أفكار وآراء

انتخابات البرلمان الأوروبي.. المؤشرات الخمسة الأساسية

03 يونيو 2019
03 يونيو 2019

يسرا الشرقاوي -

تفنن المعلقون على وقائع ونتائج انتخابات البرلمان الأوروبي التي جرت خلال الفترة بين 23 و26 مايو الماضي.

فالتعليقات الدرامية لوصف ما جرى تقريبًا لم ينقصها أي شيء من الإثارة والتشويق وكثير من الواقعية العاكسة لحقيقة ما جرى. فقيل في وصف نتائج الانتخابات الأضخم في سياق الديمقراطية الغربية، والمصنفة كثاني أضخم دوليًا بعد الانتخابات في الهند، إنها «انقلاب على الحرس القديم»، وأنها «نهاية النخبة التقليدية» الحاكمة في أوروبا، والبداية الفعلية لــ«صراع العروش الأوروبي».

والحقيقة أن هذه التعليقات دقيقة إلى حد بعيد لكنها ليست وافية، إذا لم تشتمل على تحليل لكل تبعات والمؤشرات المترتبة على نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي، والتي ستبدأ عهد من خمس سنوات جديدة في عملية اتخاذ القرار الأوروبي وسن التشريعات الموجهة لأمور دول الاتحاد الـ28، حتى يتم حسم مصير عضوية بريطانيا التي قد ترحل فيتبقى في عضوية الاتحاد 27 دولة.

ويمكن فهم وتلخيص أبرز التبعات والمؤشرات المترتبة على عملية الاقتراع الأوروبي، في خمس نقاط أساسية.

أولى هذه النقاط، بالطبع، تراجع أسهم النخبة التقليدية الحاكمة في أوروبا. ويقصد بذلك الأحزاب والتيارات السياسية الوسطية على اليمين واليسار. هذه الأحزاب ذات الوسط والتي ارتفعت أسهمها خلال حقبة التسعينات من القرن الماضي في أغلب الدول الأوروبية تراجع وبشكل «معطل» التأييد الشعبي لها في أغلب الدول الأوروبية. فيلاحظ أن أول وأبرز نتائج الانتخابات الأوروبية هو تراجع الأغلبية التقليدية التي كان يتمتع بها تحالف أحزاب يمين الوسط من جانب، والقوى الاشتراكية والديمقراطية من جانب آخر، وذلك طوال حوالي أربعة عقود. فحزب الشعب الأوروبي الممثل لحوالي 70 حزبا محسوبا على تيار يمين الوسط بنحو 40 دولة أوروبية خسر نصيبه الضخم من المقاعد البرلمانية والتي كانت تبلغ 214 وفقا لتشكيل البرلمان الأوروبي عام 2014، فإذا بها تهوي إلى 179 فقط بفارق ضخم. أما الشريك الثاني في هذا التحالف البرلماني، ويقصد به القوى الاشتراكية والديمقراطية، فقد كانت أيضا خسارته مدوية بتراجع نصيبه من 191 إلى 153 مقعدا. ذلك التراجع في أنصبة أصحاب الأغلبية البرلمانية لا يعتبر مفاجأة صاعقة، إذا ما تمت مراجعته في سياق التحولات التي كانت تجري على صعيد الانتخابات التي شهدتها مختلف الدول الأوروبية خلال الفترة الفاصلة ما بين دورة 2014 البرلمانية والدورة الحالية. فهناك توجه واضح من جانب الرأي العام الأوروبي إلى الانقلاب على هذه القوى التي ظلت تتبادل أدوار القيادة فيما بينها لسنوات طويلة. فمرحلة التعافي «المفترض» من أزمة 2008 المالية بمنطقة اليورو، وما تلاها من أزمة الهجرة الوافدة التي أرهقت القارة الأوروبية اعتبارًا من 2015، ومعهم صفعة الـ«بريكست» باختيار البريطانيين الخروج من العضوية الأوروبية عام 2016، كلها ساهمت في تراجع مكانة أحزاب النخبة المفترض أنها تسيدت لسنوات بفضل اعتدال توجهاتها السياسية. فهذه الأحزاب لم تبد التطور والفاعلية اللازمة في التعامل مع هذه الأزمات واحتواء أثارها بالنسبة للرأي العام الأوروبي. كما أنها في المقابل تعثرت فسقطت إثر عدد من فضائح الفساد التي لاحقتها. فكان الحكم الانتخابي بتراجع الثقة فيها. ولكن يلاحظ أن ذلك التراجع يشكل «ضربة» وليس «طعنة». بمعنى آخر، تراجعت أغلبية الشعب والقوى الاشتراكية، لكنهما معا ما زالا القوة الأولى بالبرلمان الأوروبي.

وهنا يتوجب الانتقال إلى المؤشر الثاني، والمتعلق بدور «صانع الملوك» في هذه المرحلة من العملية السياسية الأوروبية. فالأغلبية البرلمانية يمكن أن تبقى في أيدي تحالف الشعب والاشتراكيين الديمقراطيين. ولكن لذلك شرط أساسي وهو إرساء تحالف ثلاثي، يعوض عنصري التحالف الثنائي السابق ما فقداه من مقاعد. وهنا يأتي القوى الصاعدة إثر الانتخابات الأخيرة. فقد تحقق صعود واضح لتكتل الأحزاب الليبرالية بصعود نصيبها من المقاعد البرلمانية إلى 107 مقاعد. والفائز الثاني كانت القوى الخضراء، حيث تضاعفت نصيبها من المقاعد البرلمانية بحوالي 69 مقعدا. الليبراليون والخضر يلقى على عاتقهم الآن عدة مهام محورية بالنسبة للعملية السياسية في أوروبا خلال السنوات الخمسة المقبلة. فمن جانب، سيكون لهم القول الفصل في دعم تحالف اليمين الوسطي والاشتراكيين من عدمه. ومن جانب ثاني، سيكون على عاتقهم تفعيل سياسات المواجهة مع القوة الجديدة بالبرلمان وهي الأحزاب الشعبوية والمشككة في فكرة الوحدة الأوروبية.

وبقدر ما هذا التحالف يبدو «مسألة حياة أو موت» بالنسبة للأطراف الأربعة: الشعب، والاشتراكيون، والليبراليون، والخضر، بقدر ما هو غير مؤكد. فلكل تيار مصالحه وتوجهاته ويمكن بسهولة ويسر أن تتعارض وتتصادم. بل يمكن الجدل بثقة أنها بدأت تتصادم بالفعل. فترشيح الشعب لشغل منصب رئيس المفوضية الأوروبية والذي سيغادره جان كلود يونكر، قابله مرشح أخر من جانب الاشتراكيين، وحتما سيكون للقوى الخضراء والليبرالية رأي واضح من ذلك كله.

أما المؤشر الثالث، فيتعلق بـ «الوافد الجديد»، والمقصود به صعود الأحزاب الشعبوية والقوى المشككة في المشروع الأوروبي. فتلك الأحزاب حققت «قفزة» عملاقة تجاوزت 110 مقاعد. ويلاحظ أن هذه النتائج لها أكثر من دلالة. فمن جانب، هناك حسم هذه النتيجة للكثير من التوازنات على المستوى القومي للدول، وذلك لصالح الأحزاب الشعبوية. فيلاحظ أن حزب «رابطة الشمال» لزعيمه ووزير داخلية إيطاليا ماتيو سالفيني اكتسح باقي الأحزاب الإيطالية اكتساحا وتصدر قائمة القوى السياسية هناك بلا منازع. ذلك يعني تقوية وترسيخ سياساته المناوئة للهجرة بشكل قاطع والمناوئة أيضا للكثير من إملاءات الاتحاد الأوروبي.

يعني ذلك تعاظم «ثقل» الشوكة التي باتت إيطاليا تمثلها تحت سلطة «الرابطة» وشريكه في الائتلاف الحكومي «النجوم الخمسة» القومي المتطرف. ويعني أيضا تقوية مناطحته للاتحاد والقوى الأوروبية مثل ما جرى من تكرار المصادمات مع حكومة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والقيادات الأوروبية بخصوص السياسات الاقتصادية لروما من ضمن أكثر من قضية أخرى. وبما أن الأمر بالأمر يذكر، فيلاحظ النتائج المتضادة للأحزاب الجديدة. فحزب «البريكست» البريطاني اكتسح النتائج على المستوى القومي البريطاني بعد أسابيع قليلة من تأسيسه. فحزب «البريكست» يراهن بزعيمه العائد من الاعتزال المؤقت نايجل فاراج على قضية الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، أولا وأخيرًا، مستغلًا حالة الفوضى والغموض بعد رفض خطة رئيسة الوزراء المستقيلة تيريزا ماي لإتمام الخروج ثلاث مرات أمام البرلمان البريطاني. وما كان لاحقا من استقالة ماي نفسها وسقوط حزب المحافظين سقطة مزلزلة بعد أن حاز 9% فقط من أصوات الناخبين البريطانيين بشق الأنفس في الانتخابات الأخيرة.

المؤشر الرابع أن الأحزاب الجديدة لم تكن كلها حسنة الحظ. فحزب ماكرون، الجديد نسبيا، «الجمهورية إلى الأمام» وقائمته التحالفية «النهضة» وقعت وقعة غير موقفة أمام القوى الفرنسية الأخرى ولم تحقق القفزة الحاسمة التي كان ماكرون ينتظرها انتظارا. فالانتخابات الأوروبية ذاتها جعلت حزب مارين لوبان في ثوبه القديم اليميني المتطرف واسمه الجديد «التجمع الوطني» كتفا بكتف معه. ويمهد هذا لمصير ماكرون وحزبه، وحتى مشروعه للإصلاح الأوروبي، إلى أن يعصف به عصفا.

وأخر المؤشرات، تتعلق بالرأي العام الأوروبي. فنسبة المشاركة في الانتخابات الأخيرة تجاوزت الـ50%، في أعلى نسبة منذ 1994. ذلك التجاوب القوي يعكس إدراك قوي لأهمية المشاركة وتوجيه دور الاتحاد الأوروبي وبرلمانه. قد تكون النتائج لم تعكس تماما المرغوب فيه من وجهة نظر القوى السياسية المعتدلة. ولكنها تؤكد تأكيدا ضرورة إصلاح هذه القوى ذاتها لنفسها حتى يمكنها استعادة جانب من الثقة المهدرة وبالتالي مواجهة التحولات المتمثلة في الصعود الشعبوي الذي جاء ليبقى الخلافات الداخلية داخل هذه الكتلة والتي قد تحد من تحالفها على الطول الخط. وفي الوقت ذاته، صعود القوة البرلمانية للشعبويين والمشككين.