أفكار وآراء

ريـمون آرون فـي مُـواجَهة الأفـكـار الـخـاطـِئـة

03 يونيو 2019
03 يونيو 2019

حسّونة المصباحي -

يحظى المفكِّر الفرنسيّ الكبير ريمون آرون (1905-1983) راهنا بتقدير عددٍ من الأوساط الفكريّة والفلسفيّة والسياسيّة واحترامها، لا في بلاده فحسب، بل في الكثير من البلدان الغربيّة الأخرى. ويعود ذلك إلى أنّ التاريخ أنصفه بعد مرور عقود على وفاته، مُثبتا أنّه كان على حقّ بشأن عددٍ من قضايا القرن العشرين، الذي عاش أهمّ أحداثه في المجالات المختلفة. وكانت تلك المَواقف التي عارَضها مُعاصروه بشدّة بتحريضٍ من صديقه اللّدود جان بول سارتر قد جعلته يعيش الإقصاء والعزلة، بل وبسببها نُعت بـ«الكلب الأجرب»، و«الانتهازي»، و«الخادم المُطيع للإمبرياليّة» من قبل زعماء انتفاضة ربيع 1968 الطلّابيّة.

لعلّ أهمّ ما تميَّز به ريمون آرون خلال مسيرته الفكريّة المديدة، قدرته الفائقة على مُواجَهة الأفكار الخاطئة الرّائجة في عصره، وخصوصا تلك المُتعلّقة بالماركسيّة وبالاشتراكيّة بصفة عامّة، والتي كان المفكّرون والمثقّفون المُوالون لليسار متشبّثين بها، وعنها يدافعون دفاعا مُستميتا. كما أنّه لم يتردَّد في الدّفاع عن دعائم الرأسماليّة في فترةٍ كان أتباعُ ماركس في جميع أنحاء العالَم يقدّمون الأدلّة القاطِعة على أنّها على وشك أن تُرمى في مزبلة التاريخ :« في الأنظمة الشموليّة التي ظهرت في القرن العشرين، تجد اللّيبراليّة كلّ الأعداء الذين حاربتهم عبر مَراحل مُختلفة من تاريخها. والحقيقة أنّ اللّيبراليّة، حدَّدت نفسها منذ البداية كمُعارِضة لكلّ أيديولوجيا مُتطرِّفة، ولكلّ فكر يَنزع إلى الإطلاقيّة والتشدُّد. نحن نُدافع عن حقّ كلّ إنسان في البحث عن الحقيقة. وبهذا المعنى، فإنّ مُعارَضة كلّ شكل من أشكال التطرُّف الإيديولوجي يَقع من ضمن باقي المَطالِب اللّيبراليّة والتنويريّة ضدّ التطرُّف الديني» (من كِتاب الحرّية والعدالة، 1978).

وفي تحديده لمفهوم الدولة اللّيبراليّة، كَتَبَ ريمون آرون في المرجع المذكور نفسه: «حريّاتنا تتحدَّد بفضل الدولة وضدّها أيضا. إنّ حريّات الأفراد ظلَّت على مدى قرونٍ تجسِّد النضال ضدّ تجاوزات الدولة، وتصدّيا لسلطتها، لكنْ، في الوقت الرّاهن، نحن ننتظر من الدولة أن تكون ضامِنة للحريّات. والشرط الأساس هو أن تكون الدولة ديمقراطيّة، أي أن تكون الدولة مُحايدة فلا هي مُسانِدة للدين ولا لأيّ أيديولوجيا أخرى».

في فترة الثلاثينات من القرن الماضي، كان ريمون آرون من القلائل الذين أكَّدوا أنّ النازيّة الصاعدة تُمثِّل خطرا جسيما على السلام العالَمي. وفي الآن ذاته، انتقد انحرافات ستالين «الفاشيّة» المُعادية للديمقراطيّة: « إبراز النظام الستاليني على مدى سنوات وسنوات على أنّه نظام «يساري»، يعني أنّ اليساريّين الذين يزعمون أنّهم يتغذّون من القيَم الإنسانيّة، ومن الحريّة ومن الشعب، اعتبروا أنّ النّظام الذي ضربَ كلّ الحريّات العامّة والخاصّة، ورمى بآلافٍ من الناس في المُحتشدات وفي مَراكِز الاعتقال ينتسب إلى الفكر اليساري»(من حوار في إذاعة فرانس كولتور الفرنسيّة، 1973).

وفي كِتابه «الخلاص من أوهام التقدّم» Les Désillusions du progrès الصادر في عام 1969، كتبَ ريمون أرون يقول إنّ النازيّة والستالينيّة قدَّمتا الدليل القاطِع على أنّ زعيما ديماجوجيّا عنيفا بإمكانه أن يُجنِّد ملايين الناس اعتمادا على الأكاذيب، وعلى الشعارات الشوفينيّة والبدائيّة لكي يغرق العالَم في الحروب المُدمِّرة.

وعند اندلاع الحرب الكونيّة الثانية، انضمّ ريمون آرون إلى حركة المُقاوَمة بقيادة الجنرال ديجول. وانطلاقا من نهاية الحرب الكونيّة الثانية، أصبح ريمون أرون «المُراقِب المُلتزِم» الذي يُدافع عن الديمقراطيّة بوجهها اللّيبرالي أمام خصومها من أتباع ما كان يسمّى بـ«الاتّحاد السوفييتي»، وصين ماوتسي تونغ. ومُحدِّدا الهدف الأساس الذي يتوق إليه «المُراقِب المُلتزِم»، كتبَ ريمون آرون يقول: «لا يكفي أن نفهم لكي نقوم بتبرئة الآخرين. بل علينا أن نفهم وأن نُفسِّر ونوضح. وهذا لا يعني أنّنا لا ندين، لكنّني أرفض أن ألعب لعبة المثقّف الذي يتبجَّح بامتلاك ضميرٍ كَونيّ. مثل هذه اللّعبة لا تروق لي إطلاقا لأنّني أرى أنّها مُعيبَة ومُخجلة» (من كِتاب المُلاحظ المُلتزم، 1981). وأضاف، في الكِتاب نفسه، قائلا: «أنا لا أخجل من أن أكتب مثل إنسانٍ يُراقِب، ويُفكِّر ويسعى إلى أن يبحث عن الحلّ الأمثل لعددٍ كبير من الناس. وأنا أعتقد أنّه من الادّعاء المُخجِل التذكير بحبّي للإنسانيّة في كلّ لحظة».

وفي حين تحمَّس جلّ المثقّفين والمفكّرين لانتفاضة ربيع 68 الطلّابيّة، لم يتردّد ريمون آرون في انتقادها، وإدانة أخطائها والفوضى العارِمة التي أحدثتها، مؤكِّدا من جديد أنّه منذ بداية مسيرته الفكريّة، لم يتحمَّس أبدا لأيّ ثورة من الثورات الكبيرة التي عرفها القرن العشرون، بما في ذلك الثورة البلشفيّة، التي فُتن بها الكثيرون من مثقّفي ومفكري عصره: « في الحقيقة أنا مُعادٍ لكلّ الثورات لأنّني مثل الكثير من أناس القرن العشرين، ومثل سولجنتسين، أعتقد، بعد العديد من التجارب الثوريّة في العالَم، أنّ الثورات تكلِّف غاليا، وفي النهاية هي تكون سببا في الخَراب والدّمار أكثر ممّا تكون سببا في البناء وفي إسعاد الناس. ونادرة هي الظروف التي تُعالِج فيها الثوراتُ العِللَ والأمراض الاجتماعيّة والسياسيّة التي كانت ترغب في القضاء عليها»(من حوار في إذاعة فرانس كولتور الفرنسيّة، 1975).

وفي أوج مَعاركه وسجالاته الساخِنة مع خصومه اليساريّين، أصدرَ ريمون آرون في عام 1955 كِتابه الشهير «أفيون المثقّفين»L›Opium des intellectuels ، وفيه ردَّ على مثقّفي اليسار الماركسي تحديدا قائلا: إنّ الفكر اليساري يقوم أساسا على مجموعة من الأفكار الطوباويّة. من ذلك مثلا أنّ الثورات التي يعمل اليساريّون المُوالون لماركس على تفجيرها بمختلف الطُّرق والوسائل لا تعدو أن تكون «طوباويّة» لأنّ مفهومها نفسه مفهومٌ «طوباويّ»؛ إذ لا تطوُّر القوى المُنتِجة، ولا نضج الطبقة العُمّاليّة من شأنهما القضاء على الرأسماليّة وتقويضها؛ ثمّ إنّ الثورات التي تعتمد على البروليتاريا كقوّة أساسيّة تكتفي في النهاية بإزاحة عنيفة لنُخبة معيّنة لتعوِّضها بنخبة أخرى قد تكون أسوأ من سابقتها. وهذا ما حدثَ في ما كان يُسمّى الاتّحاد السوفييتي، وفي باقي البلدان التي حدثت فيها ثوراتٌ بزعامة اليسار الشيوعي. فضلا عن ذلك، لا يُمكن بحسب ريمون آرون أن تكون «البروليتاريا» التي ظلَّ مفهومها مُبهَما، وغير محدَّد المَلامِح والصورة، أن تكون «المُنقذ الجماعي» كما وصفها كارل ماركس؛ لأنّها لا يُمكن أن تكون مُنفصِلة عن الدولة ما دام عَيشها ووجودها مُرتبطَين بها ارتباطا وثيقا.

وعلى الرّغم من أنّه ساندَ بقوّة استقلال الجزائر مثلما فعلَ صديقه جان بول سارتر، فإنّ ريمون آرون لم يتحمَّس كثيرا لقضايا «العالَم الثالث». وردّا على الذين كانوا يتصوّرون أنّ «الخلاص» سيأتي منه إنْ آجلِا أم عاجلِا، كتبَ في المُلاحظ المُلتزم، السابق ذكره، يقول: «أنتم تقولون لي إنّ أهل اليسار يعتقدون أنّ النور سيأتي من العالَم الثالث. وهُم مُخطِئون، إذ ليس باستطاعة بلدان تبذل جهودا مُضنيَة لمُواجَهة مَصاعِب العَيش أن تقوم بأداء هذه المهمّة».

إنّ العودة الرّاهنة إلى فكره، تؤكِّد أنّ ريمون آرون جسَّد من خلال مُواجهته للأفكار الخاطئة، وللأوهام الثوريّة ما سمّاه كلود- ليفي ستراوس «النظافة الثقافيّة»، والقدرة على فهْم خصومه الفكريّين والسياسيّين قبل الردّ عليهم. ومثلما قال الفرنسي فرانسوا فورييهFrançois Fourier ، الذي فضحَ هو أيضا أوهام الثورات، وأكاذيبها، فإنّ ريمون آرون مَكَّنَ قسما كبيرا من الأنتلجنسيا الفرنسيّة من أدوات تحاشي فخاخ الديماغوجيّة، وأوهام الثورات التي كانت رائجة في عصره.

*كاتب من تونس - المقال ينشر بالاتفاق مع مؤسسة الفكر العربي