1229270
1229270
المنوعات

الشاعر سيف الرحبي:شكـلت الصحـراء في شعري بؤرة الرمز والواقع ووقود المخيلة

27 مايو 2019
27 مايو 2019

اعتبر أن الفساد دمر مسار المدينة العربية ..

حاوره : عاصم الشيدي -

منذ ديوانه الأول «نورسة الجنون» مطلع ثمانينات القرن الماضي والشاعر العماني سيف الرحبي منهمك في محاورة الجبال الشاهقة والصحاري الجرداء من الحياة ينادي هوامها، وسحرتها، ويتربص خيالات المغيبين وسط أسرارها وأساطيرها ليكتب ملاحم إنسانية تحتفي بالألم وتتأمل الحياة والموت عبر منظومة أسئلة لا تنتهي.

«أيتها الجبال بيني وبينك ميثاق ولادة وموت» ويخلص سيف الرحبي لذلك الميثاق كما يخلص لكل أمكنة الطفولة وخيالاتها في الفضاء العماني الذي يراه أسطوريًا ومأهولا بالحكايات التي تلهم الشعراء والساردين. ورغم أنه مسكون بالحس الفجائعي إلا أن يبقى على أمل بصيص ضوء يأتي من آخر النفق ويكرر «ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل».. في هذا الحوار يطرح سيف الرحبي الكثير من الرؤى التي راكمتها الخبرة والتأمل ويتحدث عن تجربته الشعرية.

الموت ليس مكملا للحياة إنه بُعدها الحيوي الخّلاق وأسّها العدمي -

• يحضر المكان العماني في نصوصك بشكل كبير جدًا، إنه البطل إذا ما تحدثنا بلغة الرواية، لماذا كل هذا الإغراق والالتصاق بالمكان وحيواته؟

المكان بحيواته وطفولاته، بتجلياته المختلفة، بوحشيته الكاسرة ورقته كمرجع لذاكرة تتشظى، ويوغل هذا التشظي مع تقادم الزمان ومرور سنوات العمر.. المكان الأول الذي يفتح الكائن نظرته الأولى على تخومه وأعماقه، بمنحاه الواقعي الحسي والماورائي المتلاشي خلف الحُجب والغبار. هذا المكان لابد من أن يكون المكون الرئيسي لبنية النص والكتابة ويختلف حضوره في بنية الكتابة واللغة من كاتب/‏‏ شاعر إلى آخر، خاصة إذا كان هذا المكان بفرادة المكان العُماني الذي يفرض حضوره الآسر، والوحشي بقِدمه، وبتضاريسه الجيولوجيّة التي تحمل أبعادا روحيّة وأسئلة حادة بالمعنى الوجودي، وبمعنى إقامة الكائن البشري على هذه الأرض التي يشوبها الغموض والنأي. بهذا المنحى المكان العُماني بتضاريس طبيعته المتنوعة والمختلفة يمكن أن يكون ملهم «واقعيّة سحريّة» بشكل سلس وطبيعي من غير ذلك الجهد في اختراع عوالم المخيّلة واستحضارها.. يكفي توفر الموهبة والقدرة التعبيريّة ليأخذ السرد سياقه الشعري والقصصي وكذلك السينمائي، فمثل هذا الفضاء السحري محفزّ إبداع وخيال لا تحده الحدود والضفاف.

يمكن لمثل هذا المكان أو الأمكنة أن يلعب دور البطولة في الكتابة ومقترحاتها التعبيريّة.

بالنسبة لي أيضا تشكل الوعي البدئي لديّ في تخوم المكان والبيئة العُمانية. فوسمت بميسمه العميق الذي أشرت.

• لكنك تنقلت كثيرًا بين مدن وعواصم عربية وأوروبية بدءا من القاهرة ومرورًا إلى دمشق والجزائر ثم باريس وهولندا ولم يحضر مكانها في قصيدتك بنفس القدر؟

نعم، رغم معيشي اللاحق في بيئات مختلفة أخذتُ منها ومارستْ تأثيرها على نحو من الأنحاء. الإنسان الملتاث بلوعة الكتابة والاختلاف يُولد بعد ولادته الرحميّة والمكانيّة الأولى، ولادات متعددة تحمل في أحشائها بذور ميتات وغيابات كثيرة باتجاه الغياب الحتمي الذي لا عودة بعده كما يقول أبو العلاء المعري:

«تحطمنا الأيام حتى كأننا

زجاج ولكن لا يُعاد له سبْكُ»

ولذلك يبقى مكان مرابع الطفولة هو المكان الآسر لدي مهما تعددت الأمكنة الأخرى.

• لكن المكان في نصوصك تجاوز حيز الاحتفاء ليكون مكونًا أساسيًا خاصة إذا ما تحدثنا عن الصحراء بشكل خاص وكذلك فضاء المقاهي في الكتابات الحديثة؟

بالنسبة لي المكان هو المسرح الذي تعوم على سطحه وتخترقه الحيوات البشرية والحيوانيّة الأخرى. وعبر هذا المسرح المتموج والمتعدد الدلالة ألاحظ الفاعليات التدميرية للزمن على الوجوه والمنازل والممالك، إذ يشكل قلب الصيرورة ومسارها. وبما أننا أبناء ما عُرف بالجزيرة العربيّة عُمان والأقاليم الأخرى، تشكل الصحراء رمز للاوعي الجمعي، بالنسبة لنا مثلما يشكل البحر ذلك الرمز بالنسبة للإنجليز مثلًا، ورمز الصحراء ينسحب ربما على الأقوام العربيّة. فقد كان للصحراء حضور أقوى من بقية العناصر المكانيّة. لا أقصد الحديث أو الكتابة عن الصحراء بالمعنى المباشر، وإنما حضورها الرمزي المتعدد الوجوه والثيمات. شكلت الصحراء بالنسبة ليّ ولصنيعي الأدبي ـ والبحر ليس إلا صحراء أخرى من المياه والهوام ـ بؤرة الرمز والواقع ووقود المخيّلة، إذ امتدت إلى أن تلفّ العالم والوجود بظلامها الكثيف ووحشيتها، وأن تكون أيضًا مكانًا للحريّة الشاقة حتى لو غرقت في بحر من السراب.

هكذا تطوي الصحراء المدينة «الحديثة» تحت جناحها كمفردات ومناخ وأوهام ترافق الكائن في رحلة عبوره إلى العوالم الأخرى حين يجئ قدر انتقاله ورحيله الأخير... وضعت «الحديثة» بين مزدوجات تحفظًا على المدينة العربيّة التي لم تستكمل عناصر حداثتها التي تجد مثالها في حضارة الغرب المتعدد واليابان.

فالمدينة العربيّة التي تريفت بالمعنى السلبي للكلمة، ودمر مسارها الطموح النهضوي، الفساد والاستبداد والحروب حتى أضحت على ما هي عليه.. أما المقهى فيشكل بالنسبة لي، ردحًا مديدًا من الزمان وفي أماكن مختلفة، بيتا آخر ألوذ به سحابة النهار للقراءة والكتابة ولقاء الأصدقاء، إنه مسرح حياة أكثر أهميّة من المنزل الذي يقتصر دوره على الأرجح لراحة النوم، ليستيقظ النائم في صباحات المُدن مخترقًا الأزقة والشوارع الكبيرة الأنهار -إن وجدت- ليستقر في المقهى الذي يرتاد ويُحب.

وثمة قصص وحكايات مركزها المقهى تصل حد الغرابة مع الأصدقاء ومعارف، كتبت بعضها والآخر الزاخر أكثر، ينتظر الكتابة والتعبير.

• قصيدتك تغرق أحيانًا في الفلسفة وأسئلتها العميقة: أسئلة الموت والحياة ومصائر الإنسان.. هل تحتمل القصيدة كل هذا الحضور الفكري والفلسفة الوجودية؟

أسئلة الحياة التي لا بد تتناسل إلى أسئلة موت ومصير، بدئيا هجست بها هجسًا عفويًا في تلك الطفولة الغاربة بين ربوع الجبال العُمانية وصحرائها المحفزة لمثل هذه الأسئلة. بداهة رافقتني لاحقًا بأشكال مختلفة، عبر توّسل القراءة والوعي في قلب المتاه الحياتي والوجودي. وظل سؤال المعرفة في أبعادها الشعريّة الروحيّة والجماليّة هو سؤال لم ينقسم إلى ثنائيات، بقدر ما توحّده هواجس ونزوعات مشتركة. فالشعر الممعن في صحراء وجوده، ذو بعد فلسفي بالضرورة وكذلك الفلسفة. والسؤال الفلسفي وهاجسه هو سؤال الوجود والأدب والشعر والسينما في إنجازاتها الكبيرة. وهذا البعد الفلسفي والتأملي يحدد حضارة الشعر وينتشله من التكرار والتوليدات اللفظية التي تؤدي إلى الفراغ بمعنى الفقر الروحي وليس الامتلاء على نسق الفلسفات الآسيويّة.

لكن هناك مسألة أساسية في زعمي، ألا تكون المعرفة، سواء كانت ذات بعد فلسفي أو غيره، مُقحمة على النص والكتابة، بقدر ما هي مُذابة في النسيج الكلي للكتابة.

الموت ليس مكملا للحياة كما عبر البعض، إنه بعدها الحيوي الخّلاق وأسّها العدمي. تلك الحياة التي نبتت كجملة اعتراضيّة أو عرضيّة بين فراغين كبيرين أو عدمين ما قبل الولادة والموت. «تلك الملحمة من العبث والصخب والعنف».

• تتميز قصيدة سيف الرحبي ببراعة بناء الصورة الشعرية.. كيف تستطيع توليد كل هذه الصورة الساحرة في نصك المختزل أو ذلك النص الملحمي؟

إذا كان المكان مكون لبناء عالم الكتابة الابداعيّة وثيمة أساس، فالصورة هي رافعة اللغة وعناصرها إلى مستويات التحقق الإبداعي والجمالي في استواء النص اللاحق. ضعف الصورة بالضرورة يؤدي إلى ضعف وانهيار كامل النص إذ يمكن أن يتحول إلى ثرثرة وكلام مُعاد ومكرر. خصب الصورة ومفارقتها للغة الاستعمالية وللسائد بانبلاجها من سماء المخيّلة التي خامتها الأولى الوقائع والأحداث البشرية الصغيرة، اليومية كما المفصليّة والكبيرة. كل شيء قوامه الصورة في الأدب والفن.

وكي لا يمضي الكلام على عواهنه، فالصورة الثرية لا تكتسب ثراءها إلا من انتظامها في مجمل النص واستوائها لبنية المناخ العام للكتابة وإلا تحولت الكتابة إلى ركام صور من غير تلك العلائق الدقيقة التي ينتظم فيها النسيج الفني والجمالي العام.

• بدوت مؤخرًا مسكونًا بالنثر أكثر من الشعر، رغم أن نثرك بقي محتفظا بروح الشعر ومأهولا به؟

منذ بداياتي في رحلة الكتابة والحياة، أي عبر أربعين عامًا، لم ينفصل هاجس ما دُعي بالنثر عن الشعر. ولم أكن أهجس أو أرى تلك الثنائية التصنيفية على النحو الذي طُرح لدى البعض. والكتب التي أصدرتها منذ مطلع الثمانينات من القرن الماضي تشي وتفصح بذلك.. لكن سؤالك يكتسب خصوصيته من الكتب في السنوات الأخيرة التي مالت إلى فضاء النثر أكثر وإن كانت مأهولة بأخيلة الشعر، صوره ومبانيه: منذ مطلع التسعينات ومحاولة استقراري في وطني عُمان، اتخذت الكتابة عندي منحى آخر لا يتقاطع مع ما سبقها، لكنه يوسع رقعة التعبير ويدفع بها إلى تخوم وضفاف أكثر شساعة وانفتاحًا.. أو مثلما وصف سعدي يوسف ديوان «جبال» بأنه انعطافه في مسيرة الكتابة عندي.. ربما لأنني كنت أقارب المكان العُماني وهو مكان ملحمي بغموضه واتساعه اللانهائي، من الخارج مقاربة (نوسالجيه) مفعمة بالفقد والحنين أكثر مع معايشتي لهذا المكان بتضاريسه المختلفة، وذلك الحوار اليومي مع الأوابد بحضورها الساحق. «أيتها الجبال بيني وبينك ميثاق ولادة وموت» كان عليّ أن أتوسّل المخيلة والكتابة. وكي لا يسحقنا المكان الأزلي بحضوره الرهيب وتقلبات أزمانه، علينا محاولة استئناسه وترويضه عبر التعبير والكتابة كمن يقدم أضاحيه لآلهة أسطوريّة كي يتجنب بطشها وانتقامها.

• أيضا بت تكتب أدب الرحلة واليوميات بشكل كبير، رغم أنك تحولها إلى نصوص تأملية في المكان وبشره أكثر من فكرة وصف المكان وصفًا عينيًا؟

نعم. حتى ما وُسم بأدب اليوميات والرحلة، لا أكتبه وفق المتداول والمعروف، انه يلبي حاجة روحية وفكرية ملحة، كي أقول رأيًا تجاه العالم الراهن العاصف بأحداثه ومجازره عربيًا على الخصوص، وتجاه التاريخ والأفكار. بطبيعة الحال، أثر الأمكنة والمناخات والثقافات يتردد صداها في جنبات الكتابة كجزء من هذه الرؤية التي أحاول أن أقارب بها كارثة عصرنا الحديث، والانحطاط العربي على كافة الأصعدة، هو جرح الكتابة والضمير. بمعنى آخر، لا أرى جدوى من الكتابة الرحليّة على الطريقة «المسالكية» قبل هذا الانفجار التكنولوجي الذي جعل المرء في أي بلد من العالم يفتح زراً، وتنهال عليه الأماكن والمعلومات.

يوميات الرحلة، ذريعة لقول شيء آخر. ربما كتابي الأخير «صالة استقبال الضواري» يفصح أكثر عن هذا السياق.

• من وجهة نظرك، هل تراجع الشعر أمام الحضور الكبير للرواية؟

لم يشغلني كثيرًا ذلك الصراع المفتعل، بين الرواية والشعر.. وأتذكر حين صدر كتاب الدكتور جابر عصفور، كتبت مقالًا سجاليًا، لا يتبنى الصراع والإقصاء.. أصبحت الفنون أكثر رحابة وتعقيدًا في تداخلها وهجانتها..

هذا لا ينفي أن الفن النثري المسمى رواية أكثر حضورًا لعوامل كثيرة. لكن الجيد والحقيقي فيه قليل مثل أي فن آخر وأكثر، لأن المشهد الروائي في معظمه دخل دائرة الاستعراض والاستهلاك في طحنها لروح الخلق والجمال.

• البعض يقول بتراجع الشعر أو أنه صار نصًا نخبويًا جدًا؟

أعتقد أن الشاعر مثل أي أديب وفنان لا يكتب بشروط الجمهور ولا بمواصفات النخبويّة. الشعر على الخصوص له ذلك المنحى النخبوي من زمن سحيق، ربما منذ سوق عكاظ فيما دُعيّ بالعصر الجاهلي، وهو عصر مضيء على صعيد الشعر والقيّم والإبداع.

فتلك المعلقات وما يشبهها، المضيئة بالصور العظيمة والرؤى الزاخرة بغموض الوجود ولغز الحياة والموت والغياب، لا أعتقد أن الجميع كان يفهمها رغم سليقة اللغة وصفائها، فما بالك بالأزمنة اللاحقة وصولًا إلى عصرنا الراهن والحديث، الذي ليس بالضرورة أفضل من أولئك الأوائل الذين خاضوا مغامرة الوجود الشاقة والشعر.

• من زاوية كونك شاعرًا، مفرطًا في حساسيته، كيف ترى مشهد العالم العربي اليوم؟

أظن أنه حتى في أعتى الكوابيس التي تفترس الكائن ليلًا نهارًا، ولدى ألد أعداء هذه الأمة، ما كان يصل بهم التمني وشطح العداوة والحقد، إلى هذا الدرْك المظلم منذ الانهيار الشامل والانحطاط. لكن ثمة نجمة تضيء في الأفق البعيد. ضوء بالغ البعد والنأي، لكنه سيصل ولو بعد أجيال وسنين.

• تحتفل مجلة نزوى الفصلية، التي ترأس تحريرها، قريبا بإصدار العدد رقم 100 كيف ينظر سيف الرحبي لهذا المشروع الثقافي بعد ربع قرن من إصدار العدد الأول؟

مضى ربع قرن على بداية صدور المجلة وتأسيسها، كانت البدايات إلى حد ما مخاضها صعب وليس سهلا أبدا، لأسباب كثيرة ثقافية وموضوعية وتتعلق أيضا بالقيم الثقافية والفكرية السائدة والتي تقدس السلف الثقافي التقليدي أكثر مما هي تُشرع أبوابها للعصر، للحداثة، للانفتاح، هذه النقطة كانت إلى حد ما صعبة في سياق تأسيس مجلة تطمح إلى أن تكون منفتحة على التيارات وعلى وجهات متعددة في الثقافة والفكر الإنساني عربيًا وعالميا، لكن على ما يبدو ليس عبر جهد فردي ولكن عبر جهد مشترك وربما أيضا الصدفة لعبت دورًا في هذا المجال بأن المجلة استمرت فترة لا بأس بها إلى الآن، مجلات كثيرة أغلقت وهي ما زالت موجودةً، وأتمنى أن تبقى سواء أنا موجود في إطارها أو خارجها، يتولاها أخوة آخرون مواصلة هذه المسيرة التي ليست سهلة ولكن ليست صعبة؛ لأن هذا الخيار الثقافي والجمالي المختلف لا بد أن يحمل عبئه مجموعة معينة أو أفراد معينين خدمة للثقافة العمانية والثقافة العربية والإنسانية بصورة عامة. فأنا إلى حد ما سعيد باستمرار المجلة إلى هذا المفصل الزمني، ربع قرن، وأتمنى طبعا وهي شهادات يقولها الآخرون أن تكون حققت نسبيًا وفي حدود معينة ما كانت تطمح وتصبو إليه. وبقدر ما كان هاجس المجلة أن تندرج في سياق ثقافة عربية طليعية ومختلفة بقدر ما كانت تحمل همَّ الثقافة العمانية والمشهد الثقافي العماني الذي بدأ من ربع قرن، أيضًا، وأكثر يتطور ويُسمع الآخرون في الثقافة العربية والبلدان العربية المختلفة الصوت الثقافي العماني الحديث، وكما نرى الآن ونقرأ تعدد المنابر الثقافية في عمان وتعدد الأصوات الثقافية في الرواية والنقد الأكاديمي، وفي الشعر، وفي مناحي وتجليات إبداعية مختلفة وهذا المشهد أيضا شق طريقة كما المجلة في ظروف ليست سهلة. أتمنى أن تفعل الأطر والمنابر الثقافية الموجودة وهي كثيرة في عُمان في خدمة هذه الثقافة أكثر وأن نترك جانبا النظرة «العلموية» التي تقول إن الثقافة الأدبية والفكرية والفنية والجمالية لا قيمة لها، والقيمة، فقط، للعلم، فبهذه الثنائيات نحن لا نحصل على العلم الحقيقي ولا نحصل على الأدب. دائمًا الطموحات الحضارية والنهضوية في كل الشعوب والأمم التي بلغت هذا المرتقى الحضاري مركبة علمًا وفكرًا وأدبًا وقيمًا ودستورًا ومناحي معرفية وقانونية مختلفة وأن تكون الأمور في سياق يتطلع دائمًا إلى مستقبل أفضل.

• كمشتغل في الصحافة الثقافية لقرابة أربعة عقود هل تعتقد أن عمر المجلات الثقافية ما زال طويلًا أم أن التغيرات التي يشهدها الإعلام قد يطيح بها الواحدة تلو الأخرى كما فعل بالملاحق الثقافية في أغلب الصحف العربية؟

كما هو واضح أن كثيرًا من المجلات التي كانت مهمة وأساسية في الثقافة العربية أغلقت، وفيه مجلات متفرقة الآن سواء في الخليج أو البلدان العربية الأخرى موجودة، لكن أيضا وجودها قلق، ربما هذا الانفجار التكنولوجي ووسائل التواصل الجماهيري وهذا الانقلاب في الذائقة والفكر وفي التعاطي مع العمل الثقافي، ربما يطيح بالكثير منها ويبقي البعض.. بعضها باق منذ زمن طويل في بلدان عربية أساسية في الذاكرة الثقافية العربية ولكن وجودها تُحس أنه وجود فلكلوري، صدرت أم لم تصدر لا تؤثر في شيء. لكن علينا أن نقول أن المجلات منذ ربع قرن تقريبا، وربما قبل ذلك، لا تطمح أن تشكل تيارًا أو مجرى ثقافيًا أو مذهبًا ثقافيًا وفنيًا تكون هي المعبر عنه، ربما هذه المسألة كانت قبلا مثلتها مجلة شعر في لبنان ومثلتها الآداب، ومثلتها مجلات قبل وبعد في مصر وفي المغرب، لكن في الفترة منذ ربع قرن، تقريبا، صارت المجلات أقل طموحا وصارت تحاول تنفتح على المادة الإبداعية والجمالية والفنية في أطوارها المختلفة لكن من غير طموح التعبير عن منبر أو عن تيار له قيم وأفكار واتجاهات فنية وجمالية محددة وإنما تجمع شمل هذه التعددية في الثقافة والفن والذوق.

• هل هذا عائد إلى تقهقر دور المثقف؟ .. البعض كما تعلم نعى دور المثقف في مشاركته إيجاد رؤية جديدة نحو مستقل مجتمعي أفضل واختار العزلة في أفضل الأحوال؟

ربما هذا لعوامل متعددة، هناك تغيرات صارت على صعيد حركة الزمن منذ خمسين سنة إلى الآن، وتغيرات كثيرة في بنيات الثقافة العربية، وفي بنيات الوعي العربي، طبعا أن يكون هناك تيار فكري ثقافي محدد لا يعني أن يكون هناك حزب أيديولوجي، ربما التيار الثقافي الذي كنت أقصده نقيض هذه الأيديولوجيا الحزبية التي كانت في جوهرها سواء في الحزب أو في النظام الحاكم معادية للثقافة ومنحازة للثقافة الدعائية المحددة القيم والمواصفات، بالمعنى الفكري والسياسي تابعة لهذا الحزب أو لهذه الجبهة أو لذلك النظام أو النظام الآخر.. أقصد بالعكس كان هذه «التيارات» ولنضع تيارا بين مزدوجات، هذه التوجهات إن أردت، كانت تطمح إلى نقض الأيديولوجيا باتجاه انفتاح فكري وجمالي أكثر. عزلة المثقف العربي وعدم فاعليته في سياق الأحداث التي تعصف بهذا التاريخ وتهوي به إلى مهاوٍ سحيقة من الظلام والتخلف والتطرف والطائفية البغيضة ساهمت فيه عوامل كثيرة، سواء في عزله أو في تهميشه من قبل المؤسسات المهيمنة والمسيطرة والتي لا تعطي الثقافة دورا جديا مهما، إن لم أقل تحتقرها. لكن هناك أيضا مسؤولية تقع على عاتق المثقفين نفسه، في العالم العربي الكثير منهم لم يقاربوا الأحداث والمآسي التي تعصف بهذا العالم مقاربة فكرية وأخلاقية وضميرية ترقى إلى مستوى الحديث، البعض كان انتهازي، تحركه مصالحه الذاتية ولا يهمه العام والتاريخ والراهن بشيء. وهذه الانتهازية ساعدت في تهميش دور هذا المثقف وساعدت في التنمر عليه وتحقيره.