المنوعات

مسـافـة كـافـية للعقـيلي.. سـلاسـة السـرد

29 مايو 2019
29 مايو 2019

القاهرة «العمانية»: تتنوع قصص «مسافة كافية» للكاتب الأردني جعفر العقيلي في مضامينها، غير أنها تشترك في سلاسة السرد وحيويته، وقوة اللغة وحضورها، وجماليات الحدث ومفارقاته. وتقارب قصص المجموعة الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، مواضيع تتعلق بواقع الناس وحياتهم اليومية وهمومهم الذاتية والمعيشية والاجتماعية والسياسية، وتتسم بنائياً بأن المقدمات التي تبدو عادية ومنطقية فيها، تقود إلى نهايات غير متوقَّعة.

تشكل لغة العقيلي جزءاً أساسياً في بنية القصة، حيث إنها قادرة على التوالد والتشكل واكتساب أبعاد رمزية ودلالية وإشارية، وهي تنفتح على آفاق مبتكرة تنأى عن تكرار مفردات قاموسية مجترّة. ويجترح القاص لغة فصيحة -بخاصة في الحوارات- قريبة للدارجة المحكية، متجنّباً الانزلاق في وهدة «العامّية»، وهو ما جعل الحوارات منسجمة مع وعي الشخصيات القصصية وواقعيتها.

وتبرز في عدد من القصص سخرية سوداء تتأتى من المفارقة في الموقف الذي تتصاعد فيه الأحداث دراماتيكياً، بشكل يدفع للضحك حيناً، وللبكاء أحياناً. كما تنفتح القصص على البعد الإنساني، وتتخلص من محدودية الزمان والمكان أو تتابعهما التعاقبي لصالح التتابع النفسي، حتى صار الحدث مشرعاً على التأويل ومحافظاً على روح المتعة والإدهاش، رغم أنه يلتصق بالواقع المعاش؛ منه ينطلق وإليه يعود.

ورغم أن قصص المجموعة، التي راوح السرد فيها بين ضميرَي المتكلم والغائب، تتشبث بالعديد من عناصر القصة الكلاسيكية، إلا أنها تتعامل مع هذه العناصر وفق أسلوبية تتجه إلى التقديم والتأخير في الزمن عبر استخدام تقنيات المونولوج والديالوج، وتداعي الحدث وفق الحالة النفسية للبطل لا بحسب الترتيب التسلسلي الذي يبدأ من نقطة وينتهي بها.

وتُظهر مجموعة «مسافة كافية» التي تزين غلافها لوحة للفنان هيثم سعيد، اهتمامَ العقيلي بشخصياته القصصية، وهو يقول في هذا: «أبطالي يعيشون فِيّ، هم أشبه ما يكونون بأصدقاء افتراضيين لكلٍّ منهم ملامحه الخاصة، أعرفهم جيداً لأنهم شظايا أنايَ أو هم أنَوَاتي المتعددة في تجلّياتها المتعددة». ويضيف: «بطلي في الغالب ضائع الذات، يبحث عن نفسه وسط ركام من الوجوه المتشابهة أو غائبة الملامح. إنه بطلٌ تكرار، أو بطلٌ أنموذج، بطل تراه ولا تراه في آن، بطل قد يكون أنا، وقد يكون أنت».

وينظر العقيلي إلى الكتابة بوصفها أكثر من مجرد مسألة لغوية، موضحاً: «أتجنب الثرثرة في السرد، ولا تستهويني ضروب البلاغة وفتل العضلات في التعبير. بساطة اللغة هي التي أستعين بها لأقول ما لديّ». ويضيف بقوله: «لكنني أحتفي بالتفاصيل، تفاصيل المشهد والحالة النفسية المسيطرة في النص، تتلاشى المسافة بين الكتابة والتقاط الصورة لدي، وأجدني أحمل كاميرا على كتفي وأنا أكتب، أرصد كل نأمة ورفّة جفن وأتتبع العلاقة بين البطل وما يحيط به من مفردات تؤثث المكان، هنا تحديداً يكون لكل مفردة دور ووظيفة، فإن لم تؤدِّ المطلوب منها فلماذا أتمسك بها؟!».

وفي الوقت الذي يؤمن فيه العقيلي أن الكتابة في أحد وجوهها هي «فنّ الحذف»، فإنه يكتب القصة كما لو كان في ورشة عملية، لكنها «ورشة ذاتية» على حد تعبيره؛ «الذات فيها هي المحاضِر والمتلقّي، طارحُ الأسئلة والمجتهِد في تقديم الأجوبة، المعلمُ والتلميذ»، مشيراً إلى أن الفروقات و«الجِراحات» التي يجريها على النص نفسه في نُسَخِه المتعددة يمكن للقارئ تتبّعها بسهولة وعقد المقارنات بينها.

يُذكر أن العقيلي يعمل سكرتيراً للتحرير في صحيفة «الرأي» الأردنية ومشرفاً على صفحات الملحق الثقافي فيها. أصدر نحو عشرين كتاباً، منها أربع مجموعات في القصة هي: «ضيوف ثقال الظل» (2002)، و»ربيع في عمّان» (2011)، و«تصفية حساب» (2014)، و«كمستير» (2015). ومجموعة شعرية بعنوان «للنار طقوس وللرماد طقوس أخرى» 1996)، وكتابين في الحوارات هما: «في الطريق إليهم»، و«أفق التجربة».