أفكار وآراء

العالم الإسلامي والحضارات الأخرى.. تفاعل لا تصارع

31 مايو 2019
31 مايو 2019

إميل أمين - كاتب مصري -

[email protected] -

عزيزي القارئ على بعد خطوات منا عيد الفطر المبارك، وهذا هو المقال الرابع والأخير ضمن سلسلة من المقالات ذات المسحة الروحانية والإيمانية، التي خصصناها لشهر رمضان الفضيل، عسى أن تخرجنا من ضيق الأيديولوجيات القاتلة إلى رحابة الابستمولوجيات المعرفية الواسعة.

مقالنا الأخير عن الحضارة الإسلامية في تعاطيها مع الحضارات الأخرى، ودليلنا في هذه القراءة كتاب «أفكار للحوار» لصاحبه مدير عام منظمة الايسيسكو السابق الدكتور «عبد العزيز بن عثمان التويجري»، والذي يعالج بقلمه كمفكر عربي وإسلامي الكثير من القضايا الفكرية والثقافية العميقة والتي يعيشها ويعاني منها العالم الإسلامي، مساهما بالرأي في إيجاد حلول لها.

في عمله الشيق هذا يطرح الدكتور التويجري أفكارا للحوار تهدف إلى البناء لا الهدم، وإلى التجديد لا التقليد، وإلى مواكبة العصر والتطور، لا الجمود والقعود عن العمل الذي ينفع الناس، فيخدم المؤلف بذلك المصالح العليا للأمة على صعيد الفكر والتنظير والتحليل والاجتهاد واستنباط الحلول لتلك المشاكل والبحث عن المخارج من المآزق التي وقع فيها المسلمون على مدى عقود.

ولعل السؤال الأول في هذه السطور ماذا عن منطلقات وخصائص الحضارة الإسلامية؟

يرى الدكتور التويجري أن كل حضارة إنما تعبر عن روح الأمة التي تبدعها أو روح الشعوب التي تنشئها، فهي تعكس القيم والمبادئ والمعتقدات التي تنبثق عنها، فلا تنشأ الحضارة من فراغ، لأنها نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة في الإنتاج الثقافي، وتتآلف الحضارة من عناصر أربعة: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون، وهي تبدأ من حيث ينتهي الاضطراب والقلق.

وغني عن القول إن العناصر المتقدمة إنما تقوم على عقيدة وإيمان، وعلى منظومة قيم أخلاقية، وعلى منهج متماسك ومتكامل، وعلى تصور شامل للإنسان وللكون وللحياة، فهذه القاعدة هي المنطلق الأساس لنشوء الحضارة في أمة من الأمم.

هل كان للحضارة الإسلامية أن تشذ عن تلك القواعد؟

بالقطع لا، فهي حضارة نبعت من المبادئ والتعاليم والقيم والمفاهيم الإسلامة، فلقد كانت دعوة الإسلام إلى القراءة وطلب العلم وإتقان العمل والتفكر والنظر والتدبر والتأمل في الخلق والكون والحياة، حافزا للتفوق والإبداع والعمل والاجتهاد في حقول المعرفة جميعا، وفي إنتاج العلم والابتكار فيه، وفي مجالات البناء الحضاري، فهي حضارة قامت استجابة للنداء الرباني، ووفق السنن التي وضعها الله سبحانه وتعالى لخلقه، ومن منظور القيم الإسلامية التي تجعل طلب العلم والتبحر فيه ونفع الناس به، من الواجبات الشرعية فطلب العلم فريضة على كل مسلم.

يجمل المؤلف منطلقات الحضارة الإسلامية في عدة أركان جوهرية هي كالتالي:

المنطلق الأول: الإيمان بالله إلها خالقا وبالإسلام عقيدة وثقافة ودافعا للحركة وحافزا للعمل، وإخلاص النية والقصد، ابتغاء مرضاة الله، وسعيا إلى نيل جزائه.

المنطلق الثاني: الحفاظ على الكرامة الإنسانية وحق البشر جميعا في الحياة الحرة الكريمة دون تمييز عرقي أو ديني.

المنطلق الثالث: الشعور بالأخوة الإنسانية التي دفعت المسلمين إلى التعاون مع غيرهم من أصحاب الديانات والعقائد، والانفتاح على ثقافاتهم وحضاراتهم، والنهل من علومهم، والاستفادة من مهاراتهم دون شعور بالاستعلاء أو الانزواء.

المنطلق الرابع: الربط بين طلب العلم والاجتهاد والإبداع فيه، وبين العمل لنفع العباد والبلاد، بتوظيف العلم في خدمة المجتمع والسعي إلى استثمار فوائده في تطوير الحياة باعتبار ذلك واجبا شرعيا، وإيجاد المناخ الملائم الذي يساعد على تقدم المعرفة ورقي الإنسان.

المنطلق الخامس: الحرية في البحث العلمي في جميع مجالات المعرفة بلا قيود، عدا الضوابط الشرعية، والتبحر في العلوم جميعا دون استثناء، من منطلق الإحساس بحرية الضمير، والتحرر من الرواسب التي كانت تجعل في العصور ما قبل الإسلام، العلم حكرا على فئة من المجتمع دون أخرى.

في هذا السياق وذلك النطاق كان لابد من أن تأتي الحضارة الإسلامية كنتاج لعملية تفاعلية بين إبداع المسلمين وإبداع غيرهم من أصحاب الديانات والعقائد من مختلف الأعراق والأجناس، الذين امتزج بهم المسلمون واختلطوا وتعايشوا معهم، وارتبطت حياتهم بهم، فكانوا نسيجا واحدا متماسكا، وعاشوا جميعا في كنف الأخوة الإنسانية الجامعة.

يذهب المؤلف مذهبا فكريا يدعو للتأمل في بحثه عن أصل وفصل الحضارة الإسلامية وهل فرضت سلطانها على الحضارات والثقافات الإنسانية التي كانت معاصرة لها بقوة الجبر والإكراه، أم بوسائل أخرى؟

قطعا إنها تعاطت مع الحضارات الأخرى بقوة العقل والتفاعل والتأثير الإيجابي، الذي يسلك مسلك التسامح والرفق واللين، ومعظم الذين كتبوا في تاريخ الحضارة الإسلامية يؤكدون هذه الحقيقة.

سطور الكاتب توضح لنا وبجلاء أن فكرة صدام وتصارع الحضارات إنما هي فكرة عبثية، ولم تعرف طريقها إلى الشرق، وعنده أيضا أن الفكرة هذه قد سيطرت على الحضارة الغربية، وتؤثر في العلاقات الدولية، ويذهب ضحيتها شعوب وأمم في جميع أنحاء العالم.

أما الحضارة الإسلامية في تكوينها ومنطلقاتها وخصائصها ومميزاتها وفي قيمها ومبادئها، فهي حضارة تستوحي روح الإسلام، وتأخذ من سماحة الإسلام، وتهدف إلى تحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية التي تكفل السعادة والطمأنينة للإنسان، وتضمن له حقوقه الأساس جميعا، وذلك قبل أن يهتدي الفكر السياسي الغربي إلى إصدار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وليس في هذا نوع من الانغلاق، ولكنها الطبيعة الخاصة بهذه الحضارة التي تجعل منها رافدا قويا للحضارة الإنسانية المعاصرة، ومصدرا للغنى والحيوية والتجدد الدائم ومسايرة الفطرة الإنسانية.

هل يمكن للمرء أن يسأل المؤلف عن المهمة الإنسانية العاجلة التي تقع الآن وهنا كما قال شكسبير ذات مرة، على عاتق العالم الإسلامي والمسلمين لا سيما في ظل نشوء وارتقاء القوميات، وما رأيناه في أوروبا الأيام القليلة الماضية من مكاسب مخيفة لليمين الأوروبي في الانتخابات الخاصة بالبرلمان الأوروبي، ذلك التيار الذي يؤمن بالفوقية العرقية، ولا يأخذ في حساباته سوى عوامل القوة دون أدنى اعتبار للأمور الأخلاقية والقيم والشرائع الأدبية أو الخير العام كما نسميه؟

يبين لنا الدكتور التويجري أن المهمة العاجلة للتفاعل الحضاري هي أن يشارك المسلمون بصورة جماعية في إيجاد مجتمع عالمي جديد يراعي الخصوصيات وطبيعة الثقافات وأنماط التقاليد لكل المجتمعات، فالعمليات السياسية والأحداث في عالم اليوم لها بعد كوني دولي متزايد، فما يحدث في جزء من العالم يؤثر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على الأحداث في مجتمعات بعيدة، فالمعلوماتية نشرت وعيا كونيا شاملا بالأحداث والمشكلات الدولية، في حين يظل السؤال عن ضمانة صياغة الوعي الكوني بشكل يتيح لكل الحضارات أن تسهم في صياغة الرأي العام العالمي، ولذا فإن الحصاد الحقيقي للتفاعل الحضاري هو الشروع في بناء نظام قيمي عالمي يراعي التنوع بين الثقافات واحترام هوية كل منها.

ماذا عن أهم تلك المجالات الداعية للتفاعل والحوار كما يراها المؤلف؟

يقدم لنا الدكتور التويجري طائفة من المجالات التي تفتح آفاق التلاقي الإنساني، وتعمق الوعي الوجداني بين البشر، من كل الأمم وكل الشعوب وكل القبائل، ومنها:

المجال الثقافي والحضاري: والحوار فيه يهدف إلى التعارف وتصحيح المفاهيم الخاطئة والصور المشوهة، كما يهدف إلى التفاهم على الجوامع المشتركة بين الثقافات والحضارات، والى التلاقح الثقافي والحضاري الذي ينتج الإبداع والتجديد.

المجال الديني: والحوار فيه يهدف إلى تعزيز القيم الدينية ونشر الفضائل ومكارم الأخلاق وتقوية الإيمان بالمبادئ القويمة التي جاءت بها الأديان السماوية، والتعاون على توعية الناس بأخطار الانحراف الفكري والسلوكي، والتطرف والغلو والجريمة بكل أنواعها.

المجال الاقتصادي: والحوار فيه يهدف إلى تطوير العلاقات التجارية بين الدول في إطار القوانين الدولية، وربما يحقق المصالح المشتركة فيما بينها، بعيدا عن أي نوع من الاستغلال، ودعم جهود التنمية الشاملة والمتكاملة خصوصا في الدول النامية، ومنع الاحتكار والاستغلال واستنزاف الموارد الطبيعية والمواد الأولية للدول الفقيرة، وإقامة أسس جديدة للتجارة الدولية لضمان العدل والإنصاف.

المجال السياسي: والحوار فيه يهدف إلى احترام قواعد القانون الدولي والالتزام بالشرعية الدولية، وإقامة العلاقات الثنائية بين الدول على أساس الالتزام والاحترام المتبادلين، والعمل من أجل استتباب الأمن والسلام في ربوع العالم، ومحاربة الإرهاب، ودعم حق الشعوب في الدفاع عن سيادتها وتحرير أراضيها.

والشاهد أن الحضارة الإسلامية عبر عصورها المتتالية وخلال دوراتها المتعاقبة، قد أثبتت أنها حضارة متجددة، تساير المتغيرات وتتكيف مع التطورات وتنفتح على الحضارات الإنسانية جميعا، وقد عرف المسلمون بناة الحضارة الإسلامية فكرة التقدم، التي هي محتوى التجدد المستمر والتجديد المتواصل، وأسهموا في تأصيلها، وعملوا على تجسيدها في حياتهم العملية. ولما دخل العالم الإسلامي في طور التراجع الحضاري، ونكص المسلمون عن العمل بفكرة التقدم، التي هي من صميم المبادئ الإسلامية، انعكس هذا الوضع على الحضارة الإسلامية، فتقلصت ظلالها وضعفت آثارها، ولكنها احتفظت بعناصرها ولم تنل تقلبات الدهر من خصائصها، بحيث كان وضع الحضارة الإسلامية انعكاسا لأوضاع المسلمين في العالم، على اعتبار أن الأمة الإسلامية هي صانعة الحضارة الإسلامية، وحاضنتها، فان تراجعت الأمة عن خط التقدم وضعف شأنها، كان التراجع والضعف مصير حضارتها، وتلك قاعدة مطردة لأنها من سنن الله في الكون التي لا سبيل إلى تبديلها.

أسئلة عديدة تطرحها قراءة سطور الدكتور التويجري لعل أهمها كيف العودة إلى مساقات النهضة العربية الإسلامية، والجميع يدرك أن التراجع الحضاري إنما بدا في الوقت الذي انسدت فيه أبواب الاجتهاد، ودخل العالم العربي قوقعة الماضي وبدون قدرة على المقاومة للخروج من الجب العميق الذي يشير إليه الكاتب الفرنسي الكبير اندريه مالرو في مذكراته الجميلة التي تحمل عنان «لا مذكرات».

أفضل ما يقدمه لنا رمضان الفضيل وقفة من النفس لاستعادة عظمة الماضي.