أفكار وآراء

تباينات التيارات الإسلامية.. التجربة التونسية مثالاً

08 يونيو 2019
08 يونيو 2019

ماجد كيالي -

ما زالت تجارب التيارات الإسلامية في السياسة والسلطة تستقطب اهتمامات المحللين والباحثين والسياسيين المعنيين، سيما أن تلك التجارب بدت مضطربة أو مختلفة أو متباينة، بحسب ما شهدنا في مصر وتونس والسودان، كما في إيران وتركيا وأندونيسيا وماليزيا، تماماً مثلما حصل في تجارب التيارات الأيدلوجية الأخرى، كالقوميين في مصر والعراق وسوريا وليبيا، أو الشيوعيين في روسيا والصين وفيتنام وألبانيا وكوريا واليمن الجنوبي (السابق) مثلاً.

ويمكن تفسير ذلك التباين، بأن التيار الإسلامي متعدد ومتنوع في منطلقاته وغاياته ووسائله، مثل غيره من التيارات اليسارية والقومية والليبرالية والعلمانية، ففيه المعتدل والمتطرف، السلمي والعنيف، المنفتح والمنغلق، المتنوّر والظلامي، الديمقراطي والاستبدادي.

ويستنتج من ذلك أن ثمة تعسّفا في التعاطي مع التيارات الإسلامية، السياسية أو الدعوية، باعتبارها نسيجاً واحداً، أو باعتبارها غير قابلة للتطور والتكيف مع معطيات الواقع والعصر والعالم، لكأن التيارات الأخرى أثبتت ذاتها في هذا المجال!

وبديهي أن التعسّف الأشد يكمن في التعامل معها بوسائل القمع أو الحظر، لأن ذلك يفضي إلى نتائج عكسية، أي إلى تغذية الاتجاهات أو النزعات المتطرفة والعنيفة بينها، ناهيك عن أن هذا المسار قد يقوض معنى المواطنة والحرية، إذ إن تقييد حرية أي تيار سيؤدي حتما إلى تقييد حرية التيارات الأخرى، ما يمهد لإعادة إنتاج الاستبداد.

على أية حال، فإن موضوعنا هنا يتعلق بمناقشة تجربة التيار الإسلامي في تونس، المتمثل بحركة «النهضة»، والذي حصد الأغلبية في الانتخابات، ووصل إلى الحكم، ثم ذهب نحو خيار التعاون مع التيارات الأخرى، في تشكيل الحكومة وتقاسم السلطات، وفي التوصل إلى صوغ دستور جامع، بل والابتعاد عن رئاسة الحكومة وتسليمها لطرف آخر، على عكس ما حصل في تجارب أخرى، حيث كانت النتيجة انهيار حكم «الإخوان» في مصر، ونجاح حركة «النهضة» في التعبير عن ذاتها كتيار إسلامي أثبت نضجاً أكبر في فهم الواقع والعصر والعالم.

لذا لعله من المفيد تفحّص الخبرة التونسية، فعند راشد الغنوشي (زعيم حركة النهضة) المسألة لا تتوقف على أغلبية في صناديق الاقتراع، لأنه يجب حيازة الأغلبية الفاعلين في قطاعات الثقافة والاقتصاد والعلوم والمجتمع، إذ لا يرى أن الأغلبية العددية وحدها هي المقررة، في حين تكون أغلبية الفاعلين خارجها.

أما الشيخ عبد الفتاح مورو، وهو نائب رئيس حركة النهضة، فيرى أن «الإخوان» في مصر، «لم يحسنوا التعامل مع المرحلة، وتصوروا أن الدولة بأيديهم، وما غاب عنهم أن الدولة بأيدي «الدولة العميقة».. حين يكون لدينا تقاليد في أي دولة، لا يمكن تغييرها في يوم أو شهر أو عام.

اليوم، المرحلة ليست مرحلة مغالبة بل وئام ومشاركة، وما هو موضوع على الطاولة لننفذه أكبر من قدرات أي شخص منا، ولن نخسر شيئاً إذا خدمنا الشعب، والقضية ليست قضية الحكم، ماذا يعني الحكم إن لم يكن خدمة الشعب؟

أهم شيء في الشريعة هو حق المواطن في اختيار حاكمه، وعندما نحقق للشعوب حريتها وكرامتها ويصبح الإنسان محترما هنا يكمن تطبيق الشريعة» (اليوم السابع، 17/‏‏2/‏‏2014).

اللافت أن الشيخ مورو لا يقف عند هذا الحد في نقده الجريء للتيارات الإسلامية، بل إنه يذهب إلى حد المطالبة بمراجعة بعض الشعارات التي يرى أنها لا تقدم ولا تؤخّر، بل تحمّل الإسلام كدين فوق طاقته، ولأن المجتمعات تريد حلولا لمشاكلها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. (برنامج «شاهد على العصر»، في تلفزيون الجزيرة، 19/‏‏3/‏‏2014).

وكما قدمنا فإن «حركة النهضة» منذ البداية لم تشكل حكومة لوحدها وإنما ذهبت نحو تشكيل حكومة ائتلافية مع شركاء آخرين، وعندما وجدت ذاتها في وضع حرج قبلت بتغيير الحكومة، ثم تنازلت عن ذلك لصالح تشكيل حكومة انتقالية محايدة.

أما بالنسبة للدستور فقد أبدت «النهضة» تكيّفاً أكبر مع واقع تونس ومع متطلبات العصر، وأبدت رغبة مدهشة في التوصل إلى دستور يحظى بإجماع ورضى مختلف الأطراف، بإقرار دستور ينص على قيام دولة مدنية تضمن الحرية والمساواة لكل المواطنين، وضمنها حرية العقيدة والضمير، على ذلك فإن التجربة التونسية تؤكد قابلية التيارات الإسلامية (والعلمانية أيضاً) لهضم مسائل الديمقراطية والدولة المدنية والمواطنة والحريات، باعتبار ذلك جزءاً من الصراع على الوعي السياسي والثقافي، للتكيف مع الواقع والعصر والعالم. كما تؤكد زيف الفكرة التي روّجتها النظم الاستبدادية، والتي مفادها أن ثمة شيئاً جوهرياً في الإسلام يميل إلى العنف، ونبذ الديمقراطية.

المشكلة إذا تتعلق بإدراك التيارات الإسلامية (والعلمانية) لذاتها، وإدراكها لمتطلبات الواقع والعصر والعالم، والخروج من الأيديولوجيا، والتعامل مع قضايا البشر باعتبارها قضايا دنيوية، تعتمد التساؤل وإعمال العقل والنقد والمحاسبة.

المشكلة الثانية هنا أن هيمنة التيارات الإسلامية المتطرفة والمتعصبة توحي بأن التجربة التونسية هي بمثابة استثناء، سيما أن التيارات الإسلامية المعتدلة والمنفتحة والمدنية لا تتبرأ منها، ولا تنزع الغطاء الديني عنها، ولا تفند أطروحاتها، سيما المتعلقة بالحاكمية، والخلافة، والجهادية، والإكراه.