54444456
54444456
إشراقات

الرسالة تحمل أفكارا تربوية وأبجديات سـلوكية مضيئة وتوجـيهات ونصائح مهمـة

13 يونيو 2019
13 يونيو 2019

قراءة في رسالة الشيخ سالم بن حمد الحارثي -

د. سعيد بن مسلم الراشدي -

تعتبر رسالة «تربية الطفل في عمان» من الإرث الفكري التربوي والسلوكي الذي خلّفه الشيخ سالم بن حمد الحارثي - رحمه الله - للأسرة التربوية، ومؤسساتها، وقد نهج في كتابة هذه الرسالة منهجا علميًا تربوياً رصيناً، ليدلل على أهمية تربية الناشئة، ورعايتهم رعاية منبثقة من أحكام الشريعة السمحة، وسنة المصطفى الغراء، ليخرج من رحم هذه التربية جيل يحب الله ورسوله، ويضحي لأجل دينه ووطنه.

وقد تطرق في هذه الرسالة لكثير من الأفكار التربوية، والأبجديات السلوكية، التي تعتبر سرجا يســـــــــتضاء بها فــــــي هذا الزمـــــن الذي اختلط فيه الحق والباطل، والرديء والجيد، والخبيث والطيب، فنشأ جيل همه اللهو والعبث، لا يفكر كيف يرقى بعقله، وينهض بوطنه، ويعلو شأن أمته. ومن بين ما سطره علمنا الحارثي في هذه الرسالة من توجيهات ونصائح تربوية:

الزواج أساس الأسرة

استفتح العلامة الحارثي رسالته التربوية بأساس ما تبنى عليه الأسر، وهو الزواج الشرعي، مستدلا على ذلك بآيات الزواج التي أنزلها الله سبحانه في كتابه الكريم، فساق في هذه الأبجدية قوله سبحانه: (وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ)، كما أنه ذكّر ركني الأسرة الزوج وزوجه بأصلهما مستدلاً بقوله سبحانه : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ)، وفي معرض أهمية هذا الزواج بيِّن حال العرب قبل الإسلام، ونظرتهم الإيجابية تجاهه، وحرصهم على اختيار صفوة النساء لأبنائهم يقول: «فعادة العرب في الجاهليّة قبل الإسلام اختيار الزوجة؛ طمعًا في نجابة النسل، وكانوا يُنَفرون من تزويج البغايا»، ولم يكتف بهذا؛ بل عرّج إلى حال العمانيين في القديم والحديث، واهتمامهم في بناء أسرة كريمة صالحة، وتشجيع أبنائهم في اختيار الزوجات الصالحات اللاتي يقمن خير قيام في إدارة المنزل، والحرص على حصانته بطاعة الله، واتباع نهج خير المرسلين، يقول: «فقد دأب العمانيون قديمًا وحديثًا على اختيار الزوجة الصالحة حسبما حثّ عليه رسول الله – صلّى الله عليه وآله وسلّم – حيث قال: (تخيروا لنطفكم)، ويلفت لفتتين تربويتين في أمر النكاح لشباب هذا العصر أولهما: أن يختاروا النساء الصالحات المطيعات، سيراً واتباعاً لقول الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم ـ : (تنكح المرأة لأربع لمالها ولجمالها وحسبها ودينها فاظفر بذات الدين تربت يداك)، ثانيهما: إرشادهم إلى الزواج المبكر وفائدته في حصانة الجنسين من الزيغ والضلال، والانحراف، قائلاً: «فإذا بلغ الطفل الحلم زوجه أبوه امرأة صالحة يرتضيها له والتزويج في الوقت المبكر أصلح للأولاد، وأغض للنظر، وأعف للفرج، سواء كان ذكراً أو أنثى قال- صلى الله عليه وآله وسلم ـ : (من تزوج فقد أحرز شطر دينه) أو قال: (ثلثي دينه) (فليتقي الله في الثلث الباقي) أو قال: (في الشطر الباقي)».

أهمية الوطن وتأريخه

كما تطرق العلامة الحارثي إلى أهمية الوطن الذي يلتحف المواطن فيه سماؤه، ويفترش أرضه، مبيناً للأجيال الدولة العمانية، وعراقتها، وسيطها المعروف قبل وبعد الإسلام، وكيف حال الناس الذين جاءهم رسول رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم- وسرعة استجابتهم، وانقيادهم لرسالة الإسلام، يقول: «إنَّ عمان بلدٌ عريقٌ في عروبته، ولمّا بعث الله محمدًا رسولاً، كانوا أسرع النَّاس استجابة لدعوته، وأحسنهم انقيادًا لأوامره، وطاعته، وأحرصهم تمسكًا بكتاب الله وسنته...».

ومما دونه الشيخ الحارثي، فيما يصلح الطفل، بعد ولادته: تذكير القابلة وهي المولدة كيف تتعامل مع الطفل بعد الولادة.. نجد الشيخ الحارثي يتدرج في تربية الطفل بداية من ولادته، وما له من حقوق، فيوجه القابلة التي تتلقى الطفل بداية خروجه أن تعتني به بدقة موجهاً إياها بقوله: «فإذا ولد الطفل تلقته القابلة، وغسلته بالماء النظيف، وحنكته بعسل، وسوت أعضاءه بيدها كالجبين والرأس؛ ليكون معتدلاً، وربما يسقى ماء كُتب فيه شيء من القرآن الكريم كسورة الانشراح تبركاً به، وذلك قبل الرضاع».

رضاعة الطفل.. ومن الحقوق التي ينبه إليها العلامة الحارثي أمّ المولود الرضاعة الطبيعية، مبيناً أهمية الرضاعة، واهتمام السلف الصالح في هذه الحق، وأثره على الطفل، يقول: «كما كان سلفنا - رضي الله عنهم - يحرصون كلَّ الحرص على أن تكون الأم هي التي ترضع طفلها، ولا يسمح به لغيرها»، ويقول: (إنّ للرضاع أثراً في الطباع)، وفي موضع آخر يعلل أهمية الرضاعة الطبيعية، يقول: «ولا يرضعه غير أمّه، ففي لبنها سرُ عظيم لطفلها، فيه يحصل العطف والبر والمحبة بينهما»، ويرى إذا تعذر رضاع الأم بسبب مرض أو موت، أن يُختار له مرضعة تمتاز بصفات جيدة يقول: «إلاّ إذا امتنع رضاعها بمرضٍ أو موت، فيختار لذلك من يتجاوز عمره عشرين سنة، فإنها أصلح المرضعات، وأن تكون امرأة حسنة المنظر، بعيدة عن الغضب والحمق، فإنّ ذلك يؤثر في مزاجه ومزاجها». وزيادة على ذلك ينكر الشيخ الحارثي حال بعض الأمهات اللاتي يستطعن الرضاعة الطبيعية، ولكن يبتعدن عنها، وذلك لوجود البديل في نظرهن، وهو الحليب المستورد قائلاً: «وأغرب من هذا أنها لا ترضعه، بل تكله إلى أنبوبة تعبأ من لبن استجلب من الخارج، فهي في فمه كلُّ ساعة، ولا يكاد يرى أمه».

الحضانة وأهميتها.. يتأسف الحارثي من فعل بعض الأمهات اللاتي لا تبالي الواحدة في حضانة طفلها، وإشباعه العاطفة والحنان، بل تتركه لعاملة المنزل التي ليس لها دراية في تربية الأبناء تربية صحيحة، منبثقة من مبادئ الإسلام، فيقول: «ومن المؤسف لأهل هذا العصر حيث يجلبون لتربية الأبناء نساء أجنبيات، بل وأعجميات ثمّ تذهب الأم إلى عملها، ويبقى الطفل تحت رحمة تلك البليّة»، وفي موضع آخر ينكر عليها حتى عند النوم تاركة رضيعها عند العاملة، يقول: «ولا يكاد يرى أمه، وربما حتى عند المنام ينام في حضانتها القاسيّة، فلا تشابه بين الحالتين، فأين العروبة اليوم؟، وأين الحسب والنسب والأخلاق الذي حرص الزوج الشريف على تخير الأمّ لأجلها؟ هيهات!!».

أهمية النسيكة وختان الطفل.. ومن حقوق المولود، وتطبيقا لسنة النبي -محمد صلى الله عليه وآله وسلم - في إخراج النسيكة عن المولود، وختان الطفل الذي هو من أحكام الدين الحنيف، يوجه العلامة الحارثي الآباء العمل بهذه الشريعة، قائلاً: «هذا وإذا بلغ الطفل سبعة أيام فقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (كل مولود مرتهن بعقيقته)، تعق عنه يوم سابعة، ويحلق، ويسمى، ويفرق اللحم على الجيران، والمختار أن يكون عن الذكر كبشان، وعن الأنثى كبش، ولا بأس بالمعز، ويأكل منه أهل البيت، ويمسح على رأسه بزعفران، ويوزن شعره بذهب أو فضة، ويتصدق بها. فإذا بلغ سبع سنين، وهو آخر حدّ للختان، فلا ينبغي تجاوزها، والأولى أن يكون قبل ذلك منذ الولادة، والختان واجب لا يتم الإسلام إلا به، وعادة العرب إطعام النّاس يوم الختان، ويسمون ذلك الطعام الغديرة، كما يسمون طعام التسمية العقيقة، وقد قال - صلى الله عليه وآله وسلم- : (لا أحب العقوق)، وكأنه كره هذه التسميّة. أما ختان النساء فغير واجب، وإنمّا هي مكرمة».

اختيار المؤدب المستقيم

ومن ركائز التربية الإسلامية التي ينصح الحارثي الأب إذا ما أراد الأب أن يسلم ابنه لمربِ، أن يختار له المربي الصالح الطائع لربه، العارف بأساليب التأديب والتربية، يقول: «وهنا وجب على ولي أمره أن يسلمه إلى المؤدب، ويعلمه الصلاة والطهارة ومبادئ الإسلام، ويحذره من مخالطة السفهاء والمفسدين، وأن يفرّق بينه وبين أخيه وأخته في الفراش، فلا ينامان في فراش واحد»، وفي موضع آخر يوصي الآباء أن يربوا أبناءهم على حب الصلاة والأخلاق الإسلامية التي تحصنهم من الخوض في سفاسف الأمور، كما أن الصلاة والمحافظة عليها هي السد المنيع بينهم وبين الرذائل، والحصن الحصين من الركون في الانحطاط السلوكي: «وهذا إذا بلغ الطفل عشر سنين اشتد عليه أبواه أو وليه في شأن تعليم الصلاة، وضربه على تركها، وعليه أن يعتني بتعليمه وتربيته على الأخلاق الزكية، وركوب الخيل، وتعلم شرائع الإسلام والطهارة والنظافة من الأدناس»، وينبه الآباء أن يذكّروا فلذات أكبادهم بيوم الميعاد فيقول: «فيجب على أولياء الأمور أن يُذكروا الأولاد علم الآخرة، لاسيما في هذا الوقت الذي استغرق علم الدنيا الأوقات كلها وتلاها الأطفال والشباب بالكرة والورقة والموسيقى والقمار»، فالارتباط بالآخرة يجعل الفرد هذه الدنيا قنطرة للآخرة.

احترام مشاعر الأبناء

تقديرًا لمشاعر الأبناء، وأحاسيسهم، يوجه العلامة الحارثي الأبوين في حال النزاع بينهما، واحتدام الشقاق في بيتهما، أن لا يكون الأبناء ضحية هذا الخصام، فيؤذى الابن نفسيًا وجسدياً، يقول: «ومن شقاء الطفل أن يختصم أبواه وربما يؤدي الاختصام إلى الفراق بينهما، وأشقى من ذلك أن يتجاذبه الأبوان كلُّ واحد منها يغيض الآخر من غير نظر في مصلحة».

التربية على حب العمل

والشيخ الحارثي خبير بما يصلح الأبناء في دنياهم وأخراهم، وكأنه لا يريد من الأولاد أن يكونوا بعد بلوغهم عالة على أبويهم، بل لا بدَ أن يتعود الواحد على ما ينفعه من كسب لقمة العيش، ويربى على هذه الصنائع حتى قبل البلوغ، يقول: «وعلّمه ما يصلحه لمعاشه ومعاده، كالصنعة والزراعة والحساب، وكل هذا من إشارات الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم-، قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يعلمنا كل شيء حتى الخراءة)».

العدالة بين الأبناء

أما العدالة بين الأبناء فهي ركن من أركان السعادة الأسرية، فالشيخ الحارثي يحث الوالدين أن يعدلا بين الأبناء تمسكاً بهدي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم-، قائلاً : «ومنها وجوب العدالة بين الأطفال، فعندما يسود العدل، بين الأبناء فإن الأسرة تلبس بذلك لبوس الطمأنينة، والرحمة.

الرقابة أس التربية

وهنا دعوة من الشيخ الحارثي أن لا تهمش الرقابة على الأبناء في سلوكياتهم وأفعالهم، وأن يكونوا سنداً وعوناً للمؤسسات التربوية في الرقابة، والنصح والتوجيه، قائلاً: «فيجب على أولياء الأطفال أن يراقبوا أولادهم في البيوت، ولا يكلؤهم على المدارس فقد قال - صلى الله عليه وسلم- : ( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ) ، فالمرأة راعيةٌ ومسؤولةٌ عن بيتها وأمانتها وطفلها، والرجل راع ومسؤول عن أهله وأطفاله؛ قال الله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)، وقال جلّ شأنه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)».

ممارسة الرياضة

ومن أجل جسم سليم صحيح ينصح الشيخ الحارثي الآباء تعويد الأبناء ممارسة الرياضة البدنية، وخاصة ركوب الخيل، والرماية، والسباحة قائلاً: «يعتني بتعليمه وتربيته على الأخلاق الزكية، وركوب الخيل...»، ويذكرهم بحال السلف في هذا الجانب: «فقد كان الأوائل يعلمون أولادهم السباحة، والرماية، وركوب الخيل.....».