المنوعات

عمان تكتشف المعرفة.. وتبنيها من جديد

29 مايو 2019
29 مايو 2019

هذه الأيام وأنا أتابع فوز راوية «سيدات القمر» لجوخة الحارثية؛ تذكرت -أيام معرض مسقط للكتاب الماضي ـ سؤالاً وجهته لي مقدمة برنامج ثقافي في التلفزيون، هل فعلاً نحن العمانيون لا نقرأ؟ وكانت إجابتي حينها: نحن نقرأ مثل غيرنا من الأمم، وننتج معرفة باستمرار، لكن من الطبيعي؛ في العلوم والفنون الحديثة سيتأخر إنتاجنا، وضربت على ذلك مثالاً بالرواية، وقلت: يوجد لدينا كتّاب رواية، لكن ما ينقصنا هو الكاتب الذي يصنع مشروعاً متواصلاً في بناء الرواية، ولا يقف عند حد الإبداع في رواية أو روايتين.

وفوز «ٍسيدات القمر» جعلني أعيد قراءة ما قلته قبل أشهر، اليوم في عصر الانفجار المعرفي المتواصل عبر منافذ الشبكة العالمية للمعلومات؛ لا يشترط أن يملك الإنسان مشروعاً طويلاً في فن من الفنون لكي يترك بصمته على الثقافة الإنسانية، فيكفي أن ينتج أحدنا عملاً فذاً يسهم به في البناء الثقافي الإنساني، في أي فرع من فروع الثقافة، وأتصور أن رواية «سيدات القمر» حققت ذلك.

رغم ذلك وجدنا من يجادل في قيمة هذا الفوز، وكأنه مجرد ضربة من ضربات الحظ التي قد لا يجود الزمن بغيرها، وهذا قول من لا يعلم طبيعة المعرفة في عمان، ولم يسبر تطورها الثقافي.

وهذا الجدل ليس جديداً على السمع العماني؛ فلطالما قيل ذلك من قبل، فقديماً.. روى الجاحظ: (لربما سمعتُ من لا علم له يقول: ومن أين لأهل عمان البيان؟ وهل يعدّون لبلدة واحدة من الخطباء والبلغاء ما يعدّون لأهل عمان؟!). وإن كان الجاحظ قد فند هذه المقولة برده النابع من سعة علمه بالأدب العماني؛ فإن العمانيين لا يسعون غالباً إلى تفنيدها بالرد المباشر، وإنما يكون دائماً ردهم بالإنتاج والعمل، فعبر محطات التاريخ المتتابعة كان الإبداع العماني حاضراً بالأصالة.

وهنا يطول المقام لاستحضار كل تلك المحطات، وهي محطات تبدأ منذ ما قبل التاريخ، حينما كانت أرض مجان هي الأم التي حضنت أسلاف السومريين، ومنها أخذوا أصول المعرفة إلى العراق؛ بما فيها المعرفة اللغوية والدينية.

وقبل الإسلام.. أخذ المذهب النسطوري المتفرد في الطرح اللاهوتي عن عموم الإيمان المسيحي طريقه إلى بلاد العرب عبر بوابة عمان، ومنها انتشر إلى سائر جزيرة العرب، وعندما ظهر الإسلام أقر عموم معتقد هذا المذهب؛ القائم على بشرية عيسى المسيح وأمه مريم.

أما في الإسلام فحدث عن جليل أعمالهم في خدمة الثقافة الإسلامية حتى يطول بك المقام، فمثلاً لما انقسم المسلمون بعد نبيهم الأكرم؛ فإن العمانيين تبنوا مشروع الأمة الذي يروم وحدتها ونشر العدل فيها وتحقيق الشورى بينها، فكان جابر بن زيد الأزدي العماني رأس هذا المشروع، وهو التابعي الكبير المرتضى من كافة أفراق الأمة الإسلامية، وظل فكره في عمان، وغيرها، يمد المجتمع بالتسامح والسلام.

وكما اتسمت عبقرية العمانيين في التعامل مع الدين بتحويله إلى مشروع إنساني؛ فقد تجلى ذلك أيضاً في أعمال الخليل بن أحمد الفراهيدي؛ إمام اللغة العربية بلا منازع، فهو واضع «معجم العين» أول قاموس في لغة العرب، وهو مكتشف بحور الشعر العربي.

ويأتي أبو محمد عبدالله بن محمد بن بركة البهلوي في القرن الرابع الهجري ليحد من طبيعة الخلاف الحاصل في الفقه الإسلامي عبر نظريته الأصولية الترجيحية الفذة، والتي ضارعت النظرية الأصولية للإمام محمد بن إدريس الشافعي، حتى قال فيه العالم الأزهري محمد حسام الدين: (الشيخ العلامة أبو محمد عبدالله بن بركة... إمام مجتهد مستقل بتأصيل الأحكام، لم أرَ بياناً أشبه ببيان الشافعي من بيان هذا الشيخ، فهو كأنما ينظم الدر وينثر الحكمة)، وقد شكّل ابن بركة العقل الفقهي في عمان، والذي يعتبر أحد أنظمة التفكير الكبرى في مجال الفقه على مستوى العالم الإسلامي.

ومثله معاصره أبو سعيد محمد بن سعيد الكدمي؛ الذي قدم نظريته العقلية في الفقه الإسلامي، والتي أمدت الاجتهاد الفقهي آفاقاً رحبة، كما شكّل رأيه العرفاني؛ منبعاً ثرياً للتصوف الإسلامي، ولم أجد حتى الآن على مستوى التفكير الإسلامي من استطاع أن يربط بين الاستنباط الفقهي والإلهام الصوفي عبر رباط العقل مثله.

وفي القرن الخامس الهجري تقريباً.. ظهر المؤرخ الكبير سلمة بن مسلم العوتبي الصحاري، الذي أعاد كتابة التاريخ العماني والمنطقة من جديد، وجعله تأريخاً له منطقه الخاص، وأعاد بناء المعرفة القبلية في عمان، ولم تعد نظريته محصورة في عمان، بل أصبحت معتمدة في التنظير القبلي على مستوى الجزيرة العربية.

وفي القرن السادس الهجري.. يظهر الفيلسوف أبو بكر أحمد بن عبدالله الكندي بنظريته «الجوهر المقتصر» والتي أعاد فيها بناء «التصور الذري» لبنية الكون، والتي فاق فيها -رغم تقدم الكندي- على الفيلسوف الألماني فيلهيلم لايبنتز (ق18م)، في مجال التدليل بها على افتقار العالم إلى محدِث.

وفي مجال الشعر.. يبرز سليمان بن سليمان النبهاني بشعره الفحل، والذي قارب به شعر أصحاب المعلقات، رغم المسافة الزمنية الطويلة التي بينه وبينهم، إذ عاش في القرن التاسع الهجري، حتى يمكن أن يقال عنه: بأن شعره غطى على شعر غيره من العمانيين؛ رغم كثرتهم.

ثم تظهر في الطب أسرة آل هاشم في الرستاق، وتتشكل لهم مدرسة في تشريح العين، لم يقصدها الناس للعلاج فقط، بحسب أصول مهنة الطب العلمية في ذلك الوقت، وإنما قصدها كذلك طلبة العلم من عمان وخارجها للدراسة على يد حكمائها المتمكنين.

وأما سيرة أهل عمان في البحر وسننه فهي لا تنقطع، ويكفي بأن ظهر فيها على المستوى العالمي أحمد بن ماجد السعدي، صاحب التآليف الجليلة في مجال علوم البحر، والتي أصبحت تدرس في «علم البحار».

وعلى مشارف العصر الحديث يبرز رائد الإصلاح الديني في عمان؛ ناصر بن جاعد الخروصي، والذي قام بشرح تائيتي ابن الفارض في التصوف شرحاً متميزاً غير مسبوق إليه، كما يرى محقق كتابه «إيضاح نظم السلوك إلى حضرات ملك الملوك» الدكتور وليد خالص.

ثم يأتي ابن رزيق حميد بن محمد النخلي فيؤرخ لتأريخ عمان الحديث، وعبر مؤلفاته عرف المؤرخون والمستشرقون الغربيون تاريخ عمان والمنطقة، ولولاه لغاب هذا التاريخ، ولما فتحت أبوابه أمام الحضارة الأوروبية.

ولا ننسى نور الدين عبدالله بن حميد السالمي الذي قدم مشروعاً سياسياً متكاملاً عبر كتابه «تحفة الأعيان»، كما يصفه المستشرق البريطاني جون ولكنسون، بالإضافة إلى أنه أعاد بناء معظم العلوم الدينية المعهودة في عصره، لتصبح مادة مرجعية للعمانيين وغيرهم حتى اليوم في المجال الديني.

إن الحضور العماني في مجال المعرفة بشتى أنواعها لم يفتر في أية حقبة من حقب التاريخ، ولذلك فإن إبداع العمانيين في هذا العصر؛ ليس فلتة يتيمة، ولا نبتة لا حظ لها من الرسوخ، وإنما هو شجرة جذورها ضاربة في الأرض، وفروعها فارعة في السماء، تؤتي أكلها كل حين.

وفي هذا العصر حيث انفتحت المعرفة على مصراعيها؛ فإن صاحب الجلالة السلطان قابوس حفظه الله وأمد في عمره، تبنى المعرفة بكونها إحدى دعائم وجود الإنسان على هذه الأرض، حيث أصبح العماني يثبت حضوره في المحافل الدولية، ولذلك فإن عطاء عمان لا يقتصر على فرع من فروع الثقافة، وإنما هو حالة وجودية يمارسها العماني؛ أينما حل وارتحل.