة التي تسبب شللاً عاماً وضعفاً ووهناً. وهي الإيماء العقلي الدائم الذي يغذي في جوانب نفسك العطاء بلا حدود في الجوانب التي من شأنها الإخلال بالنظام البيئي القائم على وجوب إيجاد بيئة نظيفة دون الالتفات للمعطيات السلبية الظاهرة. فلا التفات إلى تكاليف النظافة المالية فهي وإن كانت تأخذ إلا أنها تعطي أضعافا وإن كانت تشغل لكنها تخلصنا من مشاكل وعوائق ومطبات عديدة لا تعد ولا تحصى. فهي إن كانت تستهلك جهود بعض الأشخاص في جوانب النظافة العامة إلا أنها تعطي صحة وحيوية وتنقذ المجتمع من براثن المرض والوهن والعلل التي تشل المجتمع وتمنعه من الإنجاز.

ثقافة النظافة تعني التنشئة منذ نعومة الأظافر، وبذل مزيد من الجهد على هذه الفئة في سبيل غرس قيم دائمة، تكون سجية في الكبر لا يمكن التخلي عنها، وتنقل إلى الأجيال اللاحقة بنفس الطريقة. وهي عملية متواصلة يجب أن لا تتوقف لأن الحياة مستمرة، وتحتاج إلى الاستمرارية خصوصاً في هذا الجانب. وهي تفضي في النهاية إلى إيجاد شخصية تقدم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة بحيث يحس الشخص أنه جزء من محيط لا يستغني فيه كل شخص عن عطاء وجهود الأشخاص الآخرين فكل واحد يكمل الآخر وبالتالي تجده يسارع إلى أداء ما عليه من واجبات في هذا الجانب لكي لا يكون ثغرة يؤتى الجميع من قبلها.

وتعني مزيدا من العطاء الذي نتيجته مزيد من القوة والصحة والبهجة والرضى النفسي، فهنا ينتبه الشخص إلى أهمية التفاعل والتكاتف والوحدة في سبيل تحقيق حلم البيئة النظيفة الجميلة. فالكل يعيش سعيداً بما يقدم، مرتاح النفس للجمال الذي وفرته الجهود المباركة، صحيح البدن بسبب خلوه من الأمراض التي يخلقها الإهمال والتراخي في جوانب النظافة.

ثقافة النظافة هو إيجاد بيئة يكون جميع أفرادها يشتركون في هم واحد يوجد لديهم قناعات مشتركة ليؤدي الجميع أدوارهم كل حسب موقعه بحيث يصلون إلى الهدف الأساسي من توحيد الجهود. وتعني الابتكار والتجديد وإيجاد الوسائل الكفيلة بتواصل عملية النظافة بنفس الزخم والكثافة والفعالية نحو مزيد من النتائج الإيجابية والخطوات العملية الكفيلة بإنجاح المساعي في الجانب الحيوي المهم. وتعني مواصلة العمل والتفاعل لأن التراخي يعني التقهقر والتراجع أمام زحف جبل المخلفات وسيول النفايات وأجيال متراكمة من الجراثيم القاتلة والأوبئة والأمراض المهلكة. وتعني عدم التواكل أو الاتكال على جهود الآخرين. فأن نقف متفرجين دون المشاركة، لأننا نعول على أن جهود الآخرين كافية، فهذا يعني فتح مزيد من الثغرات وشيوع الاتكالية مما يؤثر على جميع الجوانب مما يرجعنا إلى مربع الصفر.

وتعني إيجاد جو من الحماس والتحفيز والتشجيع. فهذا يعطي دافعاً قوياً نحو الإنجاز، فكلما كان الإحساس أن العطاء جماعي، كان ذلك أدعى للاستمرارية ولمزيد من العطاء دون كلل أو ملل أو تراخ. وتعني توضيح المسارات الصحيحة والخاطئة بحيث يتبين الجميع الحقيقة التي يعملون لأجلها. فتوضيح المضار والمنافع يخلق جيلاً يعي ماذا يعمل ولماذا يعمل، وبالتالي يكتسب دافعاً ذاتياً لا يريد بعدها لا رقيب ولا حسيب ولا حوافز مادية، بل يعطي ويقدم بكل أريحية، بغية الوصول إلى نتيجة الخروج بأقل الأضرار أو انعدامها.

وثقافة النظافة ناتجة في الأصل عن الوعي بأهمية العمل في هذا الجانب ولأن الفطرة السليمة تدفع بهذا الاتجاه، فالنفوس التي تحمل فطرة سليمة تنفر من كل مكان ما من شأنه الإخلال بالنظام البيئي بحيث تكون هناك مناظر أو روائح أو مشاهد تذهب الجمال والروعة والأناقة التي جبلت النفس على حبها. وهي البحث عن السعادة والبهجة والتناغم الجميل بين مفردات البيئة عن طريق استشعار خطر ظهور الجانب السلبي المظلم والقبيح عند التخلي عن إيجاد صيغة مستمرة تحافظ على ظاهر وباطن هذه المفردات، فالطعم واللون والرائحة يجب أن تتكامل في أبهى صورها لكي تتوازى مع جمال النفس الإنسانية. ثقافة النظافة تقضي بأن من واجبنا التضحية بالغالي والنفيس لنعيش سعداء أصحاء أصحاب نفوس مستقرة بعيداً عن كل المنغصات والمهلكات والهموم وهذا لا يتأتى إلا بوجود دافع ذاتي يغذي المشاعر الفياضة لتدفع باتجاه العطاء المستمر والتضحية التي تكافئ المنافع التي تجلبها النظافة والمضار التي تدفعها ومن هنا يظهر الوعي الحقيقي بأهمية تفاعلنا مع هذا الموضوع. وهي توجه نحو إصلاح الفرد من كل النواحي فهو يعيش شخصا نافعا لأمته وأهله وعشيرته، ويهمه أن يكون الجميع في مستوى صحي ونفسي ممتاز بحيث يرى البهجة ترتسم على جميع الوجوه فهو يكره الضيق والأكدار والهموم وهو يحب أن يجد جميع من حوله أصحاء فهو يعيش بهم وهو جزء من كل لا يكتمل إلا بالكل الذي يجب أن يكون صحيحا خاليا من كل الآفات والأمراض يستطيع أن يؤدي دوره كما ينبغي. وهو أن تكون النظافة مهمة جداً بحيث نعطيها الوقت والجهد والمال بما يجعلها تسير في اتجاه التكامل مع القطاعات الأخرى. فهي ركن ركين وليست كما يتصور البعض أنها تحصيل حاصل، أو أنه جانب مستقذر مستحقر. بل هي الأساس الذي يبنى عليه كل شيء في هذه الحياة وإدراك هذه الحقيقة لا تكون غلا إذا أدرك الجميع كيف أن الدول المتقدمة حرصت كل الحرص على هذا الجانب في سبيل ارتقائها وتقدمها وصحة شعوبها. وبيئات الدول المتقدمة والفروق بينها وبين بيئات الدول المتخلفة خير شاهد على هذا الأمر، ولا تحتاج إلى أدلة أو براهين، فهنا في بيئات الدول المتقدمة نجد الأفراد يتمتعون بحياة صحية وأبدان قوية وجو مفعم بالحيوية والأمل والإنتاج والعمل لساعات طويلة، وهنا في بيئات الدول المتخلفة نجد الآفات والأمراض والجو الكئيب الذي يوجد الكسل والرتابة والملل وعدم الفاعلية المفضية إلى التخلف والفقر والضياع والجهل المستشري وسوء التغذية والبؤس والحرمان.

إذاً ثقافة النظافة هي من الأهمية بمكان بحيث نسعى لها ونجعلها جزءا لا يتجزأ من ثقافة أطفالنا، بحيث ينشأون على حب النظافة والعمل لها من أجل أن يكونوا في هذه الحياة سعداء أصحاء أقوياء، ينظرون إلى الحياة بإيجابية ويرنون إلى مستقبل جميل مشرق واعد.