الملف السياسي

التحولات السياسية والأمنية وأسعار النفط.. «دومينو» عشوائي

17 يونيو 2019
17 يونيو 2019

يسرا الشرقاوي -

المرجح أنه في حالة خروج روسيا على فكرة استمرار الخفض، فإن الدول الأصغر والمنتجة للنفط، مثل فنزويلا، سوف تحذو حذوها بعيدا عن فكرة الخفض. يعني ذلك اضطرابا في الأسعار ومستويات الإنتاج، وفي المجمل يعني حالة من التوتر ذي الأبعاد المختلفة، وكل ذلك بفعل النفط و«الدومينو» العشوائي الذي يتساقط في عدة اتجاهات.

يمكن تبسيط أوضاع قطاع النفط العالمي من حيث مستويات الإنتاج وتوجهات الأسعار بالحركة الشهيرة للعبة «الدومينو»، تلك اللعبة التي تتداعى قطعها الواحدة تلو الأخرى في اتجاه واحد فتسقط بعضها بعضا. لكن هناك فارق وحيد أن لعبة «الدومينو» في حالة النفط، تبدو وكأن حركة القطع متضاربة عشوائية لا تتبع مبدأ «الاتجاه الواحد». فتتكالب على بعضها البعض وتسقط بعضها البعض في علاقة تبادلية تتسم بكثير من العنف والصخب .

يلاحظ أن من أبرز العوامل الموجهة لتحديد أسعار النفط صعودا وهبوطا وحتى مستويات الإنتاج المتوفر بالسوق الدولي، ترد العوامل الأمنية. ويقصد بذلك التهديدات أو الضربات الفعلية المباشرة التي قد تنال من البنية التحتية للقطاع النفطي في دولة أو إقليم ما، أو تلك التهديدات والضربات التي تستهدف دولا «مركزية» في المنظومة الدولية لتجارة النفط. ومن أبرز وأحدث الأمثلة على تأثير «العامل الأمني» على مستويات تسعير المنتج النفطي، ما جرى يوم 13 يونيو الجاري من الاستهداف التخريبي لناقلتي نقل نفط قرب مضيق هرمز. ضرب الناقلتين والاشتباه في وجود موجه للتهديد الأمني لحركة نقل وتجارة النفط الدولية رفع أسعار النفط العالمية بشكل فوري وبمقدار يوازي أربع درجات مئوية دفعة واحدة. ويتوقع استمرار الارتفاع في الأسعار النفطية خلال الأسابيع القليلة المقبلة مع تواصل تفاعل تبعات الواقعة التي تجري في منطقة بالغة الثقل والأهمية استراتيجيا بالنسبة لحركة تجارة النفط الدولية.

إجمالا واقعة الناقلتين لم تأت بمفاجأة خالصة. فالتوقعات كانت تدور منذ منتصف مايو الماضي بأن تشهد أسعار النفط قفزة يتجاوز مقدارها الــ10%، وذلك وفقا لتقديرات قسم «ماركيت إنسيدر» التابع لموقع «سي.أن.بي.ٍسي» الإخباري الأمريكي. هذه التقديرات أوضحت أن الزيادة المتجاوزة لحاجز الــ10%، والتي كان يمكن أن تسجل حوالي 100 دولار للبرميل الواحد خلال فصول الصيف الجاري، لا يحول بينها وبين التحقيق إلا استمرار الحرب التجارية المتصاعدة ما بين الصين والولايات المتحدة. وهناك يرد أحد أبرز النماذج الحاضرة على العوامل التوجيه السياسي بالنسبة لأسعار النفط.

فالحرب التجارية تتصاعد ما بين الولايات المتحدة والصين، وكان آخر حلقاتها رفع إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مستوى التعريفات الجمركية المفروضة على ما يوازي قيمته حوالي 200 مليار دولار من السلع الصينية، وذلك من 10 إلى 25%. ويتزامن هذا مع إدراج عملاق الاتصالات الصيني «هواوي» على القائمة السوداء للشركات المحظور التعاون معها في ضوء إعلان «حالة الطوارئ التكنولوجية» والهادفة وفقا لتوضيحات الإدارة الأمريكية إلى تأمين ودعم قطاع الاتصالات الأمريكي. التصعيد الأمريكي جاء بعد فشل آخر جولات المفاوضات التجارية الثنائية بين البلدين نهاية شهر مايو الماضي. واستجلب تصعيد مضاد من جانب بكين التي سارعت بدورها لفرض تعريفات جمركية على السلع الأمريكية الواردة. ويأتي هذا التقاذف للسهام بين واشنطن وبكين ليؤثر على الزخم التجاري الدولي. ولو أن النزاع التجاري بين الجانبين قد تم حله، لتزاوج ذلك مع تصاعد التوتر في منطقة الشرق الأوسط ليقفز بأسعار النفط إلى ما فوق نسبة الــ10 %.

«المكابح» التي شكلتها الحرب التجارية ما بين القوتين العظمتين على أسعار النفط العالمية، كان هناك بعض الأحداث التي ساهمت في «تخفيف» تحكمها، ولو بشكل استثنائي وقتيا، في مثال مختلف على تزاوج عاملي التوجيه السياسي والأمني في تحديد تسعيرة النفط. فالتفجر «المتقطع» للأوضاع الأمنية والسياسية في فنزويلا ساهم خلال أبريل الماضي في اقتراب أسعار النفط من مستوى الـــ80 دولار للبرميل. الصعود المؤقت حينها كان على خلفية دعوة خوان جوادو زعيم المعارضة والرئيس البرلمان الفنزويلي، المعلقة صلاحياته حاليا، جنرالات الجيش الفنزويلي الانضمام له في محاولة للانقلاب ضد الرئيس نيكولاس مادورو.

دعاوي جوادو اكتسبت بعض المصداقية في حينها، وذلك لعدة أسباب وجيهة. أول هذه الأسباب، كان إرسال دعوته من أمام أحد أكبر القواعد العسكرية في فنزويلا والواقعة خارج كاراكاس العاصمة. ويضاف أنه كان محاطا في سياق التسجيل المصور بعدد من عناصر الجيش، وجاءت دعوته مصحوبة بأعمال عنف واسعة وكر وفر بين العناصر الموالية للمعارضة من جانب، وقوات الأمن مع جانب من العناصر الموالية لحكومة مادورو من جانب آخر. وفوق هذا كله، كان إعلان جوادو السابق نفسه رئيسا على فنزويلا ونيله تأييد أكثر من خمسين دولة على رأسهم الولايات المتحدة وعدد كبير من دول أمريكا الجنوبية، مع معارضة من روسيا والصين الداعمتين لمادورو ونظامه.

الارتفاع المؤقت في أسعار النفط سرعان ما تراجع بعد إعلان السلطات الرسمية أن عمليات قطاع البترول الفنزويلي لم تتأثر بمحاولة الانقلاب الجديدة، وأن نشاطها يجري كــ «المعتاد». وكان عنصر الحسم الأكيد والدال على استمرار نظام مادورو، رغم توالي محاولات ضربه، كان إعلان وزير الدفاع الفنزويلي فلاديمير بادرينو، والذي سرعان ما أكد أن «أعمال العنف» التي قام بها بعض عناصر القوات المسلحة قد تم «هزيمتها جزئيا».

ولا يمكن تجاوز عامل «النزاعات» و«موازين القوى» ما بين دول منظمة الدول المصدرة للنفط «أوبك»، إذا ما كانت الضرورة تستدعي حصر العوامل الأساسية الموجهة لأسعار النفط ومستويات إنتاجه. فمن المقرر أن تشهد فيينا ما بين يومي 25 و26 يونيو الجاري اجتماعا بين دول «أوبك» والدول المنتجة والمصدرة للنفط من خارجها، وفي مقدمتها روسيا، لمراجعة القرار المشترك بخفض إجمالي الإنتاج البترول العالمي بمقدار 1.2 برميل يوميا، والذي ينتهي العمل به مع ختام يونيو الجاري. وكانت مصادربدول «أوبك» قد أكدت إمكانية تمديد قرار خفض الإنتاج حتى نهاية العام 2019. وقد نزلت هذه الأنباء بردا وسلاما على سوق النفط العالمي باستقرار الأسعار ما بين 50 و60 دولارا للبرميل.

ويلاحظ أن هذا التوجه العام من جانب دول «أوبك» جاء متصادما مع مطالب الولايات المتحدة، التي شددت في أبريل الماضي على ضرورة رفع المجموعة لمعدلات الإنتاج بغرض تعويض «الفجوة» المترتبة بالأسواق على تراجع الإمدادات من جانب عدة دول خاضعة تحت «سكين» العقوبات الأمريكية، وبالتالي المساعدة في تراجع أسعار النفط. وكان الخبراء قد سبقوا أخبار التمديد المحتمل لقرار خفض الإنتاج، بالتأكيد أن «أوبك» وحلفاءها سيكونون أبعد ما يكون عن الاستجابة لمطالبات أمريكا، وذلك مخافة انهيار أسعار النفط انهيارا إثر مثل هذا التحرك.

ولكن الأزمة الحقيقة لا تكمن في تقديرات الخبراء أو مطالبات أمريكا، ولا يمكن حسمها بترجيحات مد قرار الخفض حتى نهاية العام الجاري. الأزمة تكمن في عامل «الانشقاق الروسي». فقد امتنعت روسيا حتى الآن عن تأكيد مشاركتها في اجتماع أواخر يونيو، معللة ذلك بتضارب المواعيد. وهناك مؤشرات عن تراجع روسي عن الإجماع حول قرار خفض الإنتاج. ويمكن قياس خطورة عامل «الانشقاق الروسي» إذا ما تم مراجعة وقائع اجتماع «أوبك» الأخير في ديسمبر الماضي والذي ظلت تعصف به الخلافات وتعثر الوصول إلى إجماع حول قرار خفض الـ1.2 مليون برميل، إلا بعد تدخل روسيا وإعلانها موافقتها، ما جعل باقي الدول تصطف وراءها.

والمرجح أنه في حالة خروج روسيا على فكرة استمرار الخفض، فإن الدول الأصغر والمنتجة للنفط، مثل فنزويلا، سوف تحذو حذوها بعيدا عن فكرة الخفض. يعني ذلك اضطرابا في الأسعار ومستويات الإنتاج، وفي المجمل يعني حالة من التوتر ذو الأبعاد المختلفة، وكل ذلك بفعل النفط و«الدومينو» العشوائي الذي يتساقط في عدة اتجاهات.