1229386
1229386
روضة الصائم

صناعة الجلود

31 مايو 2019
31 مايو 2019

اعداد :حمادة السعيد -

هذه الحلقات المكتوبة إنما هي إشارات سريعة وعاجلة، للفت الأنظار إلى قضية مهمة في زمنِ البطالة لتوجيه أنظار الباحثين عن العمل إلى المهن والحرف وعدم احتقارها أو التهوين من شأنها؛ فلقد حثّ الإسلام على العمل أيًّا ما كان نوعه، شريطة أن يكون بهذا العمل نافعًا لنفسه والآخرين غير ضار لأحد، ويكفي هؤلاء الذين يعملون بالحرف والصناعات شرفا وفخرا وعزة وكرامة أن أشرف خلق الله وأفضلهم وهم الأنبياء والرسل قد عملوا بحرفة أو امتهنوا مهنة.

ولقد أشار القرآن الكريم في آياته إشارات واضحة ومباشرة أو ضمنية تفهم في مجمل الآية إلى بعض الحرف والصناعات كذلك حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وحين يشير القرآن تصريحا أو تلميحا إلى أمر ما فهو أمر مهم وعظيم فالقرآن لا يتحدث إلا عما فيه سعادة وصلاح حال البشرية ومن الحرف التي أشار إليها القرآن الكريم في آياته ضمنيا هي صناعة الجلود في قوله تعالى في سورة النحل «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ». بل إن الإسلام وضع شروطا للانتفاع بجلود الأنعام وكيفية تطهيرها وصناعة الجلود ترتبط بها عدد من الصناعات بداية بمهنة دباغة الجلود وانتهاء بعدد من المهن والحرف التي تستخدم الجلود.

جاء في التفسير الوسيط للقرآن الكريم لمجموعة من العلماء بإشراف مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر قوله تعالى (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا):

وتلك آية أخرى ساقها الله، مبيِّنًا بعض نعمه المستوجبة لشكره والإيمان به.

والمعنى: أنه هداكم إِلى اتخاذ البيوت لكي تستريحوا وتسكنوا فيها بين أهليكم وأولادكم ولم يترككم تأوون إلى الغابات أَو تعيشون في الكهوف وقت إِقامتكم الدائمة، أما في الترحل والانتقال فقد ألهمكم ما يعينكم على تلك الحياة وهو ما ذكره تعالى بقوله: (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا): أي أرشدكم إلى صنع الخيام وضرب القباب في أَسفاركم، وهداكم إِلى اتخاذها من جلود الأنعام حيث:(تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ): تجدونها خفيفة الحمل قليلة الكُلْفة، فيسهل عليكم نقضها وحملها ونقلها إِذا ارتحلتم، فإذا ما أقمتم سهل عليكم ضربها للإقامة، فيها ما أَقمتم.

(وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ): أي وهداكم كذلك إلى أن تتخذوا من أصواف الغنم وأوبار الإبل وأشعار المعز أثاث المنازل من البسط والفرش والكساء والغطاء والخيام، وما قد تحتاجون إليه في إقامتكم وأسفاركم تتنعمون به أنتم، أَو تتاجرون به فتتسع أرزاقكم وتنمو بذلك أموالكم وتزداد ثرواتكم وتتمتعون به على أي وجه بما ذكر إِلى حين انقضاء آجالكم وانتهاء أعماركم أو حاجاتكم.

وجاء في تفسير «الروح والريحان» لمحمد الأمين :(وَاللَّهُ) سبحانه وتعالى (جَعَلَ لَكُمْ) أيها الناس (مِنْ بُيُوتِكُمْ) المعهودة التي تبنونها من الحجر والمدر، (سَكَنًا) والله سبحانه وتعالى هو الإله الذي جعل لكم أيها الناس من بيوتكم التي هي من الحجر والمدر مسكنًا تقيمون فيه، وأنتم في الحضر، (وَجَعَلَ لَكُمْ) سبحانه (مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ) جمع نعم بالفتح، وهو مخصوص بالأنواع الأربعة التي هي الإبل والبقر والضأن والمعز (بُيُوتًا) أخر مغايرة لبيوتكم المعهودة، وهي الخيام والقباب والأخبية والفساطيط من الأنطاع والأدم. والمساكن على قسمين:أحدهما: ما لا يمكن نقله من مكان إلى مكان آخر، وهي البيوت المتخذة من الحجارة والخشب ونحوهما.

والقسم الثاني: ما يمكن نقله من مكان إلى مكان آخر، وهي الخيام والفساطيط المتخذة من جلود الأنعام، وإليها الإشارة بقوله: (تَسْتَخِفُّونَهَا)؛ أي: تجدونها خفيفة، يخف عليكم نقضها وحملها ونقلها، (يَوْمَ ظَعْنِكُمْ)؛ أي: وقت ترحلكم وسفركم، و(وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ)؛ أي: وقت نزولكم في الضرب والبناء؛ أي: وجعل لكم قبابًا وفساطيط من جلود الأنعام وأشعارها وأصوافها وأوبارها، تستخفون حملها يوم ترحالكم من دوركم وبلادكم، وحين إقامتكم بها، وفي «البيضاوي»: ويجوز أن يتناول المتخذة من الصوف والوبر والشعر، فإنها من حيث إنها نابتةٌ على جلودها، يصدق عليها أنها من جلودها.

ونظرا لانتشار الصناعات المرتبطة بالجلود سواء بسيطة أو معقدة فقد أهتم الإسلام ببيان حلها من حرامها بل وقد تناول الحديث عن المشتغلين بحرفة الدباغة وهي أول حرفة تتعامل مع الجلود بل وكيفية دباغتها لتطهيرها جاء في كتاب «نهاية الرتبة في طلب الحسبة» لمحمد بسام المحتسب: في الدباغين ينبغي أن يعرف عليهم عريفاً ـ مسئولا رقابيا عليهم ـ ويأمره أن لا تدبغ جلود المعز إلا بالقرض اليماني، ويكون دباغها بوزنها من القرض لا على عدد الجلود، وحد كل دست منها أربعون جلداً، ويقيم في الحوض ثلاثة أيام، وينقل إلى حوض آخر، وعليها من القرض مقدار وزنها الأول، ويفعل بها كذلك أربع دفعات لتنقى من شحومها، ومن قصد الغش والتدليس دبغ الدست ثلاث دبغات، ويغش الثالث بالعفص، وهو مضر بالجلود يقيناً ومهلكها، وعلامة غش الدست أن جلودها تسود في الشمس، ودباغ الصيف أجود من دباغ الشتاء وأنجب. وقد تعرض الكتاب كذلك لدبغ جلود الخيل والحمير والبغال وبيان حلها وحرامها.

وفي دباغ جلود البقر ينبغي أن يعرف عليهم عريفاً ثقة عارفاً بمعيشتهم، ويأمره أن يمنعهم أن يخلطوا جلود البقر المذبوحة بجلود الميتة، ويأمرهم بدباغ كل عشرة منها بويبة دقيقة والماء العذب إلى أن يزول شعرها، ثم يدبغها بويبة دقيقة وويبة ملح، تقيم فيه ثلاثة أسابيع، وما زاد على مقدار حر الزمان وبرده إلى العفص، فإن كانت الجلود كباراً، وكلها ثيران، دبغت كل جلد باثني عشر رطل عفص بالقلعي، وإن كانت بقراً متوسطة، كان لكل جلد منها ستة أرطال، والعجول بأربعة أرطال كل جلد، وما زاد على ذلك زائداً في جودة الجلد، ومن خالف أُدب وحوسب.

وجاء في «موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي» لمجموعة علماء: الدبغ: ما يدبغ به الجلد، وهو: معالجته بمادة ليلين ويزول ما به من رطوبة ونتن.

وجلد الميتة - وهي: ما زالت حياتها بغير ذكاة شرعية - قبل دباغته لا يجوز بيعه، أما بعدها فيجوز، وهذان أمران أجمع عليهما العلماء.

ويثبت تحريم الانتفاع بجلد الميتة قبل الدباغ باتفاق أهل العلم، إذ لا نعلم أحدا أرخص في ذلك، إلا ما اختلف فيه عن الزهري.

وقال الطحاوي: لم نجد عن أحد من العلماء جواز بيع جلود الميتة قبل الدباغ. وقال الجصاص :اتفقوا أنه لا ينتفع بالجلود قبل الدباغ. وقال شمس الدين ابن قدامة :ولا يجوز بيعه قبل الدبغ، لا نعلم فيه خلافا ,العيني يقول:ولا بيع جلود الميتة قبل أن تدبغ أي: ولا يجوز بيعها قبل الدباغة. وقيد بقوله: قبل أن تدبغ؛ لأن بعد الدبغ يجوز، بلا خلاف بين الفقهاء.

وهناك من يرى بعدم جواز الانتفاع بجلود الميتة مستشهدين بقوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) ووجه الدلالة: أن اللَّه عز وجل حرم الميتة في كتابه، فكان ذلك واقعا على اللحم والجلد جميعا، وجاءت سنة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالترخص في جلد الشاة الميتة بعد الدباغ، فوجب استثناء ذلك من جملة التحريم، وبقي حكم الجلد قبل الدباغ على الأصل وهو التحريم.

وهذا يتطلب اهتمام المسلمين بهذه المهنة وعدم الاعتماد على ما يأتي من غير المسلمين مخافة أن يكون فيه جلود محرمة فهذا هو هدي نبينا فمن اتبع هذا الهدى عاش كريما.